لا شك في أن الفرنسي بول كلوديل كان كاتباً كاثوليكياً بامتياز، لكنه بالتأكيد لم يكن من أولئك الكتاب المنغلقين على معتقد ما، يمضون حياتهم منافحين عنه إلى درجة الغوص في بعد أيديولوجي يفقدهم القدرة على الإبداع الحقيقي، ومن هنا فلئن كان كلوديل في أعماله الكبرى مرتبطاً بإيمانه معبراً عنه، فإن ذلك الإيمان كان بالنسبة إليه إيماناً كونياً منفتحاً، بل ربما مجرد إيمان أخلاقي، وحسبنا أن نشاهد أو نقرأ له أعمالاً مثل "قسمة الظهيرة" و"حذاء الساتان" وحتى "المدينة"، كي لا نتوقف سوى عند بعض أعماله الأشهر، حتى نكتشف رحابة الدين الذي اعتنقه كلوديل، وجعله الضوء الذي يهديه في حياته وأدبه، وهو الذي كان شاعراً وروائياً بقدر ما كان مسرحياً، وكان دبلوماسياً يعمل لمصلحة بلده الفرنسي، فاعتبر دائماً من أكثر الدبلوماسيين هدوءاً ونزوعاً إلى التصالح مع العالم، تماماً كما تصالح مع نفسه من خلال كتابته على الرغم من الصعوبات التي عرفتها حياته، لا سيما ما يتعلق منها بمأساة أخته كاميل الذي أفقدها رشدها غرامها بالنحات رودان وإحساسها بإخفاق أن تكون مبدعة كبيرة، كي ندرك عمق إيمان بول كلوديل إيماناً حقيقياً، لا إيماناً استعراضياً يوجد لكراهية الآخرين، كما جرت العادة وكما هو سائد في أيامنا هذه.
تفاعل خلاق
المهم هنا أن شأن كلوديل في مجال التفاعل الخلاق مع كتابته وشخصيته بشكل إجمالي لن يكون مختلفاً عن شأن أمثاله من الكتاب الكبار، أي بالتحديد أولئك الذين قد يكون من المستحسن دائماً البحث عن روحهم ودوافع إبداعهم، بل حتى "سر المهنة" لديهم، ليس في الأعمال الكبرى الراسخة التي يمكنها في نهاية الأمر أن تعيش حياتها في ذاتها، وبدلاً من التعبير عن حياة الكاتب وفكره تتجاوز ذلك من بعيد لتعبر عن الكون والوجود. من هنا قد يكون من الأفضل للبحث حقاً عن جوهر أدب كلوديل وروحية ذلك الأدب، وصولاً إلى تنوع من الفهم الأكثر عمقاً للأعمال الكبرى التي أبدعها هذا الكاتب، لا سيما في مجاله الأوسع انتشاراً، أي الكتابة المسرحية، التوجه إلى عمل قد يبدو للوهلة الأولى ثانوياً لكن له من الأهمية ما يجعله قادراً على إيصالنا إلى ما نريد في هذا المجال، ونعني هنا تحديداً مسرحية "الرهينة" التي كتبها كلوديل في مرحلة متوسطة من مساره الأدبي، وتحديداً عام 1911 بعد أن انتهى عمله القنصلي (1993 – 1909) وها هو اليوم يسعى إلى الاستفادة فكرياً من تجاربه الـ "كوزموبوليتية" كما من انفتاحه على التاريخ والآخرين، وذلك قبل أن يعود لاحقاً إلى العمل الدبلوماسي ولكن كسفير هذه المرة.
لكن هذه الحكاية لا تهمنا هنا، وما يهمنا هو أن "الرهينة" كانت الجزء الأول من ثلاثية مسرحية تابع فيها كلوديل ما اعتبره "تاريخ عائلة منذ عهد الإمبراطورية إلى حرب 1870"، مما يمكن اعتباره معادلاً ما لسلسلة "روغون – ماكار" لإميل زولا، وبالتأكيد من موقع فكري مختلف. ولنذكر أن الجزأين الآخرين من الثلاثية يحملان عنواني "الخبز الناشف" و"الأب المهان"، ولقد أمضى كلوديل قرابة 10 سنوات في إنجاز هذه الأجزاء الثلاثة.
وثائقية ما
لو اقتصر الأمر على القيمة اللغوية لكان من الإنصاف اعتبار مسرحية "الرهينة" واحدة من أجمل المسرحيات في تاريخ الأدب الفرنسي، لكن المشكلة هنا أن هذه المسرحية تنتمي إلى نوع تاريخي يكاد يوحي بأنه وثائقي، أي أنه ينقل التاريخ كما يفترض أنه كان في الحقيقة، وهنا بالتحديد فقدت "الرهينة" جزءاً كبيراً من قيمتها، بل حتى من صدقيتها، على العكس من أعمال كثيرة لكاتبها كانت أقل تحديداً وانضواء في الزمان والمكان، فأعطيت الأفضلية فيها إلى لغة شاعرية ميزت دائماً كتابة ذلك الكاتب الكاثوليكي الفرنسي الكبير الذي يبقى خارج التصنيف. وكلوديل كتب "الرهينة" على أي حال في وقت كان قد قرر الانصراف إلى كتابة المسرحية التاريخية بعد النجاح الذي حققته مسرحيته الكبرى "اقتسام الظهيرة" (1906)، وهكذا بدأ الانكباب على ما سوف يكون حكاية عائلية امتدت كتابتها معه طوال نحو عقد من السنين وتألفت من ثلاثية ليس من الضرورة التعامل مع أجزائها مجتمعة، وما يهمنا هنا من هذه الثلاثية هو جزؤها الأول الذي حاول كلوديل أن يصوره مبنياً على حدث تاريخي حقيقي، قد يبدو غير قابل للتصديق في نهاية المطاف.
الحدث هو تهريب البابا بيوس السابع من أسر نابوليون له على يد الفارس المقدام جورج كوفونتين، وسعي هذا الأخير إلى إلجاء البابا المهرب إلى قصر ابنة عمه سيني في الريف، ومع هذا ليس جورج بطل المسرحية بل إن سيني هي البطلة، أما جورج فهو غرامها منذ الطفولة والذي بعد عهد الإرهاب الثوري غادر المنطقة كي يناضل ضد نابوليون من حول الملك لويس الـ 18.
صفقة لا يمكن رفضها
وفي الفصل الأول من المسرحية نكون مع سيني جالسة تستريح بعد جهود هائلة بذلتها لجمع ثروتها ومكانتها العائلية في انتظار ظروف أفضل، وربما عودة جورج أيضاً، وهو يعود بالفعل ولكن معه البابا الطيب الهادئ كي يخبئه في القصر. ويطالعنا هنا البابا محايداً سئماً غير مهتم بالسياسة، فيما تقسم سيني يمين الإخلاص لجورج الذي يتركها والبابا في حماها كي يذهب لمتابعة نضاله.
في الفصل الثاني يدخل على الأحداث عنصر جديد متمثل في المدعو توسان تورولير الذي كان خادماً في المكان، لكنه الآن وبعدما جرب اللصوصية بات جنرالاً في جيش الثورة يعمل محافظاً في خدمة الإمبراطور، ويريد الآن زوجة من أعيان القوم كي تؤكد مكانته الاجتماعية الجديدة ليجد في سيدة القصر هنا ضالته، صحيح أنها لا ترضى به، لكن الرجل كان قد عرف من عيونه المنتشرة في المكان بأمر اختباء البابا، ومن ثم يتحدث عن صفقة، فإذا أرادت سيني إنقاذ البابا فعليها أن ترضخ وترضى به زوجاً، ولتعزير موقفه دينياً يستدعي كاهن المنطقة الذي يتولى إقناع الفتاة بالتضحية بالذات في سبيل الصالح العام، وتقتنع هذه لمجرد رغبتها في إنقاذ الكنيسة الكاثوليكية.
أما في الفصل الثالث فتكون الأمور قد تبدلت، سيني أنجبت طفلاً لتوسان الذي بات اليوم محافظاً لمنطقة الـ "سين"، لكن هذا الأخير مجبر اليوم على مفاوضة الملك العائد إلى عرشه كي يبقى في وظيفته، أما مفاوضه باسم الملك فليس سوى جورج نفسه الذي يعود ليكتشف حقيقة ما يحدث ويقرر تخليص ابنة عمه من "مغتصبها" هذا، لكنه يفاجأ بها تقع من شاهق بفعل طلقة مسدس وتموت بين يديه حتى قبل أن تستقبل الكاهن الذي كان من شأنه أن يعفيها من لزوم مسامحة من أساء إليها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أعمال لتسهيل الفهم
لقد اُنتقدت "الرهينة" كثيراً ولكن من الناحية التاريخية فقط، انطلاقاً من تساؤل عما إذا كان من حق عمل إبداعي أن يعالج التاريخ على هواه، فتقدم هذه المسرحية مصير البابا، زعيم الكنيسة الكاثوليكية في العالم، معلقاً بمصير امرأة وحكايتها الخاصة، ومع هذا لم يفت النقاد أن يثنوا على ذلك "التمفصل" المبدع الذي أقامه كلوديل بين الفن والتاريخ، غير أن ما لفت أنظار النقاد ومؤرخي أدب كلوديل أكثر كان ذلك التمكن من جعل مسرحية "بسيطة الأحداث" وربما "سطحية الشخصيات" كهذه المسرحية معبرة عن مجمل المواضيع التي كان كلوديل (1868 – 1955) لا يكف عن استعادتها في أعماله، لا سيما منها زرعه لقيم المسيحية الحقيقية من دون أن يبدو عليه أنه يفعل ذلك في أعمال تطفو فيها الشخصيات والعلاقات والظروف المتقاطعة، بذكاء ودهاء شديدين على العمل ككل، فإذا به هنا كما في غير "الرهينة" من مسرحيات تكاد تكون "حدثية" لا أكثر، يكشف عن العلاقة الحقيقية بين الفكر والإبداع لديه، ولعل هذا ما أضاف قيمة حقيقية لأدب كلوديل المسرحي، إذ تمكنت تلك الأعمال البسيطة من أن تسهل غوص قرائه ومتفرجي مسرحه في أبعاد كانوا مدركين وجودها بالفعل، إنما ينقصهم عنصر يسمح له الكاتب بأن يقود خطاهم، وهكذا كانت الحال بالفعل مع "الرهينة" وأمثالها.