Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"معجم أكسفورد الفلسفيّ" يقدم مقاربة شاملة للفلسفة العالمية

المذاهب والتيارات والاصطلاحات القديمة والحديثة بعيون مؤرخين ومحللين ونقاد

مدرسة الفلسفة الإغريقية بريشة الرسام رافاييل (متحف رافاييل)

أصدرت "هيئة البحرين للثقافة والآثار" الترجمة التي نقلت إلى القارئ العربيّ كنوز معجم أكسفورد الفلسفيّ المسمَّى بالإنغليزيّة "رفيق أكسفورد إلى الفلسفة" (The Oxford Companion to Philosophy). ينسلك الإصدار المعجميّ هذا في سياق مشروع نقل المعارف الذي تضطلع به هيئة البحرين في سبيل خدمة الفكر العربيّ، لا سيّما في حقول العلوم الإنسانيّة. أنجز ترجمة المعجم الصادر في جزأين بعنوان "دليل أكسفورد في الفلسفة" الدكتور نجيب الحصادي، وراجعها الدكتور منير الطيباوي. أمّا الإشراف على مشروع النقل، فاضطلع به الدكتور الطاهر لبيب الذي مهّد لمثل العمل المعرفيّ القيّم هذا بلقاءات تشاوريّة ضمّت المترجم نفسه ونخبة من أهل الاختصاص في حقول الفلسفة، وذلك بحسب ما انطوت عليه المقدّمة العربيّة التي وضعها المترجم.

سيرة صاحب المعجم الفلسفيّ

أمّا صاحب الإنشاء الأصليّ ومنسّق المعجم، فهو الفيلسوف الكنديّ-البريطانيّ تِد هوندريتش (1933-....) الذي درس الفلسفة والأدب في جامعة تورونتو الكنديّة، وما لبث أن يمّم شطر بريطانيا ليدرس الفلسفة الوضعيّة المنطقيّة على الفيلسوف البريطانيّ الوضعيّ الشهير ألفرد آيِر (1910-1989). في إثر ذلك، استقرّ في بريطانيا وعلّم في جامعاتها، خصوصاً في جامعة لندن حيث درّس علم المنطق. أمّا حقل اختصاصه الفلسفيّ الدقيق، فالبحث في طبيعة الذهن أو العقل واستجلاء مقام الوعي والنظر في الحتميّة الإنسانيّة البيولوجيّة، لا سيّما من ناحية الانتظام في سلك البنية الدماغيّة العصبيّة التي تضبط حركة الدماغ والذهن والباطن. يتناول هوندريتش جميع هذه المسائل في ثلاثة كتب أساسيّة: "وعيك، ما هو؟ أين هو؟" (Your Consciousness is What ? Where ?)؛ "في الحتميّة والحرّيّة" (On Determinism and Freedom)؛ "نظريّةٌ في الحتميّة: العقل وعلم الأعصاب ورجاءات الحياة "(A Theroy of Determinism. The Mind, Neuroscience and Life-Hopes).

غير أنّ الكتاب السياسيّ الأشهر الذي استثار زوبعةً من العواصف العنيفة، فكان كتاب "بعد الإرهاب" (After the Terror) الذي صدر في منشورات جامعة ماكغيل الكنديّة. يعتقد هوندريتش أنّ الإنسانيّة المعاصرة تستجلب الإرهاب لشدّة إعراضها عن قضيّة الإنسان المظلوم. ويذهب في رأيه مذهباً قصيّاً، إذ يسوّغ أعمال الإرهاب التي تنشأ من المظالم التي تُنزلها المجتمعاتُ الصناعيّة المقتدرة بالشعوب الفقيرة الهالكة. في إثر العمليّات الإرهابيّة التي أصابت الولايات المتّحدة الأميركيّة، يجرؤ في كتابه هذا على تقريع الظالم الأوّل الذي ينتهك حقوق الشعوب المستضعفة. أمّا الردّ الأقصى، فأتاه من اليهوديّة العالميّة التي حرّمت نشر الكتاب في دور النشر التي تخشى الاقتصاص الإعلاميّ العالميّ، وذلك من بعد أن أيّد الفيلسوف حقوق الانتفاضة العنفيّة الفلسطينيّة. بيد أنّ بعض الفلاسفة البارزين من مثل الفيلسوف الألمانيّ يورغِن هابرماس (1929-....) اعتبر أنّ الكتاب نداءٌ إنسانيٌّ أخلاقيٌّ لا يجرّم لا الغرب ولا الشرق، بل يذكّرنا بالمبدأ الإنسانيّ القائل بضرورة مؤازرة الضعفاء ومساندة الفقراء ومناصرة المرذولين.

بين القاموس اللغويّ والمعجم الفلسفيّ

لا بدّ في مستهلّ الكلام من إلقاء البال إلى الاختلاف الدقيق في مصنّفات العمل التنقيبيّ الموسوعيّ، لا سيّما بين حقل اللسانيّات وحقل الفلسفة. يقع التمييز الدقيق هذا بين القاموس اللغويّ ومعجم المفاهيم في العلوم الإنسانيّة، خصوصاً في حقل البحث الفلسفيّ. حقيقة الأمر أنّ القاموس اللغويّ يتناول الكلمات أو المفردات في اللسانيّات، في حين يتحرّى المعجم الفلسفيّ عن المفاهيم في اصطلاحاتها وأوضاعها الفلسفيّة المختلفة. في القاموس اللغويّ يجري تتبّع الكلمة، من مقام الإشارة إلى موقع الشيء الموصوف، في حين ينشط في المعجم الفلسفيّ تتبّعُ الاصطلاح من الشيء الواقع إلى المفهوم المصوغ. ثمّة اختلافٌ آخر بين العملَين، إذ يتصدّر التصوّرُ الوصفيُّ في القاموس اللغويّ، في حين يتصدّر التصوّرُ المعياريُّ في المعجم الفلسفيّ.

وعلاوةً على ذلك، فإنّ القاموس يعتني بوصف الخصائص الصوريّة التي تتّصف بها المعاني، في حين يحرص المعجم على ترتيب المعارف بمعزل عن منطق اللغة الدلاليّ. في أغلب الأحيان، يستند اختيار موادّ القاموس اللغويّة إلى تواتر استخدام المفردة التداوليّ، في حين يقترن اختيار موادّ المعجم بحركة الإنشاء الفكريّ المستقلّ في الأنظومات النظريّة. في سياق آخر، يمكن القول إنّ المادّة اللغويّة مؤلّفة من الجذر الأصليّ، في حين تتألّف مادّة المعجم الفلسفيّة من تواطؤ أجزاء المضامين التي تتناصر على صوغ المفهوم. أضف إلى ذلك أنّ القاموس يعرّف المادّة المختارة أو المفردة بحسب استخداماتها اللغويّة، في حين يعرّف المعجم المادّة الفلسفيّة المصطفاة بحسب منطوياتها الدلاليّة الخاصّة.

تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ الاجتهاد القاموسيّ يعتمد مبدأ كثرة المعاني اللغويّة، في حين يصرّ المعجم الفلسفيّ على استخراج المعنى الواحد المنطقيّ المتماسك واجتناب الكثرة الملتبسة. يؤثِر القاموس اللغويّ التوفيق التآلفيّ بين منطق التعقب الحدَثيّ الزمنيّ التطوّريّ (الدياكرونيا) ومنطق التناول التزامنيّ التحصّليّ الآنيّ (السنكرونيا)، في حين يعتمد المعجم الفلسفيّ في استقصاءاته حصراً على المنطق الثاني. ثمّة اختلافان عمليّان إضافيّان: يلتزم القاموس اللغويّ الترتيب الأبجديّ، ولو أنّ قواميس المترادفات والمتواردات تجمع بين الترتيب الأبجديّ والمفهوميّ، في حين يُحصي المعجم الفلسفيّ المفاهيم ويعتمدها مدخلاً أساسيّاً؛ يخاطب القاموس اللغويّ القارئ العاديّ الحريص على فهم معاني الكلمات، في حين يتوجّه المعجم الفلسفيّ إلى أهل الاختصاص الدقيق.

خصائص معجم أكسفورد الفلسفيّ

أعود إلى الجهد الذي بذله تِد هوندريتش في تنسيق أعمال المعجم الفلسفيّ الإنغليزيّ الذي أراده وسيلةً فاعلةً من وسائل نشر المعرفة الفلسفيّة الصحيحة السليمة المنعتقة من سطوة الأيديولوجيات الخانقة. لذلك ينطوي "دليل أكسفورد في الفلسفة" على 2200 مادّة معجميّة، شارك في إنشائها 291 باحثاً. صدرت الطبعة الأولى العامَ 1995، والثانية العامَ 2005. تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ الطبعة الثانية المنقّحة من هذا المعجم استدخلت 300 مادّة جديدة مُستلّة من اختبارات الناس، ومختبرات العلوم الإنسانيّة، وحقول الفكر الفلسفيّ.

من خصائص القاموس الفلسفيّ هذا أنّه يُفصح عن حال الفلسفة والعلوم الإنسانيّة في البيئة الفلسفيّة الأنغلوساكسونيّة التي تنتسب في تقليدها المتواتر إلى المذاهب التجريبيّة العملانيّة الذرائعيّة النفعيّة. لذلك تتّسم عمليّات الرصد والاستقصاء والانتقاء والتعريف والربط بسمات الفلسفة الوضعيّة التي تبني المعرفة الإنسانيّة على أصول المعاينة والاختبار والتحليل والاستنتاج. يبيّن صاحبُ الدليل في نصّ المقدّمة الإنغليزيّة أنّ الجهد المعجميّ الغالب يؤثِر البيئة الفلسفيّة البريطانيّة وأعلامها البارزين، ولكن من غير أن يُهمل موادَّ فلسفيّة مستخرجة من البيئات الثقافيّة الأخرى. ولشدّة إعجاب المحرِّر تِد هوندريتش بالفيلسوف التجريبيّ الارتيابيّ ديڤيد هيوم (1711-1776)، لم يتورّع عن تسميته بالقدّيس ديڤيد، أعظم الفلاسفة الإنجليز (ص 19).

وعلاوةً على ذلك، ينطوي المعجم، في طبعته الثانية، على موادَّ مستخرجة من اختبارات المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة يتداولها الناس في معاملاتهم اليوميّة، ويذكرها أهلُ الأدب والإعلام والصحافة والسياسة في كتاباتهم وخطاباتهم ومباحثاتهم. يذكر المرء من الاصطلاحات المعرفيّة الجديدة هذه الوعي الحيوانيّ والاستنساخ والمسؤوليّة التشاركيّة والأسرة والعولمة والإرهاب. ثمّة اصطلاحاتٌ قديمةٌ-جديدةٌ انتشرت انتشاراً مختلفاً على ألسنة الناس في مختبرات الحياة التاريخيّة المعاصرة، من مثل السماء والحياة الصالحة والهوى والانفعال والأخلاقيّات الجنسيّة والإعاقة والزومبيّات (Zombies). يحتوي المعجم أيضاً على اصطلاحات مقترنة بسياقات ثقافيّة معاصرة، كاصطلاح القُدريّة (Ableism) الذي ظهر في الثمانينيّات من القرن العشرين، وترجمه الفرنسيّون إلى اصطلاح (capacitisme)، قياساً على الجنسيّة (sexisme) والعرقيّة (racisme).

اقتران العمل المعجميّ الفلسفيّ بالذهنيّة الحضاريّة والبيئة الثقافيّة

لا ريب في أنّ "دليل أكسفورد في الفلسفة" يساعد القارئ غير المتخصّص وطالب الفلسفة في إدراك معنى الاصطلاحات الفلسفيّة الأساسيّة، وفهم قضايا المذاهب الفكريّة الكبرى، والتعرّف إلى أبرز الفلاسفة، منذ زمن الإغريق الأوائل حتّى يومنا الحاضر. من الواضح أنّ فائدة الدليل الفلسفيّ هذا تتجلّى في جوانب شتّى. غير أنّي أقتصر على ذكر منفعتَين أعاين فيهما جهداً استثنائيّاً: تتعلّق الأولى بوضع مسردٍ إنغليزيّ-عربيّ يشتمل على ضمّةٍ من القضايا الفلسفيّة الكبرى يجمعها في متّحدات مفهوميّة، ويحيل عليها الاصطلاحات الجزئيّة المناسبة؛ أمّا الثانية، فتظهر جليّاً في بناء اللوائح ورسم الجداول وصوغ البيانات التي تستقطب أهمّ الأعمال الفلسفيّة في عصرٍ من العصور أو أبرز الفلاسفة المنتمين إلى مذهبٍ من المذاهب الفلسفيّة الكبرى. لا شكّ في أنّ مثل اللوائح والجداول والبيانات الإيجازيّة الإيضاحيّة هذه تساعد القارئ العربيّ في الإمساك بالخيوط الفلسفيّة الناظمة والإحاطة بالاتجّاهات الفكريّة الرائدة.

أمّا الخصوصيّة الفلسفيّة اللافتة في المعجم، فإنّ "دليل أكسفورد في الفلسفة" يحقّقها تحقيقاً حميداً على قدر ما يحمل إلى القارئ العربيّ إيضاحات مفيدة في حقول الفكر الفلسفيّ المتنوّعة، لا سيّما في نطاق الاختبار الفلسفيّ الأنغلوساكسونيّ. ذلك بأنّ كلّ معجم فلسفيّ أو عمل موسوعيّ إنّما يتّسم بسمات الفكر الناظم في البيئة الثقافيّة التي منها ينبثق وإليها ينتمي. أودّ أن أسوق مثالاً إيضاحيّاً على هذا التباين في إنجاز العمل التنقيبيّ الموسوعيّ. ولكنّ ذلك يقتضي استخراج السمات البارزة في كلّ بيئة ثقافيّة على حدة.

يبحث عالم الاجتماع الألمانيّ فرديناند تونّيس (1855-1936)، صاحب التمييز المعرفيّ بين الجماعة والمجتمع، في القرائن السوسيولوجيّة والبسيكولوجيّة التي تكتنف عمليّة تدوين الاصطلاحات الفلسفيّة (Philosophische Terminologie in psychologisch-soziologischer Ansicht)، ويبيّن أصول المفهَمة أو عمليّة بناء المفهوم بحسب انتساباته المضمونيّة، وترابطاته المعنويّة، وتشابكاته الدلاليّة. في سياق البحث الإبّيستِمولوجيّ المعرفيّ الدقيق هذا، يمكن تناول العمل المعجميّ تناولاً تعليليّاً يربط الاجتهاد المفهوميّ بالذهنيّة الثقافيّة السائدة.

أمّا المثال الأوضح الذي أتخيّره، فيقتضي أن يميّز المرءُ الفلسفات الفرنسيّة والألمانيّة والإنجليزيّة الحديثة بعضها من بعض. لا سبيل إلى ذلك إلّا بواسطة العودة إلى تاريخ الفكر الفلسفيّ الحديث. فالفلسفة الفرنسيّة الغالبة في القرن السابع عشر تجسّدها عقلانيّة دِكارت (1596-1650)، ويؤيّدها مذهبُه العقلانيّ المنتشر في أُوروبّا (سبينوزا، لايبنيتس، مالبرانش، كريستيان ڤولف). استناداً إلى البيئة الثقافيّة هذه، يتّسم العمل الموسوعيّ المعجميّ الفرنسيّ بسمة الانتساب إلى المحضن النصّيّ الأصليّ. ظهر ذلك في الاجتهادات الموسوعيّة التي أنجزها الفيلسوف الفرنسيّ بيار بايل (1647-1706) في قاموسه التاريخيّ النقديّ (Dictionnaire historique et critique)، والفيلسوف الفرنسيّ ڤولتِر (1694-1778) في قاموسه الفلسفيّ المحمول (Dictionnaire philosophique portatif)، والكاتب الفرنسيّ ديدرو (1713-1784) في موسوعته الشهيرة (Encyclopédie) التي أنشأها في صحبة الفيلسوف الفرنسيّ جان لُرون دالامبِر (1717-1783). وما لبثت الاجتهادات الفرنسيّة هذه أن تكلّلت بصدور معجم الفيلسوف الفرنسيّ لالاند (1867-1963). بالاستناد إلى العقلانيّة الفرنسيّة المنتشرة في القرن السابع عشر، يتّخذ العمل الموسوعيّ والمعجميّ الفرنسيّ طابعاً استقصائيّاً يتحرّى عن الشواهد النصّيّة التي يُستلّ منها الاصطلاح، وإليها ينتسب انتساباً تلقائيّاً. من خلال مقارنة الشواهد بعضها ببعض، والبحث عن تطوّر دلالاتها بحسب القرائن والأوضاع والأحوال، تتّضح المضامين المحتشدة في المفهوم عينه، وتتجلّى عناصر التميّز والفرادة التي تضمن للمفهوم مقاماً معرفيّاً خاصّاً. من ميزة المعاجم الفلسفيّة الفرنسيّة أنّها تستخرج خلاصة التناولات وتصوغها في مؤالفة أو تركيب تآلفيّ مقتضب يبيّن غنى المضمون على تعاقب استخداماته.

إذا كانت المعاجم الفلسفيّة الفرنسيّة متأثّرةً بالمذهب العقلانيّ، فإنّ المعاجم الألمانيّة متأثّرةٌ بالمذهب المثاليّ الذي أطلق شرارته كانط (1724-1804)، وطوّره فلاسفة المثاليّة الألمانيّة البارزون فيشته (1762-1814) وشِلينغ (1775-1854) وهيغل (1770-1831). معلومٌ أنّ القرن التاسع عشر الأُوروبّيّ قرنُ المثاليّة الألمانيّة التي أثّرت تأثيراً واضحاً في الذهنيّة الألمانيّة، وفي البحث الفلسفيّ الألمانيّ، وفي العمل المعجميّ الموسوعيّ الألمانيّ، حتّى إنّ المعاجم الفلسفيّة الألمانيّة أخذت، على وجه العموم، تنحو منحى التعريف المفهوميّ الخالص المتّسم بسمات التجريد الذهنيّ والتخليص النظريّ.

في سياق المقارنة عينها، أميل إلى القول إنّ الفلسفة البريطانيّة التي ازدهرت في القرن الثامن عشر (ديڤيد هيوم، جون لوك، جورج بِركلي، أدام سميث، إدموند بُركِ)، وهو القرن الذي يتوسّط القرنَين الفرنسيّ والألمانيّ، فلسفةٌ تجريبيّةٌ براغماتيّةٌ عملانيّةٌ تتناول الفكر في قرائن الاختبار الإنسانيّ التاريخيّ. وعليه، ينعقد العمل الموسوعيّ والمعجميّ البريطانيّ على تحليل الاصطلاح في سياقه التباحثيّ التداوليّ، واستصفاء آثاره في حياة الإنسان الواقعيّة. وما المعجم الفلسفيّ الأكسفورديّ سوى الدليل على القربى الفكريّة العضويّة هذه.

الاجتهادات الاصطلاحيّة

لا يتّسع المجال هنا للاستفاضة في مثل المقارنة الفلسفيّة التاريخيّة المفيدة هذه. لذلك سأعرض عنها وأعود إلى الدليل الفلسفيّ الصادر لكي أدقّق في بعض اجتهاداته وتعريباته. الحقيقة أنّ المترجم اجتهد فأصاب في مواضع شتّى. ثمّة محاولاتٌ تفصح عن جرأة النحت والاشتقاق في اصطلاحات وأوضاع كثيرة. أعجبتني تعابيرُ فذّةٌ من مثل الطبيعة الفيزيقانيّة، والجسيمانيّة، والحدّأدَنيّة (minimalism)، والتأسيسانيّة، إلخ. واستوقفني استخدام عبارة المنطقانيّ (ص 194) قياساً على وزن العرفانيّ للتدليل على الاختصاص الدقيق الذي يضطلع به الفيلسوف في حقل المنطق. استحسنتُ أيضاً رسم أسماء العلم بحسب نُطقها الإغريقيّ أو اللاتينيّ الأصليّ، ولو أنّ المترجم انحرف عن هذه القاعدة، فرسم اسم الفيلسوف الفرنسيّ (Montaigne) على النحو الذي يخالف نطقه الأصليّ (مونتانيي)، في حين ينبغي رسمه رسماً يراعي هذا النطق (مونتِنيُ أو مونتِنيو)، إذ إنّ الفرنسيّين غالباً ما يفخّمون التلفّظ بالجزء الأخير من الاسم. وكذلك الأمر في اسم الفيلسوفة الفرنسيّة دُبوڤوار، إذ لا يجوز استخدام الياء (دي بوفوار)، واسم الفيلسوف الألمانيّ شوبنهاور (وليس شوبنهور)، واسم الفيلسوف الفرنسيّ دِكارت (وليس ديكارت). أمّا مسألة التقاء الساكنَين في اسم الفيلسوف الإلمانيّ هايدغر (وليس هيدغر)، فإنّ الدليل نفسه يرضى بالتقاء الساكنَين في اسم سارتر وكانط. ومن ثمّ، فإنّ ضرورات النطق الألمانيّ تقتضي استخدام الألف من أجل إبراز خصوصيّة المدغم اللفظيّ الألمانيّ (ei). أوّد أيضاً أن أشير إلى التنازع بين منطق الأمانة للنطق الأصليّ ومنطق مراعاة المألوف، لا سيّما في الاختلاف بين رسم نيو إنغلند الذي يراعي النطق الأصليّ ورسم الفلسفة الإنجليزيّة المخالف، في حين تقتضي القاعدة أن يُرسم الحرف الأصليّ عينُه (G) بواسطة حرف الغين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا في الأسماء. أمّا في الاصطلاحات، فأسوق بعض الملاحظات الأوّليّة. لا أستحسن اصطلاح "المنطق المتحفّظ" (Paraconsistent)، إذ إنّ المفهوم ينطوي على مغالطة مبدأ الاتّساق. ذلك بأنّ السابقة (para) تدلّ على المغالطة، لا على التحفّظ. المثال على ذلك البارالوجيسم (Paralogism) الذي يترجمه الناقلون في معجم أكسفورد باصطلاح "قياس أغلوطيّ". في جميع الأحوال، ينبغي توحيد ترجمة الاصطلاحات في سوابقها ولواحقها حتّى ينبثق منطقٌ متّسقٌ ناظمٌ يرعى صناعة النقل الفلسفيّ. وكذلك لا أستصوب اصطلاح "القتل رحمةً" تعريباً للاصطلاح الأجنبيّ (Euthanasia)، في حين ألِفت الأذن العربيّة اصطلاح الموت الرحيم الذي يلائم الأصل اليونانيّ، إذ إنّ مفردة الثاناتوس (thanatos) تعني الموت، لا القتل. لستُ متيقّناً من صوابيّة عبارة "العتمة" تعريباً لاصطلاح (Opacity)، في حين يُسعفنا الفعل العربيّ كَمَد للتدليل على ذهاب الصفاء والشفافيّة. مثالٌ أخيرٌ على التباس بعض الترجمات: ليست الكمونيّة تعريباً مناسباً لاصطلاح (Potentiality) المشتقّ من اللاتينيّة (potentia)، إذ تدلّ الكلمة في أصلها على القدرة والاقتدار الناشب في صميم الكينونة. أقترح من الاصطلاحات ما هو أقرب إلى الوَسعيّة والاستطاعيّة والتمكُّنيّة.

أختم باقتراحَين عمليَّين: أتمنّى أوّلاً أن تَعمد مراكز الأبحاث العربيّة إلى الشروع في إنشاء معاجم فلسفيّة تتحرّى عن الاصطلاحات التي وضعها كلُّ فيلسوف على حدة، كما يفعل أهل الغرب حين ينشئون معجماً خاصّاً باصطلاحات كانط أو هيغل أو هايدغر؛ وأحثّ ثانياً جميع الباحثين على ترصّد الأوضاع الفلسفيّة الأجنبيّة المعاصرة العسيرة التي لا نعثر على عديلٍ لها في المعاجم الفلسفيّة العربيّة أو المعرَّبة، لا سيّما تلك الاصطلاحات المستحدثة في أعمال فلاسفة ما بعد الحداثة المبدعين إبداعاً يلامس الهرطقة اللغويّة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة