Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"دبلوماسية بينغ بونغ" أوصلت نيكسون إلى الصين... فهل ندم الأميركيون؟

النظام الليبرالي لن يدوم لكن الخوف من العدو الجديد قد يبقيه على قيد الحياة

في 21 فبراير (شباط) عام 1972، غيرت زيارة ريتشارد نيكسون كأول رئيس أميركي إلى جمهورية الصين الشعبية، العلاقات الدولية وغيرت الصين نفسها التي يصورها كثيرون في واشنطن بعد نصف قرن من هذه الزيارة، على أنها الخصم والتهديد الأكبر للولايات المتحدة الآن وفي المستقبل، فهل ندم الأميركيون على مساعداتهم الصين سياسياً واقتصادياً في ظل الخوف من تمدد نفوذها العالمي، أم أن التوترات الجارية الآن في أوكرانيا ستعيد حسابات الأميركيين وتؤكد من جديد أن استراتيجية نيكسون بالتعاون مع بكين ضد موسكو كانت صائبة؟

صدمة عالمية

قبل خمسين عاماً، عاد نيكسون من زيارة مفاجئة للصين صدمت العالم وأثارت قلق القادة في موسكو الذين كانوا ينتظرون زيارة نيكسون بعد بضعة أشهر، فقد تساءل القادة السوفيات عما إذا كانوا يشهدون ولادة تحالف الولايات المتحدة والصين الذي كانوا يخشونه منذ انهيار التحالف الصيني السوفياتي في أوائل الستينيات.

غيرت زيارة نيكسون التي استغرقت ثمانية أيام العالم وغيرت بشكل كبير ميزان القوى بين الولايات المتحدة والصين والاتحاد السوفياتي، فقد ظلت العلاقات الدبلوماسية مجمدة بين واشنطن وبكين الشيوعية على مدى أكثر من 20 عاماً، واكتسب نيكسون نفسه شهرة سياسية مبكرة باعتباره من الصقور المناهضين للشيوعية، ولكن مع اقتراب فترة الستينيات المضطربة من نهايتها، كانت إدارة نيكسون تواجه العديد من التحديات الرئيسة مثل الحرب الكارثية في فيتنام، والصراع الاجتماعي في الداخل، ومفاوضات الأسلحة النووية المتوقفة مع السوفيات.

وعلى الرغم من أن نيكسون صور نفسه باعتباره متشدداً شعبوياً، فإنه كان قارئاً جيداً للتاريخ واستراتيجياً ذكياً، حيث توصل ومستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر إلى الاعتقاد بأنه من خلال إذابة العلاقات مع الصينيين وإدخالهم في "الأمم المتحدة"، يمكن لأميركا أن تكسب حليفاً جديداً قوياً في مفاوضاتها مع كل من الفيتناميين الشماليين والسوفيات.

عدو عدوي صديقي

ساعد على ثقة نيكسون - كيسنجر في نجاح فكرتهما، أن الصينيين كانت لديهم أسبابهم الاستراتيجية الخاصة لإعادة فتح الحوار مع الولايات المتحدة، فعلى الرغم من أيديولوجيتهم الشيوعية المشتركة مع الاتحاد السوفياتي، كان هناك كثير من عدم الثقة بين موسكو وبكين، فقد شعرت قيادة جمهورية الصين الشعبية بالقلق من أن جيرانهم السوفيات المكدسين بالأسلحة النووية والمتطورة، لديهم خطط لتوسيع أراضيهم إلى آسيا، خصوصاً بعدما شهدت أواخر الستينيات من القرن الماضي، مناوشات حدودية متكررة بين السوفيات والصينيين أوشكت على الدخول في حرب شاملة.

يشير إيفان توماس مؤلف كتاب "أن تكون نيكسون" إلى أن فكرة عدو عدوي صديقي التي تبناها نيكسون كانت فكرة صائبة، فبعد العمل من خلال قنوات عبر باكستان ورومانيا لتقديم مبادرات مع الصينيين، جاء اعتراف علني نادر بدفء العلاقة، حيث دعت جمهورية الصين الشعبية فريق كرة الطاولة الأميركي إلى سلسلة من الألعاب في بكين عام 1971، وهو تبادل ثقافي أصبح يعرف باسم "دبلوماسية بينغ بونغ" أو "دبلوماسية كرة الطاولة".

استراتيجية ناجحة

كان هدف نيكسون من زيارته، إظهار حسن النية والتعاون، وإعلام العالم أن الولايات المتحدة اعترفت بقوة عظمى ثالثة على المسرح العالمي، يمكن أن تكون حليفاً اقتصادياً مهماً وتشكل في ذات الوقت إحباطاً استراتيجياً للسوفيات.

ومثلت زيارة نيكسون التاريخية إلى الصين، ذروة نجاحات فترة رئاسته التي تلطخت فيما بعد بفضيحة ووترغيت واستقالته عام 1974، لكن الزيارة ساعدت في تحقيق الهدف السياسي الأكبر لنيكسون المتمثل في إعادة تنظيم ميزان القوى على المسرح العالمي، فقد أثمرت هذه الاستراتيجية نجاحاً مبكراً، حيث غير السوفيات، الذين رفضوا في السابق دعوات للحد من ترسانتهم النووية، نغمتهم وقبلوا بعد شهرين فقط من عودة نيكسون من بكين التفاوض الذي انتهى بزيارة نيكسون إلى موسكو، حيث وقع مع ليونيد بريجنيف معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية (سولت) ووضعا خططاً لرحلة فضائية مشتركة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في عام 1975.

أخطار اليوم أكبر

لكن بعد 50 عاماً من خطوة نيكسون المفاجئة التي غيرت العالم، يجد الأميركيون أنفسهم الآن في موضع تساؤل محير، ففي الوقت الذي تنزعج فيه واشنطن ووسائل الإعلام بشأن السياسات الصادرة عن موسكو وبخاصة السلوك التصعيدي المستمر حول أوكرانيا وتحدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لحلف الناتو الذي تقوده الولايات المتحدة وإصراره على إعادة ترتيب أوراق الأمن في أوروبا، يواجه صانعو السياسة في واشنطن نفس الاختيار بين روسيا والصين، على الرغم من أن هذه المرة قد تكون المخاطر أكبر.

ويقول جيريمي فريدمان الأستاذ في جامعة هارفارد الأميركية، إنه رغم التقارب الأخير بين موسكو وبكين فإن تاريخ التوترات بين روسيا والصين يوحي بخيارين، إما التوافق والتصالح بين الولايات المتحدة وروسيا لتحقيق التوازن ضد القوة الأكبر وهي الصين، أو انضمام أميركا إلى الصين للدفاع عن نظام دولي قائم على القواعد ضد أقوى خصم لها وهي روسيا، وذلك على اعتبار أنه لم يعد بوسع واشنطن مواجهة روسيا والصين في نفس الوقت إذا كانت تتطلع إلى حماية السيادة الإقليمية لحلفائها، وتعزيز الحريات وتوفير إطار للتجارة الحرة،

ويستند فريدمان في ذلك التحليل إلى أن مواجهة موسكو وبكين تتطلب تحركاً أميركياً حاسماً على صعيد جبهات عدة، من دعم عسكري قوي لحكومة كييف، وتعزيز عسكري جذري لقوات الناتو في جميع أنحاء أوروبا الشرقية، وموقف أكثر تصادمية في بحر الصين الجنوبي والشرقي، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة الضغط على الجيش الأميركي الذي يواجه بالفعل نقصاً في الأفراد، كما أنه سيمثل عبئاً لم يعد يرغب الشعب الأميركي في تحمله على ما يبدو.

ومع حقيقة أن الولايات المتحدة لم تعد مستعدة أو قادرة على لعب الدور القيادي الذي كانت تلعبه ذات مرة في الشؤون العالمية، تبدو هناك حاجة للتوصل إلى حل وسط مع واحدة منهما على الأقل، غير أن الآراء تختلف بين الخبراء والمحللين.

هل الصداقة ممكنة مع روسيا؟

إن الجدل حول الاصطفاف الأميركي مع روسيا يعود إلى فكرة أن الصين تلحق بالفعل أضراراً بالمصالح الأميركية حول العالم أكثر مما تفعله روسيا، فهي تضر بالمصالح الاقتصادية الأميركية من خلال الممارسات التجارية غير العادلة، وتعمل على تقويض التحالفات الأميركية في آسيا وأفريقيا من خلال تقديم المساعدة والاستثمار من دون شروط، ونظراً إلى أن الصين تزداد قوة وحزماً، فإن جهودها لإخراج الولايات المتحدة من شرق آسيا، إلى جانب تحدياتها المتزايدة للمصالح الأميركية في جميع أنحاء العالم، يتوقع أن تشكل تحدياً شاملاً لوضع الولايات المتحدة الحالي في العالم.

في المقابل، فإن تحديات روسيا للمصالح الأميركية ليست بنفس قدر التحديات الصينية، إذ ليس لدى روسيا القدرة على تحويل أوروبا الشرقية أو الشرق الأوسط إلى مجال نفوذها الخاص على الرغم من وجودها العسكري في سوريا وحشودها العسكرية على حدود أوكرانيا، بل إنها تخسر المنافسة على النفوذ الاقتصادي في آسيا الوسطى، والتي كانت وقت الاتحاد السوفياتي حديقتها الخلفية، لصالح الصين.

ويرى البعض أن الرئيس بوتين قد لا يكون ديكتاتوراً شريراً عازماً على إلحاق أكبر قدر ممكن من الضرر بالولايات المتحدة ودول أوروبا كما يصوره الإعلام الغربي، بل هو رجل براغماتي يتمتع برؤية واقعية لمكانة روسيا في العالم، وكان يأمل منذ البداية التعاون مع القادة الغربيين، ولكنه يشعر بالمرارة لفقدان نفوذ روسيا في قلب أوروبا، وبالتالي فإن روسيا في عهد بوتين لن تمثل تهديداً مميتاً للنظام العالمي، بل تمثل فرصة ضائعة، ربما لا يزال من الممكن إنقاذها.

هل تعيد واشنطن اختيار الصين؟

المسار البديل الذي يمكن أن تتخذه واشنطن هو تكرار ما فعله نيكسون قبل 50 سنة، أي التعاون مع الصين ضد روسيا، وهو نهج قد يكون منطقياً إذا كان بوتين بدأ براغماتياً، لكن ضمن مسار مؤقت، بالنظر إلى خلفيته في الاستخبارات السوفياتية والنزعة القومية التي تسيطر عليه، وبخاصة بعدما شاهد مدى ضعف خصومه ومدى الخراب الذي يمكن أن يحدثه لهم، وقبل خمسة عشر عاماً، ربما لم يتخيل أحد أنه قادر على تحطيم الناتو أو الاتحاد الأوروبي، لكن يبدو الآن بحسب بعض التحليلات في واشنطن، أن ذلك أصبح في متناول يد بوتين، ولن يثنيه شيء عن هذه الفرصة لتحقيق أعز أحلام أسلافه السوفيات.

وبالنسبة للصين، فإن الفوضى هي بالضبط عكس ما يريده القادة في بكين، لأن عودة الصين إلى المراكز الأولى في العالم تعتمد على عالم يسوده السلام والتجارة، عالم تدعمه القوة العسكرية الأميركية في نهاية المطاف، لأن الصين رغم تحديها الولايات المتحدة، فإنها تعلم أنها لا تستطيع ملء الدور الذي تؤديه الولايات المتحدة حالياً، وأن عليها أن تدير عملية الانتقال بطريقة تتجنب الفوضى.

الخيار أميركي

وفي حين أن خيار الحليف الأفضل للولايات المتحدة هو في النهاية خيار أميركي، إلا أن كلاً من الخيارين لن يدفع فقط إلى تنازلات صعبة أخلاقياً، بل إلى الاضطرار إلى اتخاذ قرار يعني ضمناً أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على الدفاع عن النظام العالمي الذي رعته منذ فترة طويلة. وهو أمر يصعب قبوله من الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء.

وعلاوة على ذلك، يؤدي طرح هذا الاختيار إلى أسئلة أكثر صعوبة، إذ كيف يمكن إقناع روسيا بالوقوف إلى جانب الولايات المتحدة ضد الصين أو الصين ضد روسيا، وما الذي يجب أن تقدمه الولايات المتحدة في هذه الحالة لكل من الجانبين، وماذا يعني هذا لحلفاء الولايات المتحدة، بخاصة في أوروبا وشرق آسيا؟

ويبدو أن هذا السؤال أصبح غير قابل للحل، بخاصة وأن تاريخ النظام الدولي لا يوفر سوى أسباب قليلة للثقة في الحلول التعاونية بين خصوم محتملين، كما أن التعاون بين أميركا والصين الذي صمم في الأصل لهزيمة الشيوعية السوفياتية، اختفى قبل ثلاثة عقود، ولم تُطرح بدائل مقترحة للنظام الحالي، لأنه لم يكن هناك تهديد مخيف أو واضح بما يكفي لفرض تعاون مستمر بين اللاعبين الرئيسَين، الأمر الذي جعل المنافسة مع الصين تشكل نظاماً دولياً جديداً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نظرية الاستبعاد

وبالعودة إلى التاريخ، يرى منظر العلاقات الدولية كايل لاسكريتس أن الأنظمة الرئيسة خلال القرون الأربعة الماضية كانت قائمة على الاستبعاد، وصممتها القوى المهيمنة لنبذ الخصوم والتغلب عليهم، عبر احتوائهم من دون الحرب، فقد شكل الخوف من العدو، وليس الإيمان بالأصدقاء، حجر الأساس لنظام كل عصر، وطور الأعضاء مجموعة مشتركة من المعايير من خلال تعريف أنفسهم في مواجهة ذلك العدو.

وعلى مدى عقود، عرفت الولايات المتحدة وحلفاؤها من هو العدو، ولكن بعد ذلك انهار الاتحاد السوفياتي، وفي بيئة ما بعد الحرب الباردة، لجأ الحلفاء الغربيون إلى مصادر النجاح السابقة، وبدلاً من بناء نظام جديد، ضاعفوا من قوة النظام الحالي بعدما تفكك عدوهم، لكن مهمتهم، بحسب اعتقادهم، بقيت تعمل من أجل توسيع مجتمع ديمقراطيات السوق الحرة، وتوسيع النظام الليبرالي الغربي إلى نظام عالمي، وضاعفت من أعضاء الناتو وتحولت المجموعة الأوروبية إلى الاتحاد الأوروبي، وتحولت الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفات الجمركية (الغات) إلى منظمة التجارة العالمية، مما أطلق العنان لفترة غير مسبوقة من العولمة المفرطة.

لكن النظام الليبرالي، لا يمكن أن يدوم، بحسبما يقول مايكل بيكلي أستاذ مساعد العلوم السياسية في جامعة تافت الأميركية، لأن النظام الليبرالي مثل كل الأنظمة الدولية، يحتوي على بذور فنائه، ولهذا يتعين على بناة النظام استبعاد الدول المعادية، وحظر السلوكيات غير المتعاونة، ولهذا فإن سلوك الصين المتصاعد حول العالم، والذي تعتبره العديد من الدول المجاورة عدائياً بقوة ووضوح، يجعلها عدواً جاهزاً.

ربما لم يندم الأميركيون على زيارة نيكسون ومساعدة التنين الصيني على ما وصل إليه، لأن الهدف تحقق بتفكك الاتحاد السوفياتي، لكن الظروف تغيرت الآن، وأصبح الغرب في حاجة لمواجهة التحديات الصينية في شرق آسيا وحول العالم، والأرجح أن ذلك سيكون من دون الحاجة إلى انضمام روسيا إلى التحالف الغربي.

المزيد من تقارير