كثيرة هي الروايات التي تتناول معاناة المهاجرين من الأفارقة إلى فرنسا وصعوبة اندماجهم، خصوصاً في باريس. ومن الكتاب الذين رصدوا هذه المعاناة ماهر جوفن في روايته "أخي الكبير" التي حصدت جائزة "غونكور" للعمل الأول عام 2018 في فرنسا، ورواية "فتاة كازابلانكا" للكاتب الكونغولي إن كولي جان بوفان، ورواية "الراقصات لا يدخلن الجنة" للمغربية حنان الدرقاوي، و"حكايات باريس" لمحمد زيان. والقائمة تطول. وفي هذا الصدد تأتي رواية "حارس الشانزليزيه" للكاتب الفرنسي جوز ذي الأصول الأفريقية من دولة شاطئ العاج، التي صدرت أخيراً عن دار "العربي" في القاهرة بترجمة دينا محمد معوض. وهي روايته الأولى وحصدت جائزة مختارات بائعي الكتب، وجائزة أفضل رواية في قوائم مجلة "لير" الأدبية الفرنسية.
تدور أحداث الرواية عن المهاجرين الأفارقة وما يعانونه من تهميش في المجتمع الباريسي، عبر السارد "أوسيري"، الطالب الإيفواري الذي هاجر إلى فرنسا بطريقة غير شرعية، عام 1990، ليعمل حارساً في متجر "سيفوراه" في أشهر شارع الشانزليزيه. يصف "أوسيري" ذلك مستنداً إلى ما يسمى "نظرية باريس سان جيرمان" القائلة إن كل حراس المحال في باريس هم تقريباً رجال سود. وهو ما يسلط الضوء على علاقة شبه حسابية بين ثلاثة محددات: لون البشرة والمواقف الاجتماعية والجغرافيا. "باريس سان جيرمان"، تلك "النظرية" تصلح لوصف الأوضاع في القاهرة، لجهة ارتباط جسده كثير من الأعمال الأدبية، وبرز أكثر في السينما والتلفزيون، بين مهنة حارس العقارات وأصحاب البشرة السمراء المقبلين من الجنوب هرباً من حياة الفقر. ومن أشهر الأفلام التي جسدت هذه الظاهرة فيلم "البيه البواب" بطولة الراحل أحمد زكي. وبحسب سارد رواية "حارس الشانزليزيه" فإنه "كلما ارتفع تركيز الميلانين في بشرتك زادت فرصتك في شعل منصب اجتماعي أقرب إلى العدم".
وقوف مدفوع الأجر
العنوان الأصلي لهذه الرواية كما يثبت الناشر في مقدمته هو "وقوف مدفوع الأجر". وربما هذا العنوان الذي اختاره المؤلف لروايته أكثر دقة وتعبيراً من عنوان الترجمة العربية حول تلك المهمة المملة التي يحاول أربابها قتل الوقت، وهم يقفون على أبواب المولات التجارية الضخمة. وقد عرفت هذه المهنة قديماً في الوكالات التجارية العربية، وما زال يوجد مكانها معمارياً حتى الآن بالقرب من جانبي بوابات هذه الوكالات، وتعرف باسم "المكسلة". فهي عنصر معماري زخرفي ظهر في العمارة الإسلامية في عمائرها الدينية، مثل المساجد، والمدنية مثل المنازل والمحال التجارية. هو اسم يحيل إلى ما في هذه المهمة من فراغ، يجلب الكسل إزاء القيام بواجبات عمل الناطور.
وعبر هذه الوظيفة المملة التي لا يفعل أصحابها شيئاً سوى مراقبة الدخول والخروج، يحكي "أوسيري" عن جميع من قابلهم من أفارقة وآسيويين، والاختلافات التي تميز ثقافة كل مجتمع من المجتمعات التي ترجع إليها أصولهم. ومن ذلك على سبيل المثال حين تصفر البوابة الإلكترونية عند خروج شخص يحمل منتجاً لم ينزع منه دبوس الحماية الممغنط، فنكون أمام اشتباه في سرقة، ولكن غالباً يتضح أن المشتبه فيه دفع ثمن المنتج وغفل البائع عن نزع ذلك الدبوس. لو كان المشتبه فيه من أهل البلد أباً عن جد، فإنه يتلفت في الاتجاهات جميع ليتأكد أنه مصدر الصوت أو كعلامة على تعاونه فهو يبحث كالجميع. الياباني يتوقف تماماً وينتظر الحارس. الصيني يدعي أنه لم يسمع شيئاً، ويستكمل سيره في شكل طبيعي. والفرنسي من أصل عربي أفريقي يصرخ مدعياً وجود مؤامرة أو جريمة تنميط عنصري ضده. الأفريقي يشير بإصبعه ناحية صدره متعجباً. والأميركي يتجه مباشرة ناحية الحارس ويفتح حقيبته. والألماني يتراجع للخلف ليتأكد ما إذا كان الأمر سيتكرر. العربي الخليجي يتوقف بأكبر قدر ممكن من الضيق، والبرازيلي يرفع يده عالياً!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تنبع أحداث الرواية من هذا الملل الذي يعانيه الحارس فيسعى إلى ابتكار حيل تساعده في قتل الوقت، ما ينتج مشاهد مفككة تجعلنا أمام سرد غير نمطي، في خلفيته صوت الإذاعة الداخلية في المول. يرصد ما هو مدون على الملابس من عبارات، الانفعالات، المتناقضات التي تجري أمامه، ومن ذلك الوصف المشهدي الذي يكثر داخل الرواية... "أنا سمراء، ولست غريبة الأطوار. فتاة سمراء قصيرة الشعر". ومن هذا المشهد ينتقل إلى عبارات أخرى مماثلة، ومنها إلى مشهد رجل أبيض فارع الطول، برفقة فتاة سمراء لا يتجاوز طولها 150 سنتيمتراً. ومن وصف هذا المشهد ينتقل إلى حوار امرأة مع حارس بحثاً عن ابنتها التي تاهت في الزحام. بعين سردية تشبه الكاميرا يعمل السارد على الإحاطة بتفاصيل وأحداث المكان الذي أوكل إليه أمر حراسته.
الهوية الأفريقية
تشكل الهوية الأفريقية عنصراً مهماً ومقصداً رئيساً داخل الرواية. فمهنة الحارس تلك تأتي كإدانة لاستمرار الاستعمار الفرنسي لأفريقيا لعقود، وحين سمحت لبعض الأفارقة بالهجرة أسكنتهم في "غيتو" يشكل صورة مغايرة تماماً لما تبدو عليه باريس. وتكشف الرواية مدى البؤس الذي تعيش فيه مثل هذه التجمعات حياة غير آدمية، وعن أن الأعمال التي وفّرتها لهم باريس كانت شكلاً من أشكال استعباد فرنسا للشعوب التي احتلتها. وتندد أحداث الرواية بوحشية الإنسان الأوروبي الأبيض الذي يرى في نفسه السيادة على بقية الأعراق، ذاكرة بعض جرائمه في حق شعوب القارة السمراء وأبنائها. ومنها قصة المسكينة "سارتجي بارتمان" التي حولت إلى حيوان للعرض في حدائق الحيوانات البشرية في أوروبا خلال القرن الماضي وانتهاء حياتها على طاولة التشريح الخاصة بمتحف التاريخ الطبيعي في باريس.
يستعيد السارد من خلال إعلان في أحد الشوارع "أرسلوا بعض المال إلى بلادكم"، هويته الأفريقية التي تظل بشرته دالة عليها، ويعيد سرد قصة نضال أمه من أجل تحرير أهل بلادها من التبعية لفرنسا. عادت إلى شاطئ العاج بعد أن أتمت دراسة علم الاجتماع في فرنسا في السبعينيات ورفضت فرصة البقاء المتاح لها في باريس. إلا أنها عانت تنمر بني جلدتها ووصفهم لها بالبيضاء، فيما كانت الوحيدة بينهم التي أطلقت على أبنائها أسماء أفريقية. ترفض إطعامهم الدقيق المستورد من الغرب، وتكتفي بإطعامهم مما تنتجه بلادها، عاشت تزرع في أبنائها فكرة الانتماء إلى أفريقيا وتسرد على مسامعهم قصص العذاب الذي تعذبه الأجداد في الأميركيتين. ترى أنه بالتعلم فقط يمكن أن يخرج الأفارقة من العبء الاستعماري الثقيل، وترى أنه لا يمكن للأفارقة الاستقلال ما دام ما يأكلونه يأتي من البلاد التي تسببت في اغترابهم.
متغيرات اجتماعية
ترصد الرواية الكثير من المتغيرات التي مرت على مجتمع المهاجرين إلى باريس من الستينيات وحتى بداية القرن الجديد، حيث كان هناك بعض التسامح مع هؤلاء، لكن بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وتفجير البرجين في نيويورك، زادت التضييقات وحياة العزلة التي يعيشها المهاجرون، خصوصاً المنتمين منهم إلى أصول عربية، وإلصاق تهمة الإرهاب بكل المسلمين، إضافة إلى حوادث الإخفاء القسري من قبل عناصر الأمن لكثير من المهاجرين من دون أن يهتم أحد بأمرهم. أحداث الرواية تنتهي باختفاء الراوي "أوسيري" الذي يغيب في ظروف غامضة دون أن يعلم أحد مصيره... "هو لا يمثل شيئاً قيماً لأحد. هو نكرة بالنسبة إلى الجميع".
في الختام، فإن اسم مؤلف الرواية هو تصغير لاسم "جوزورو"، الذي كان يطلق في بلده الأصلي على السيارة المتهالكة. حصل جوزو على عديد من الجوائز في فرنسا وفي شاطئ العاج. وهو يعمل مصوراً وصانع أفلام وثائقية عدّة، منها فيلم عن هجرة الشباب الإيفواري إلى فرنسا بعنوان "ما وراء المحيط".