Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صراع في الشقة يصل بالمالك والمستأجر في مصر إلى البرلمان

لا يمر أسبوع في أي من عمارات البلاد من دون معركة مدوية

راحة السكان في مرمى نيران البرلمان الآن والقانون الجديد الجاري إعداده سيتناول كل أنواع السكن بالإيجار إضافة إلى المحلات التجارية (أ ف ب)

المعركة المروعة على سلم العمارة العتيقة في حي شبرا لم تكن الأولى، وحتماً لن تكون الأخيرة، الصراخ والاقتراب الشديد من حاجز الشتم بين الطرفين المتنازعين سببه 10 جنيهات (نحو 0.64 دولار أميركي). المعركة السابقة قبل أسابيع فجرتها خمسة جنيهات (نحو 0.32 دولار أميركي)، الجمع الغفير من السكان، وحارس العقار، توقعوا أن تكون المعركة التالية في غضون أيام، بعد ما وصلت فاتورة كهرباء "نور السلم" المشترك بزيادة قدرها 500 جنيه مصري (نحو 32 دولاراً أميركياً) يفترض أن توزع على 42 شقة في العمارة، لكن الواقع يشير إلى أن 30 شقة فقط تتحمل الفواتير والزيادات وما تسفر عنه كل معركة بين المالك والمستأجر.

بين المالك والمستأجر

وبين المالك والمستأجر في مصر القديمة، وهي مصر التي كانت تعيش في كنف ما بات يسمى اليوم "الإيجار القديم"، شد وجذب لا يقل تاريخهما عن 100 عام ويزيد، وإذا كان ملايين المصريين يستجمعون قواهم ويستنفرون جهودهم هذه الأيام خلف "هاشتاغ"، "لا لتعديل قانون الإيجار القديم"، فإن آلاف المصريين في المقابل يشدون من أزر بعضهم كذلك تحت راية، "وأين حقوق المالك المسكين؟".

قصة المالك المسكين والمستأجر المتكبر، وفي أقوال أخرى، المالك الجشع والمستأجر الضعيف، عمرها أكثر من 100 عام، بدأت بود واتفاق، والعقد شريعة المتعاقدين، تطورت وتغيرت وتحولت هذه الآونة إلى عقد أكل عليه زمان التحولات الاقتصادية الكبرى وشرب عليه تعويم الجنيه المصري ورفع الدعم عن الوقود والكهرباء والغاز والغذاء وانقلاب الأوضاع المعيشية والتصنيفات الطبقية للمصريين رأساً على عقب.

صراع

عقب انتهاء مداخلة المتحدث باسم مجلس الوزراء المصري نادر سعد في برنامج تلفزيوني مؤكداً فتح ملف الإيجار القديم مع التأكيد على أن أحداً لن يتضرر من تعديل القوانين في هذا الشأن، تفجر الجميع ترقباً وتساؤلاً ومطالباً ومندداً ومؤيداً ومستبقاً التعديلات المرتقبة بـ"هاشتاغات" مشتعلة.

اشتعال ملف الإيجار القديم في مصر هذه الأيام هو غيض من فيض، لم يستفض سعد في شرح المتوقع من بنود القانون الجديد بقدر ما استفاض في التأكيد على أن الحكومة لن تترك أحداً في العراء، وأنها ستوفر مسكناً لمن يعجز عن توفير بيت لنفسه وأسرته في الفترة الانتقالية، لا سيما أنها قد تصل إلى خمس سنوات.

تطمينات الحكومة للمستأجر "القديم" أسفرت عن نوبة هلع عنيفة وموجة غضب شديدة، ميراث عقود طويلة من افتقاد الثقة في التصريحات الرسمية أو التأكيدات الحكومية أنه لا زيادة في الأسعار أو لا يوجد ضرر على فئات بعينها جراء تعديلات أو إجراءات تطل برأسها من جديد هذه الآونة.

قصة صراع قديمة

ملف الإيجار القديم ليس قصة صراع بين مالك ومستأجر فقط، لكنها مأساة تاريخية يمكن تأريخ أول أحداثها بقانون رقم 11 لعام 1920، إذ قيد القانون قيمة أجور الوحدات السكنية بحد أقصى للأجرة بحيث تساوي القيمة المنصوص عليها في أول أغسطس (آب) عام 1914 مضافاً إليها 50 في المئة من هذه القيمة، وبحسب القانون نفسه، فإنه لا يجوز أن يخرج المالك المستأجر من الوحدة إلا بحكم محكمة، أما الأسباب فتقتصر على عدم السداد لمدة 15 يوماً من تاريخ المطالبة، والإخطار على يد محضر، أو خطاب مسجل، أو إهمال المستأجر للوحدة، أو استخدامها في غير الغرض المستأجرة من أجله.

لكن أتت "الحرب العالمية الثانية" بما لم يشتهه المستأجر المؤمن بالقانون، فقد أقبل البعض من الملاك على طرد المستأجرين المصريين وتأجير الوحدات لأجانب قادرين على دفع قيمة أعلى من دون الالتزام بالقانون. لذلك، صدر قانون رقم 151 لعام 1941 الذي نص على منع المالك من زيادة القيمة الإيجارية وتجديد العقود تلقائياً من دون إجراءات، وذلك لحماية المستأجرين من الطرح في ظروف الحرب القاسية. 

قسوة الإجراءات

قسوة الإجراءات على الملاك أو في عرف المستأجرين "حماية حقوقهم السكنية البديهية" لم تتوالَ فقط في أجواء ثورة 1952، بل نمت وترعرعت في ظل تعزيز المبادئ الاشتراكية وكسب الدعم الشعبي لأهداف الثورة، لا سيما القضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم.

الدق على أوتار "حق الجماهير العريضة" سكان قاعدة الهرم الطبقي في مقابل أو على حساب الأقليات الضئيلة من قاطني قمة الهرم وبينهم أصحاب العمارات وملاك العقارات انعكس في سلسلة من القوانين التي خفضت إيجارات الوحدات السكينة بنسب تتراوح بين 15 و20 في المئة تيسيراً على المستأجرين.

وظلت القوانين متوائمة ومتطابقة مع أهداف ثورة يوليو (تموز) 1952 وداعمة ومروجة لمبادئها حيث الدق على أوتار سيادة الشعب وصوت الجماهير وحقوق المظلومين إلى آخر القائمة، ولأن القوانين كثيراً ما تكون عاكسة أو مساعدة أو داعمة للتوجه السياسي للنظام القائم، فقد جاءت منتصف سبعينيات القرن الماضي إبان حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات بعدد من القوانين التي أعطت قبلة حياة لكفة الملاك، وصدر القانون رقم 49 لعام 1977 ليلغي كل ما سبقه من قوانين الإيجارات، وتم استحداث أحكام خاصة بتأجير الوحدات "مفروش" أي بالأثاث، وأصبح من حق المالك إضافة زيادة تتراوح بين 100 و400 في المئة من القيمة الإيجارية، حسب تاريخ بناء الوحدات، وتبعه قانون آخر ينصف الملاك أيضاً صدر في عام 1981 إذ وضع منظوراً للإيجارات يتم حسابه حسب قيمة الأرض والمباني.

توازنات وعقارات

وجاء نظام الرئيس السابق الراحل محمد حسني مبارك بتوجه يميل إلى ترك سوق العقارات، سواء بالشراء أو التأجير، لتوازنات السوق وقدرات المشترين و"شطارة" الملاك والمقاولين، وهو ما يعني ترك منظومة "الإيجار القديم" الحامية للمستأجرين الضعفاء محدودي الدخل في مقابل الملاك الأقوياء الأثرياء، هذا الترك أفضى إلى تركة ثقيلة يتجرع كثيرون مرارتها حالياً، ومكونات المرارة كثيرة، لكنها تبدأ بشح الأرقام والإحصاءات، وتحدثت المصادر نفسها عن ثلاثة ملايين شقة "إيجار قديم" ثم تعود لتشير إلى سبعة أو ثمانية وأحياناً تسعة ملايين شقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي كل من هذه الشقق قصة واحدة على الأقل تنافس مسلسلات مثل "ليالي الحلمية" في العراقة، و"دالاس" في التشابكات والتعقيدات، و"حريم السلطان" في التطويل، والشيطان الذي يسكن في التفاصيل، والتفاصيل كثيرة، لكن هناك خطوطاً عريضة تجمع بين الغالبية، "الإيجار القديم" تحول إلى تحصيل حاصل، مرور العقود من دون تعديلات تذكر، وبقاء أوضاع السكان المستأجرين من دون النظر إلى حقوق الملاك الذين أفقرت كثيرين منهم عوامل وأحداث تتراوح بين إجراءات التأميم عقب ثورة 1952 ونزاعات الميراث وتفتيت الملكيات بين مئات المستحقين لعمارة الجد أو الجدة الذي توفي أو توفيت مع تواتر مسؤوليات العمارة المادية من إصلاحات وصيانة ونظافة وترميم وغيرها على المالك وحده.

مالك حزين

ناجي جورج (70 عاماً) يملك وإخوته الخمسة وأبناؤهم وأحفادهم وأبناء أحفادهم عمارة سكنية في حي شبرا العريق، تتكون العمارة من سبعة طوابق في كل منه ست شقق سكنية كلها نظام "إيجار قديم"، القيمة الإيجارية للشقق تتراوح في عام 2022 بين 10 و50 جنيهاً مصرياً بحسب المساحة والوجهة (بين 0.64 دولار و3.20 دولار أميركي) في الشهر، وفي حال سدد جميع السكان الإيجار الشهري، فإن متوسط العائد الذي يتم تقسيمه على الملاك لا يزيد على 1800 جنيه مصري (نحو 115 دولاراً أميركياً)، نصيب جورج يبلغ نحو 360 جنيهاً مصرياً (نحو 23 دولاراً أميركياً) تؤمن له استهلاكه من السجائر المحلية، لمدة أسبوع.

ولا يمر أسبوع في أي من عمارات مصر ذات شقق الإيجار القديم من دون معركة مدوية أبسطها لفظي ومنها ما يصل إلى دوائر المحاكم وأقسام الشرطة، الصراعات اليومية تتراوح بين متطلبات صيانة مصعد تم تركيبه في عام 1960، وينقسم السكان بين مستعد للمساهمة من أجل الإصلاح ورافض للمبدأ لأن المصعد مسؤولية المالك، أو الإبقاء على إنارة المساحات العامة بين الشقق وعلى السلم مضاءة ليلاً مع امتناع جانب من السكان عن المشاركة في سداد فاتورة الكهرباء أو تغيير المصابيح، أو إصلاح أنابيب المياه المتهالكة، أو صيانة توصيلات الصرف الصحي.

مشاحنات الإيجار القديم

لا يمر أسبوع من دون أن تنضح كل عمارة في برّ مصر، فيها شقق تندرج تحت بند "الإيجار القديم"، بمشاحنات وسجالات ينجح البعض في حلها عبر الأعراف والعادات والتقاليد حيناً، وتتطور إلى نزاعات شديدة أو عنيفة أحياناً، وينتج عنها مزيد من الصراع في الشقة وحولها دائماً.

المهندس المعماري المتقاعد مجدي بباوي يطرح زاوية مختلفة تماماً خاصة بأصحاب العقارات "إيجار قديم" الجدد، ويتساءل، "متى وكيف آلت ملكية العقارات القديمة للملاك الجدد؟!" بباوي يقصد المستأجر نظام "الإيجار القديم" بـ"الملاك الجدد"، ويقول إنه في الأشهر التي تلت أحداث يناير (كانون ثاني) عام 2011، كانت هناك حركة بيع نشطة بين أصحاب العمارات السكنية ما عكست خوفاً وشكاً مما ستؤول إليه أوضاع البلاد ولرغبة كثيرين في الهجرة، ويرى بباوي أن "صائدي الفرص والسماسرة من الباحثين عن فرصة شراء عمارة سكنية بمبلغ بخس أملاً في هدمها وتحويلها إلى عمارة أكبر وأطول وبالتالي تحقيق أرباح خيالية على حساب المساكين من المستأجرين، نظام إيجار قديم، بعد التخلص منهم، يشكلون فئة جديدة من ملاك العمارات".

ويتابع بباوي أن "المظلومية" التي يطرحها ملاك العقارات الجدد للشقق القديمة يمثلون حالة مختلفة تضع سكان هذه الشقق في موقف لا يحسدون عليه، ويشير إلى أن النقاشات المطروحة حالياً في مجلس النواب (البرلمان) المصري يضطلع فيها هؤلاء أملاً في أن تنصفهم نصوص القانون الجديد المتوقع وتمكنهم من التخلص من السكان القدامى.

السكان القدامى

قصص السكان القدامى في عمارة شبرا القديمة كثيرة، قلة قليلة من هؤلاء من كبار السن ممن تصدر إيصالات الإيجار بأسمائهم لأنهم ببساطة من وقّعوا عقد الإيجار من المالك قبل عقود، لكن لدى الأغلبية، تكون عقود الإيجار بأسماء الجد أو الجدة أو الأخ المتوفى وهلم جراً.

في الطابق الأول تسدد إيمان إيجار الشقة الصادر باسم والد زوجها المتوفى قبل ما يزيد على أربعة عقود، سكنت هذه الشقة مع والدة زوجها التي رحلت عن الدنيا قبل عقدين، لكن زوج إيمان توصل مع صاحب العمارة إلى اتفاق ودي غير موثق كتابة تمكن من خلاله من الإقامة في الشقة بعد وفاة الأم في مقابل مضاعفة قيمة الإيجار، توفي الزوج قبل 10 سنوات، وإيمان حالياً تقيم في الشقة مع أبنائها الثلاثة.

وفي الطابق الثاني "دكتور سليم" الذي يسدد الإيجار باسم والدته الراحلة، وواقع حال الشقة بعد مرور ما يزيد على 45 عاماً من الإيجار هو أن نصفها سكني له ولزوجته والنصف الآخر عيادة.

وفي الطابق الثالث شقتان مغلقتان منذ ما يزيد على 25 عاماً، إذ هاجر المستأجران إلى كندا واكتفيا بسداد قيمة الإيجار عبر تحويل مصرفي. وتتوالى الطوابق وتتواتر القصص والحكايات ومعها المشاحنات والصراعات، حتى رسوم إصلاح المصعد المتهالك يتفاوض البعض من السكان في سداد كلفتها بعد امتناع المالك عن السداد إذ مجموع ما تدره العمارة في الشهر لا يكفي للإصلاح، سكان الطابق الأول يقولون إنهم لا يستخدمون المصعد، وبالتالي ممتنعون عن المساهمة في إصلاح المصعد، وسكان الثاني والثالث والرابع يتأرجحون بين السداد النصفي أو الامتناع الكلي.

راحة السكان في البرلمان

راحة السكان في مرمى نيران البرلمان الآن، القانون الجديد الجاري إعداده سيتناول كل أنواع السكن بالإيجار، إضافة إلى المحلات التجارية المستأجرة، والملاحظ أن غالبية المتحدثين للإعلام هذه الآونة في شأن القانون الجديد يصولون ويجولون في دوائر طمأنة جمهور المستأجرين من دون التطرق كثيراً أو حتى قليلاً إلى النصوص المقترحة. لكن تسريبات تشير إلى نصوص من شأنها أن تشعل فتيل الأزمة إن لم يكن من قبل فريق الملاك فمن جهة المستأجرين، فمثلاً يدور مقترح نص حول زيادة قيمة الإيجار خمسة أضعاف، لتداوم بعد ذلك على الزيادة السنوية بنسبة 15 في المئة لمدة خمس سنوات، ويتطرق نص آخر إلى المهلة الزمنية المحددة لعدم سداد الإيجار، والتي تتيح للمالك بعدها إخلاء الشقة.

وبعيداً عن نصوص الإخلاء والزيادة والحديث الحكومي عن الفترة الانتقالية وأن أحداً لن ينام في العراء، تبقى الغالبية المطلقة من سكان "الإيجار الجديد" ممسكة بتلابيب العقد شريعة المتعاقدين.

فئة متضررة

وتظل هناك فئة متضررة عن حق من احتمالات رفع قيمة الإيجارات وتضييق بنود التوريث والفئات المستحقة لاستمرار الإقامة في الشقة. محدودو الدخل وأصحاب المعاشات الهزيلة والحالات الحرجة إذ كلفة العلاج تستنزف الجيوب، أو ظروف المرض تطيح بمصدر الدخل، أو قيود الوباء تغلق أبواب الرزق، وغيرهم من أصحاب الحالات الإنسانية الحرجة يضعون أياديهم على قلوبهم في انتظار ما ستسفر عنه نقاشات البرلمان.

ويمكن القول، بكل ثقة، إن من تبقوا على قيد الحياة من جيل "الإيجار القديم" أعدادهم ضئيلة وبحكم متوسط الأعمار، فإنهم آخذون في الانقراض تاركين بعدهم إما ورثة بعضهم يتحايل على القانون والبعض الآخر يعتبر نفسه، ومتطلبات سكنه مسؤولية في رقبة المالك، أو أجيالاً جديدة نزحت مع أسرها إلى شقق تمليك أو "إيجار جديد" ولا يعرفون من أمر منظومة "الإيجار القديم" سوى أن "جدو" و"تيتة" كانا يقيمان في شقة طويلة عريضة في الزمالك أو العجوزة أو شبرا في مقابل خمسة جنيهات شهرياً فقط لا غير (نحو 0.32 دولار أميركي).

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات