Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خريطة تاريخية وجغرافية وسكانية متداخلة تعقد النزاع في أوكرانيا

الحلول والتعقيدات التي خلفتها "مجموعة نورماندي" و"اتفاقيات مينسك" في جمهوريتي "دونيتسك ولوغانسك" غير المعترف بهما

منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية في فبراير (شباط) 2014 والحديث لا ينقطع حول "تمرد" عدد من مقاطعات جنوب شرقي أوكرانيا، وما أعقب ذلك من تحركات بلغت حد إعلان اثنتين من مقاطعات ما يسمى منطقة الدونباس عن انفصالهما من جانب واحد عن أوكرانيا، وقيام ما يسمى جمهوريتا "دونيتسك" و"لوغانسك" الشعبيتان، أو ما يسمى نوفو روسيا "روسيا الجديدة". وكان ذلك بداية لمرحلة نوعية جديدة في الصراع بين سكان هذين الإقليمين، والسلطات الأوكرانية، بلغت حد الاشتباكات المسلحة وما أعقبها من تدخل فصائل مسلحة من روسيا إلى جانب سكان الإقليمين من الأغلبية السكانية الروسية. وما إن اتسع نطاق الاشتباكات المسلحة وتجاوزت المشكلة حدود المنطقتين حتى ظهر ما يسمى "مجموعة نورماندي" وما أعقبها من اجتماعات ولقاءات أسفر بعضها عن تشكيلات فرعية انخرطت في محاولات البحث عن السبل المناسبة لنزع فتيل الاشتباكات، والتوصل إلى ما صار يسمى "اتفاقيات مينسك" التي جرى توقيعها في عاصمة بيلاروس تحت رعاية رؤساء بلدان "مجموعة نورماندي" التي تضم كلاً من أوكرانيا وروسيا وألمانيا وفرنسا.  

بداية "برتقالية"

فما "اتفاقيات مينسك"، وعلام نصت هذه الاتفاقيات، وما الأطراف التي وقعت عليها، والأسباب التي جعلتها منذ توقيعها في فبراير 2015 حتى اليوم، قضية خلافية ظل الجدل يحتدم حولها على مدى سنوات طوال؟

البداية تستمد جذورها مما أسفرت عنه ما يسمى "الثورة البرتقالية الأولى" التي عصفت بأوكرانيا في عام 2004 من تطورات ومتغيرات، في أعقاب عدم اعتراف القوى الليبرالية الديمقراطية المعارضة في أوكرانيا بنتائج الانتخابات الرئاسية التي خاضها فيكتور يانوكوفيتش ممثل القوى المحافظة، ومنافسه فيكتور يوشينكو عن قوى المعارضة الأوكرانية اليمينية. وقد بلغت الأوضاع في أوكرانيا آنذاك حداً من التوتر والاضطرابات كان في صدارة أسباب تصاعد تدخل الدوائر الغربية وتكثيفها لنشاط منظمات المجتمع المدني خصوصاً من جانب الولايات المتحدة التي اعترف رئيسها الأسبق باراك أوباما مع نهاية سنوات ولايته الأولى بأن بلاده أنفقت ما يزيد على المليار دولار لتمويل ودعم "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا. وقد عادت الأوضاع إلى المزيد من التوتر والمواجهة والاضطرابات بعد عودة يانوكوفيتش إلى موقعه في سدة الرئاسة في عام 2010، وما شهدته البلاد من مواجهات دموية أسفرت عن الإطاحة به في انقلاب "غير معلن" تحت رعاية غربية في فبراير 2014.

وجاءت السلطات الجديدة لتعلن عن انتخابات رئاسية أسفرت عن عودة ممثلي "الثورة البرتقالية" إلى السلطة في شخص بيتر بوروشينكو، بكل ما أعلنه من توجهات تقول بالقطيعة مع روسيا والتوجه غرباً نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وهو ما تلقفته الدوائر الغربية بحماس بالغ. وقد بلغ ذلك الحماس حد إعلان السلطات الأوكرانية الجديدة، الحرب على كل الإرث السوفياتي السابق الذي طالما ربط بين الشقيقتين السلافيتين روسيا وأوكرانيا لما يزيد على ثلاثمئة عام، بما في ذلك إعلان الحرب على اللغة الروسية وحظر استخدامها في كل المؤسسات الرسمية وإغلاق المدارس وحظر الصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية الناطقة بالروسية. وإذا كان ذلك لقي رواجاً وقبولاً في المناطق الغربية من أوكرانيا المعروفة بميولها القومية المتطرفة، فإنه وجد معارضة شديدة في جنوب شرقي البلاد في منطقة الدونباس المعروفة بما تملكه من احتياطيات هائلة من الفحم، وما تزخر به من قوى عمالية كثيرة العدد بوصفها أحد أهم مراكز الصناعات الثقيلة منذ سنوات الاتحاد السوفياتي السابق.

ومن المعروف أيضاً أن منطقة الدونباس في جنوب شرقي أوكرانيا تقع على المناطق المتاخمة للحدود مع روسيا، وهي التي تقول "الأدبيات الروسية"، إنها كانت أراضي روسية جرى ضمها إلى أوكرانيا إدارياً في عام 1922 بإيعاز من فلاديمير لينين زعيم ثورة أكتوبر الاشتراكية. وبغض النظر عن مدى صحة هذه التقديرات، وما تؤكده السلطات الأوكرانية من معلومات تقف على طرفي نقيض مما تنشره الأدبيات الروسية، يقول تاريخ الأمس القريب بانتفاضة الغالبية العظمى من سكان هذه المناطق ضد السلطات الأوكرانية الجديدة، احتجاجاً على قراراتها وتوجهاتها، فيما أعلنت عن استفتاء على الانفصال عن أوكرانيا على غرار ما جرى في شبه جزيرة القرم المجاورة. بل وأعلنت بموجب نتائج هذا الاستفتاء عن قيام جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك اللتين كشفتا عن رغبة "جارفة" في الانضمام إلى روسيا بحسبما سبق وفعلها سكان شبه جزيرة القرم، استناداً إلى ما يربطها من تاريخ مشترك مع روسيا، تدعمه وحدة اللغة والثقافة والتاريخ والاقتصاد.

التركيبة السكانية

وبحسب موسوعة "ويكيبيديا" فإن ممثلي القومية الأوكرانية يشكلون الأغلبية السكانية في مقاطعة دونيتسك التي تسمى اليوم "جمهورية دونيتسك الشعبية" بنسبة تقترب من 55 في المئة من تعداد السكان الإجمالي الذي يبلغ زهاء أربعة ملايين ونصف المليون. ويشكل الروس نسبة تزيد على 40 في المئة مع بقية ممثلي القوميات الأخرى ومنها التتار والأرمن واليونانيون واليهود من الناطقين بالروسية. وتشير المصار الروسية أيضاً إلى وجود ما يقرب من 650 ألف نسمة من أصحاب الجنسية الروسية، وهم الذين حصلوا على جوازات السفر الروسية، بموجب تعليمات صريحة من جانب الكرملين، في أعقاب اندلاع الحرب في المنطقة، ما دفع كثيرين منهم إلى أن يلوذوا بالفرار إلى روسيا المجاورة. أما عن مقاطعة لوغانسك التي أعلنت انفصالها عن أوكرانيا تحت اسم "جمهورية لوغانسك الشعبية"، فتقع أيضاً شمال دونيتسك وتحدها روسيا من جهة الشرق. ويبلغ تعداد لوغانسك ما يزيد على مليوني نسمة يشكل الأوكرانيون منهما نسبة ما يقرب من المليون ونصف المليون، بينما يقترب الروس هناك من المليون نسمة. وفي هذا الصدد تقول الأدبيات الروسية، إن الناطقين بالروسية من سكان "جمهوريتي" دونيتسك ولوغانسك يشكلون نسبة تزيد على 40 في المئة من السكان ومعظمهم من العاملين في مناطق استخراج الفحم وما بقي من مؤسسات الصناعة الثقيلة في الجمهوريتين.

وكان الرئيس فلاديمير بوتين تحدث في أكثر من مناسبة عن وحدة التاريخ والجغرافيا والعقيدة بين سكان هذه المناطق بحكم ما يربط روسيا مع أوكرانيا من تاريخ مشترك ووحدة عرقية. وقالت قناة "روسيا اليوم" على موقعها الإلكتروني الناطق بالعربية، إن الرئيس بوتين انتقد لينين زعيم ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الاشتراكية الذي عزا إليه نقل التبعية الإدارية لهذه المناطق إلى أوكرانيا، وهو ما دفع السلطات الرسمية الأوكرانية إلى الاحتجاج رسمياً لدى مجلس الأمن، وما أصدرته وزارة الخارجية الأوكرانية من بيانات وصفت فيها تصريحات القيادة الروسية بأنها محاولة "لإعادة كتابة التاريخ ولطرح وحدة الأراضي والسيادة والاستقلال السياسي لأوكرانيا بما يجعلها موضعاً للتشكيك"، فيما وصفت هذه التصريحات بأنها "غير مقبولة" وتنتهك "عدداً من الوثائق الدولية". وفي هذا الشأن أيضاً تقول المصادر الروسية، إن بوتين الذي ثمة من يتهمه بمحاولة إعادة بناء الاتحاد السوفياتي، انتقد في حديث له أمام ممثلي الجبهة الشعبية الروسية زعيم البلاشفة ووصف نهجه في المرحلة الأولى من تاريخ الدولة السوفياتية، بأنه "شكل قنبلة موقوتة مؤجلة التفجير، أدت في نهاية المطاف إلى انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية عام 1991". ونقلت عن بوتين ما قاله حول "أن ستالين اقترح ضم الكيانات إلى الاتحاد السوفياتي على أساس مبدأ الحكم الذاتي ومنح صلاحيات واسعة للسلطات المحلية، لكن لينين رفض تلك الفكرة، مقترحاً قيام الدولة السوفياتية الجديدة على أساس مبدأ منح جميع كياناتها حقوقاً متساوية، بما في ذلك حق الخروج من الاتحاد". وأضاف قوله: "وفي أثناء هذه العملية، رسمت حدود الكيانات بشكل عشوائي تماماً، وفي العديد من الحالات بلا أدنى أساس. وبهذه الطريقة نقلت منطقة دونباس إلى أوكرانيا بذريعة ضرورة زيادة نسبة الطبقة العاملة في أوكرانيا من أجل تعزيز التأييد الشعبي للسلطة السوفياتية في الجمهورية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"مجموعة نورماندي"

وعودة إلى "مجموعة نورماندي" وما نجم عنها من اجتماعات أسفرت في نهاية المطاف عن توقيع اتفاقيات مينسك "المثيرة للجدل"، يذكر المراقبون أنها تشكلت في عام 2014 على هامش احتفالات زعماء البلدان المشاركة في الحرب العالمية الثانية في نورماندي، حيث جرت عمليات إنزال قوات الحلفاء على الشاطئ الفرنسي في السادس من يونيو (حزيران) 1944، بمناسبة ذكرى افتتاح الجبهة الثانية التي طالما نادى بها، وأصر عليها الزعيم السوفياتي ستالين لتسريع عمليات مواجهة قوات ألمانيا الهتلرية منذ أولى سنوات الحرب، ما أسفر لاحقاً عن تحقيق النصر في مايو (أيار) 1945. وقد تشكلت "مجموعة نورماندي" أو "رباعي نورماندي"، من رئيسي روسيا وأوكرانيا (الرئيس الأوكراني السابق بيتر بوروشينكو) إضافة إلى الوسيطين المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، والرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، في محاولة للتوصل إلى الحلول المناسبة لسرعة وقف إطلاق النار بين القوات النظامية الأوكرانية و"الانفصاليين" في جنوب شرقي أوكرانيا في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك. وقد توصلت هذه المجموعة إلى اتفاق حول اللقاء في مينسك باقتراح من رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو، من أجل بحث جوانب هذه القضية بمشاركة ممثلي "الجمهوريتين الانفصاليتين". وكانت الأطراف المعنية بدأت أولى اجتماعاتها في مينسك في سبتمبر (أيلول) 2014، في محاولة لوضع حد للعمليات العسكرية التي قامت بها القوات الأوكرانية المسلحة ضد سكان "جمهوريتي" دونيتسك ولوغانسك، تعبيراً عن معارضتهما للانقلاب الذي وقع في أوكرانيا في فبراير (شباط) من نفس العام. لكن ما توصلت إليه من بنود لم يسفر عن حلول جذرية للأوضاع المشتعلة في المنطقة، وهو ما دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى اختصار زيارته للقاهرة في فبراير 2015، ليسافر على وجه السرعة إلى مينسك للقاء نظيره الفرنسي هولاند والأوكراني بيتر بوروشينكو والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل مع ممثلي الجمهوريتين الانفصاليتين.

وفي مفاوضات ماراثونية امتدت لما يزيد على 16 ساعة توصل المجتمعون إلى ما يسمى اليوم باتفاقيات مينسك وبكل ما تتضمنه من بنود مثيرة للجدل، جرى الالتفاف حول بعضها في وقت لاحق من خلال ما يسمي صياغة شتاينماير التي استمدت اسمها من اسم وزير الخارجية الألمانية الأسبق فرانك فالتر شتاينماير رئيس الجمهورية الحالي. وحول "صياغة شتاينماير" أشارت وكالة "سبوتنيك" الحكومية الروسية نقلاً عن دميتري بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين إلى "أنها خطة لتعديل الدستور الأوكراني باقتراح من شتاينماير في 2014-2015 وتحدد آلية إدخال قانون حول النظام الخاص للإدارة المحلية في بعض مناطق مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك، على أساس مؤقت في يوم انتخابات وعلى الأساس الدائم– بعد إصدار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا تقريرها عن نتائج الانتخابات". وأضافت الوكالة الروسية أن بيسكوف قال في مؤتمر صحافي: "أولاً، الحديث لا يدور عن موافقة أوكرانيا، بل يتعلق بتأكيد أوكرانيا موافقتها على صياغة شتاينماير في وقت سابق، لأن الأوكرانيين وافقوا على صياغة شتاينماير قبل عدة سنوات، وقد تم ذلك من قبل الرئيس بوروشينكو. الآن تم تأكيد هذه الموافقة، وهذا تأكيد إيجابي. لذلك فهو أمر إيجابي".

ترتيبات وتعديلات

وعلى ضوء تفاقم الأوضاع في المنطقة وعودة الاشتباكات العسكرية بين الطرفين المتحاربين، عقدت "مجموعة نورماندي" اجتماعاتها في مينسك حيث جرى التوصل إلى اتفاق حول وقف إطلاق النار في شرق أوكرانيا. وتم إنشاء مجموعة اتصال من ثلاثة أطراف، وهي: روسيا وأوكرانيا و"منظمة الأمن والتعاون الأوروبي"، لتنفيذ ما جرى التوصل إليه تحت اسم "اتفاقيات مينسك"ـ التي وقعها ممثلون عن "منظمة الأمن والتعاون الأوروبي" والحكومتين الروسية والأوكرانية، والسلطات المعنية في منطقة دونباس. وتنص هذه الاتفاقيات التي وردت في 13 بنداً، وما طرأ عليها من تعديلات بموجب صياغة شتاينماير، على: "أن تقوم كييف، في البداية، باستصدار قانون عن مجلس الرادا حول الوضعية الخاصة لمنطقة دونباس وترتيبات الانتخابات هناك. ثم، وفي يوم الانتخابات، يدخل قانون الوضعية الخاصة بالمقاطعتين حيز التنفيذ باعتباره مؤقتاً، وبعد تأكيد ديمقراطية النتائج من قبل مراقبي منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، يدخل القانون حيز التنفيذ الكامل. أي يتم تشكيل سلطة معترف بها من قبل كييف في دونباس. وبعد ذلك، يتم تثبيت الوضعية الخاصة للإقليم في دستور أوكرانيا. وفي النهاية، يتم نقل السيطرة والإشراف على حدود المقاطعتين (لوغانسك ودونيتسك) مع روسيا إلى حرس الحدود الأوكرانيين". وقد حرصت موسكو على سرعة نقل نصوص الاتفاقيات إلى مجلس الأمن الدولي حيث جرى التصويت على تثبيتها في قرار صدر عن المجلس في ذلك الحين.

وكانت الأطراف المعنية، الرئيسة منها والثانوية، تبدو على يقين من أن التوصل إلى تنفيذ هذه الاتفاقيات والجنوح نحو التهدئة والاستقرار في شرق ووسط أوروبا، يجعل من الممكن لاحقاً تحرير أوروبا من قيود الارتباط بما يطرأ في أوكرانيا وفي علاقاتها مع جيرانها من متغيرات. وذلك يعني بالتبعية "نقل القضية الأوكرانية من البند الأول على جدول أعمال العلاقات الروسية الأوروبية، إلى البند الثالث أو الرابع. للبدء في تخفيف أزمة العقوبات التي تدفقت في أعقاب اندلاع الأزمة الأوكرانية في فبراير 2014، وبشكل عام، جعل العلاقات الأوروبية الروسية أقل خضوعاً للمسألة الأوكرانية"، بحسب تقديرات مراقبين في موسكو.

وذلك وللأسف الشديد ما لم يحدث طوال السنوات الثماني الماضية منذ توقيع اتفاقيات مينسك في فبراير 2015. ولذا وعلى ضوء ما تحقق، أخيراً، من حلحلة للموقف وما تيسر الوصول إليه من إنجازات خلال الأيام القليلة الماضية نتيجة الزيارات المكوكية والاتصالات واللقاءات التي جرت في كل من موسكو وكييف، فإن ثمة ما يشير إلى قرب احتمالات تجاوز المشكلة والتوصل إلى الحلول المنشودة.

المزيد من تقارير