Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نهلة كرم تفتش عن سر دخول النساء في علاقات سامة

"خدعة الفلامنجو" رواية تبحر في أعماق مظلمة والقارئ يسهم في اختيار الشخوص

لوحة للرسام عامر العبيدي (صفحة الرسام - فيسبوك)

رجلان وبينهما امرأة تحاول تجاوز أحدهما عبر الآخر. هذا ما بدا في المربع المركزي، من اللوحة السردية للكاتبة نهلة كرم، التي جسدتها عبر روايتها "خدعة الفلامنجو" (الدار المصرية اللبنانية). لكن مسافة قصيرة من التأمل، كانت كافية لتكشف عن تفاصيل؛ كشفت بدورها عن واقع اجتماعي مأزوم، ونفس إنسانية معطوبة، تحمل ميراثاً من القهر وتئن تحت وطأة العُرْف والموروث.

عبر العتبة الأولى، للنص مررت الكاتبة إحدى رؤاها، باستدعاء الفلامنجو؛ الطائر الذي يمارس خدعته، بأن يقف في مياه النهر على رجل واحدة، ويثني الأخرى، حتى لا تبتل، وحتى يدخر شعوره بالدفء، ويحافظ على حرارته. وهو بهذا السلوك يحتفظ ببعضه ويمنح للنهر بعضه الآخر، في حين اعتادت بطلة النص أن تمنح نفسها كاملة، لكل حب عاشته. فكان مصيرها البرد والغرق مرة بعد مرة.

أما العتبة الثانية للنص، فكانت استهلالاً بمقولة الطبيب والفيلسوف السويسري، كارل يونغ: "معرفة جانبك المظلم أفضل طريقة للتعامل مع الجوانب المظلمة للآخرين". مهدت الكاتبة عبرها، لما انتهجته طوال رحلتها السردية، من مساءلة الذات، واستجلاء آثامها وأعطابها، من أجل الوصول إلى حقيقة الآخر واكتشاف ما يختبئ خلف الأقنعة من شرور.

تحت وطأة الخوف

وبعد عتبتيها الأولى والثانية، عمدت كرم للولوج إلى قلب الحدث مباشرة. واختارت الحوار كلبنة أولى للبناء، من أجل تحقيق غايتها في الصدقية، والإيهام بآنية الحدوث. وعززت هذه الصدقية باستخدامها أسلوب السرد الذاتي، إذ منحت بطلة النص المبهمة صوت الراوي، وجهّلتها لتتجاوز عبر تجهيلها فكرة الفردية أو الاستثناء، كإشارة لاستدعائها - عبر هذه الشخصية- وجوه نساء كثيرات، عشن حكايات مشابهة وتشاركن علاقات سامة دخلنها تحت وطأة الخوف من الوحدة والرغبة في الأمومة.

انعطف النص من الحوار، إلى تقنية الرسائل، التي وجهتها البطلة لصديقتها "سلمى". فاتسعت بذلك مساحة البوح. ودفعت الكاتبة عبرها بخبايا النفس والجوانب المظلمة فيها. ومنحتها فرصة مغرية لتطفو على السطح، وتعلن عن نفسها، خلال رحلة ممتدة من المقارنة "التماثل والتقابل" بين النفس الإنسانية وغيرها من الكائنات، التي تتشارك معها الحياة. وكانت هذه الحيلة السردية نافذة الكاتبة، التي أطلّ منها خطابها المعرفي، والذي جدلته في انسيابية مع نسيجها السردي. فبات جزءاً أصيلاً منه غير زائد عليه، بل جاءت المعرفة في خدمة السرد. فكانت خدعة الضفدع الذهبي السام، تفسيراً لمسحة من الغرور كست ملامح البطلة.

كانت خدعة طائر الوقواق، معادلاً لتطفل "سامر" على حياتها. وكان الظلم الذي تعرضت له "اللبؤة" حتى اكتسب اسمها دلالات رديئة، معادلاً للظلم الذي تتعرض له النساء. كذلك تدفق العديد من الحمولات المعرفية الأخرى، عبر استدعاء الكاتبة سمكة الإيزوبود، سمكة القراض السامة، سمكة الريمورا، الذبابة الحدباء، النحل، قبيلة الهمر في إثيوبيا. وحقق استدعاء هذه الحيوانات والتماثل بينها وبين الشخوص في بعض الخصائص الجيدة والرديئة؛ الغاية نفسها في الكشف عن دواخل النفس، هشاشتها وأعطابها.

رحلة عكسية

اعتمدت الكاتبة بناء دائرياً، بدأت أحداثه في لحظة راهنة، ثم ارتدت عبر رحلة زمنية عكسية، عائدة نحو الخلف، لاستعادة الماضي عبر تقنيات التذكر. ولعب الارتداد دوراً وظيفياً في استكناه النفس واستجلاء أسرارها، من أجل تفسير ما حلَّ بها من عطب. لذا تجاوز الاسترجاع زمن بداية الحب، حتى بلغ مرحلة طفولة البطلة، ليطأ السرد مناطق قصيّة مختزنة في اللاوعي، بهدف تبين الحقائق، وإزالة الغموض، والكشف عن أسباب دخول امرأة علاقة سامة وتعرية عُرْف فاسد، يفسد وعيها منذ طفولتها، حين يبرر الصفع بالحب، والصمت وزعزعة الثقة بقوامة الخلق وحسن التربية، بينما يعلي من الذكَر ويمنحه أفضلية غير مستحقة، ومعها كل الحقوق المنزوعة من الأنثى... "أراقب أخي وهو يتحدث، يقول كلاماً عادياً، لكن حين يخرج من فمي مثله يصبح ساذجاً، ويجب ألّا أكمله، كنت أشعر طوال عمري أن أخي محبوب أكثر مني، لأن والديّ لا يوقفانه عن الحديث بنظرة غاضبة أو كلام موجع، مثلما كانا يفعلان معي" (ص25).

ودعمت الكاتبة رؤاها، حول ما يحل على النفس من أعطاب، نتيجة التعرض للعنف والإيذاء، عبر استدعاء ميراث كتابي لآخرين. فأوردت ما ذكرته كلاريسا نيكولا في كتابها "نساء يركضن مع الذئاب"، عن التطبع مع العنف، أو تعلم العجز، بسبب التكيف مع القسوة والانتهاكات. وهذا ما يبرر مازوخية البطلة، التي دفعتها للتعاطي مع سادية "سامر"، ومكَّنته من إيذائها.

ظلال نفسية

لم تقف كرم عند حدود الرصد، وسبر أغوار النفس، واستجلاء أسرارها. لكنها قدمت أيضاً وصفةً ضمنية وغير مباشرة للعلاج، خلصت لها البطلة، بعد معاناة شديدة القسوة. فالتوقف عن اعتبار الآخر عملاقاً، يعني توقفه عن أن يراك قزماً. وأن تمنح بعضك وتحتفظ بالآخر؛ يعني حماية أمانك الشخصي، واستبقاء خط العودة في مأمن، والرجوع سالماً إذا ما أردت الرجوع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اتسقت رغبة الكاتبة في اختراق عوالم النفس المظلمة، مع ما لجأت إليه من حيل وتقنيات سردية، كاستخدامها للحلم الذي جسد حجم انطفاء بطلة النص الداخلي، حين رأت نفسها نجفة فرغت من مصابيحها، إلا من مصباح واحد، بينما هي مستسلمة أمام هذا الانطفاء. تندهش لأن من تعرفهم لم ينتبهوا لحاجتها إلى مصابيح جديدة. لتمرر الكاتبة علاجاً ضمنياً آخر، ورؤية مفادها أن تجاوز الانطفاء لا يكون إلا من الداخل. وأن انتظار حلول من الخارج، دائماً لا يكون مجدياً. كذلك استخدمت المونولوغ الداخلي. وأبرزت بعض الحيل النفسية، التي لجأت إليها الشخوص، كالإسقاط والإزاحة والشعور المرضي بالذنب. لتعزز عبر ذلك كله؛ الظلال النفسية للسرد.

التواصل الاجتماعي

لعبت وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما "فيسبوك" دوراً كبيراً في تحريك الأحداث. وحظيت بحضور واسع داخل النسيج، يعادل حضورها في الواقع الحقيقي. ويبرز دورها في حياة الناس، وابتلاعها لهم، إذ باتت مرجعهم في بناء معتقداتهم ومواقفهم. وفي المقابل وشت الأحداث؛ بقدر ما تحتويه هذه المواقع من زيف وتضليل. فالسعادة والابتسامات في الصور المتداولة عليها، غالباً سعادة زائفة. وما ينقله الناس خلالها من آراء؛ لا يعبر بالضرورة عن سلوكهم وأفعالهم. والعلاقات التي تنمو في عالم زائف، هي في الأغلب علاقات سامة، وزائفة. وهذا ما جنته البطلة في علاقتين نمتا في عالم افتراضي، ليس سوى جزء مخادع من العالم الحقيقي. على رغم ما تخلل النسيج من معارف، وعلى رغم العمق الذي بلغته الكاتبة في تفنيد تعقيدات النفس والعلاقات الإنسانية، فإن لغتها اتسمت بالسلاسة والعذوبة، وأيضاً بالمشهدية، التي تساعد على تعزيز خيال القارئ، وتضيف المتعة البصرية للأحداث. لكنها على الجانب الآخر وقعت في فخ شيطنة شخصيتها المحورية "سامر"، ودفعت بقبحها كاملاً، من دون تمرير أي بصيص من الضوء، يبرر بعض تعاطف القارئ معه. أظهرته شحيحاً، ضعيفاً، أنانياً، فظاً. وهو ما يتناقض مع الطبيعة الإنسانية للشخوص، التي لا ينبغي أن تميل كل الميل إلى الشر المطلق، أو إلى الخير الخالص... "كان يعرف إلى أي حد ستتوافق ساديته مع خلطي بين العذاب والحب، مثلما يعرف الأسد الحد الذي ستتحمل اللبؤة به الألم، واللحظة التي ستطلب فيها المزيد من أجل الصغار القادمين" (ص21).

ولعل النهاية التي اختارتها الكاتبة؛ نهاية مريحة للبطلة وللمتلقي في الوقت نفسه. وربما كانت الأحداث تستوجب نهاية مفتوحة، تكون مدخلاً لمشاركة القارئ في اختيار مصير الشخوص، الذي يحتمل أوجهاً عدة. لكنها في المجمل قدمت عملاً يتجاوز حدود الحبكة المتقنة والسرد الممتع، ليصبح في الوقت نفسه دليلاً نفسياً، لمن أراد التعافي من علاقة سامة وتجربة مؤذية. 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة