Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة إلى جبال سراييفو المكللة بالضباب عكرتها عاصفة كورونا

الشاعر سيف الرحبي يسترجع آثار حروب البلقان ويرقب الطائر العابر بسرعة البرق

مشهد من سراييفو (الكتاب - دار العين)

يمزج الشاعر العماني سيف الرحبي في كتابه "رحلة إلى جبال سراييفو" (دار العين)، بين النثر المتشح غالباً برداء الشعر، والشعر الخالص في متن جاء في 123 صفحة من القطع المتوسط، يندرج في باب أدب الرحلات، الذي سبق أن صدرت له أعمال عدة في نطاقه، منها مثلاً كتاب "صالة استقبال الضواري- رحلات وأسفار"، ومجموعة "الجبل الأخضر"، وخصوصاً في قصة عنوانها "تجليات النزهة الجبلية"، وقد كتبها بعد رحلة إلى صوفيا في أواخر سبعينيات القرن الماضي.

وفي "رحلة إلى جبال سراييفو" تخيم أجواء تفشي وباء كورونا، كما تحضر أماكن موازية؛ خصوصاً في لبنان، وما يرتبط بها من ذكريات حميمية ومشاعر يغمرها الأسى على ما آل إليه حال أحد أجمل البلدان العربية... "أنظر إلى جبل سراييفو، متناسلاً إلى ذرى وجبال مكللة بالضباب متذكراً لبنان ومدنه المسورة بالجبال من الجهات كلها، ومثل لبنان: البوسنة، خارجة من حروب دينية وإثنية طاحنة بعد انفراط عصر الاتحاد اليوغوسلافي، لكنها تحلم بمستقبل واعد ومختلف كما تتجلى طلائعه في هذه الحيوية، وهذا الاستقرار" صـ 9.

هكذا منذ الصفحات الأولى للكتاب؛ يظهر لبنان، مع أن الرحلة تخص مدينة سراييفو؛ عاصمة جمهورية البوسنة والهرسك، ويتوالى استدعاؤه طوال الرحلة بحسرة واضحة: "لبنان ما زال يرزح تحت كابوس حروبه المتعددة الأشكال والألوان والجذور، الناطقة الضاجة، وتلك الفتاكة في صمتها المراوغ، طالما أن جذور وقودها المضطرب تحت الرماد، ما زال سارياً مشتعلاً وقابلاً للاشتعال والانفجار".

تأثيرات تاريخية  

وفي مواضع أخرى من الكتاب تدفع الرحلة التي تمت في صيف عام 2021 الناثر/ الشاعر، إلى تأمل تأثيرات تاريخية على البوسنة والهرسك وبلاد البلقان عموماً. يقول إن "تأثير الإمبراطورية العثمانية على هذا الشطر واضح، فهي التي هيمنت على بلاد البلقان ورسمته عميقاً بميسمها؛ إسلاماً وعادات وأنماط سلوك متعايشة ومتداخلة مع إرث البلاد وقيمه وعناصره". ويسأل منطلقاً من تلك الملاحظة: "هل يكره أهل البوسنة والهرسك العرب؟"، ويترك السؤال بلا إجابة مباشرة، وإن كان قد سرد مشاهد عدة لحسن معاملته وأسرته خلال تلك الرحلة، مع التسليم في الوقت ذاته بأن "قحالة البشر من العاطفة والحب أكثر فظاعة وقسوة من قحالة الأرض"، وأن فيروس كورونا "جاء ليزيد الشعوب المقهورة المعذبة في أسى وجودها وحياتها قهراً مضاعفاً، يجعل حجم الاستعارة والخيال مبسطاً لمن ذاق الجحيم والعذاب" صـ17.

ويلاحظ الرحبي أن هيمنة السوفيات والأنطمة التوليتارية التي كانت تدور في فلكهم، ما زال أثرها باقياً؛ "مهما شطت المسافة في البحث عن آفاق جديدة. مثالها رأسمالية الغرب والسوق، فثمانية عقود من القبضة الحديدية التي أطرت وقولبت هذه البلاد وبشرها لم تمح بتلك السرعة مهما كان الطموح كبيراً والأحلام عالية. فسلوك البشر في يومياتهم وتفاصيلهم يذكر بتلك الحقبة التي تؤرخها معظم هذه الشعوب السلافية، سوداء قاتمة، رغم كثير من المحاسن والإنجازات بمعزل عن الحرية والديمقراطية؛ بل على نقيضها تماماً. ربما هذا يؤكد القيمة العظيمة لأفكار الحرية والتنوير والتعددية، التي تصل حد التجريد والقداسة لدى الشعوب المحرومة منها، بخاصة هذه التي أصابت قسطاً جيداً من التقدم الحضاري والمدني".

ملتقى ثقافات وأديان

هي بلاد أمير كوستوريتسا الذي يعتبر المرجع الأهم سينمائياً الذي جسد على نحو رفيع وخلاق الحروب اليوغوسلافية العنيفة، كما وجه نقداً شرساً للحياة في ظل التوليتارية في فيلم "أبي في رحلة عمل" وخراب هذه في تفاصيلها وعنفها اليومي. وبلد علي عزت بيكوفيتش الرئيس الأول لجمهورية البوسنة والهرسك إثر انفصالها، والذي له كتاب يتحدث فيه بثقافة تفوق حجم ثقافة الساسة المحترفين، عن بلاده باعتبارها ملتقى منابع ثقافات وأديان وأعراف مختلفة، تتعايش وتثري بعضها بصورة خلاقة وفريدة، قبل انفجار الحروب الأهلية التي تنفض رمادها البلاد راهناً باتجاه مستقبل مختلف. عام 2020 يسميه الرحبي في كتابه هذا "عام الرمادة، عام الهلع الكوني وتواتر أخبار رحيل الأصدقاء". ويرى في هذا السياق أنه مهما كانت حتمية الموت بديهة البداهات منذ بدء الخليقة يظل هو على نضارته المتجددة الفتية، ونظل نحن البشر البائسين على وتر الذهول والصدمة المتجددين، كأنما ما زلنا في عصور الأساطير، عصر جلجامش وأنكيدو، الذهول نفسه والصدمة ذاتها وإن اختلفت السلوكيات والهواجس والكآبات... "آه كل شيء يذكر بك يا شام، يا بيروت، يا قاهرة، يا قلبي المكلوم على هذا الفضاء الشاسع: المطاعم الأليفة بين العمارات، المقاهي، النساء والحانات، الساحات بالأصص، والأشجار، بالباعة الجائلين. كل شيء يذكر بك، حتى النجوم التي شبعت موتاً وانطفاء لكن ما زال ضوؤها ينير الأكوان والذاكرة".

مشروع واعد

درج في قاموس اللغة السياسية المعاصرة، يقول الرحبي، إن حروب البلقان هي النموذج الأعلى للتمثيل في صدف انطلاقها مثل قتل الدوق النمساوي في صربيا الذي فجر الحرب الكونية الأولى، في فوضى الحروب الأهلية ووحشيتها وتردي الأحوال إلى التشظي والهاوية، لذلك حين تنشب حرب ضمن هذا السياق، يطلقون عليها (بلقنة)، بلقنة لبنان، العراق والجزائر... إلخ التي تجاوزت يقيناً حروب البلقان التي أرخت أوزارها من زمن، وها هي تطلع من بين الأنقاض والرماد، بمشروع نهضة وحضارات واعد.

القهوة البوسنية هي القهوة التركية المعروفة، يضيف سيف الرحبي في موضع آخر، لكن مع إضافات وتحسينات، تجعل نكهتها مميزة على الطريقة اللبنانية؛ كل فرد بركوته الخاصة، وليست الجماعية في صناعتها إلا خيانة لأصالتها وأسلوبها. وقرب المقهى يلحظ "نساء فاتنات/ يتحركن جذلات/ يمتطين أحصنة من برق ورغبات". كما يقارن جبال سراييفو بالجبل الأخضر في عمان الأكثر وعورة وخطورة بما لا يقاس من هذه الجبال الخضراء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأثناء الرحلة، حلت الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت، فيقول الرحبي: "إنه قدر لبنان، الذي تحدث التاريخ عن حقائق راسخة لإنجازات أجياله المتعاقبة منذ مطالع عصر الحداثات الفكرية والتنويرية والأدبية، التي حمل مشاعلها الأولى هذا البلد الصغير في مساحته الجغرافية، لكنه الكبير والمكثف أيما تكثيف في فعله الإبداعي وتأثيره في محيطه العربي". ويبدو أن ذلك الانفجار قد أثار شجون الرحبي فألهاه عن تأمل طبيعة البلد الذي يزوره، فراح يتذكر ما كان عليه لبنان وما صار إليه... "وقائع تاريخية وفكرية راسخة، يتم استعراضها أحياناً في ضوء الخراب الكبير وحلقاته المتناسلة تباعاً، حرباً صريحة وما يشبه الحرب التي قادت إلى هذا الهول العظيم من الظلام والانحطاط الكاسر والفساد، للطبقة الحاكمة بمشاربها وتوجهاتها وميليشياتها المختلفة التي صنعت جحيم اللبنانيين على الأرض". ثم يتسع التأمل ليشمل سوريا والعراق واليمن وليبيا... "التي انحدرت إلى مراتع الوحش، وانفجار الغرائز السوداء التي صنعت هذا المشهد القيامي الأليم".  

طائر يعبر العالم

وخلال زيارة للمتنزه الوطني، في سراييفو، يلاحظ الرحبي أنه كان "غابة فسيحة تذكر بغابة شيروود في نوتنجهام، التي عشنا فيها مدة قبل الوباء الكاسح، لكن من غير تلك المنازل والفيلل الصغيرة التي تنتشر للإيجار بموسم الصيف في غابة روبن هود؛ وإنما مطاعم ومرافق عامة داخل الغابة، وعلى روافد النهر المتفجرة من منابعها الأولى، في الجبل الغابي، البالغ الكثافة والزرقة كمحيط". صـ83

القسم الثاني من الكتاب يبدأ من الصفحة 94، وجاء تحت عنوان "رأيت الطائر الذي يعبر العالم في لمح البصر"، وهو عبارة عن مجموعة قصائد من وحي الرحلة والتأمل في طبيعة سراييفو الخلابة، وتتخللها تأملات من وحي تفشي وباء كورونا، تشكل ما يمكن اعتباره جملاً مأثورة، مثل: "أزمنة المحن والأزمات، تعلم صاحبها كيف يستطيع اقتناص لحظة جمال ومسرة حتى تلك الصغيرة المختبئة خلف حجب القسوة، مثل ذلك الطائر الذي يحط على أسلاك الكهرباء، منشداً في ضوء قمر منطفئ، وماداً عنقه الصغير برعشة نحو النور والفراغ".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة