بقدر ما شكّل نبأ وفاة أكثر من 50 طفلاً بدار أيتام، جنوب شرقي الخرطوم، صدمةً صعقت مشاعر السودانيين بمختلف فئاتهم، لكنه في الوقت نفسه فجّر موجة واسعة من التعاطف والدعم الإنساني في أوساط جميع قطاعات المجتمع السوداني. تُعرف دار الأيتام باسم "المايقوما"، وتسع عدد 400 طفل، وتُؤوي حالياً 318 من فاقدي السند، من عمر يوم حتى ست سنوات، بعدها يوزعون على دور الرعاية الأخرى الملائمة.
جدل وتعاطف
على الرغم من الجدل حول الإعداد والفترات الزمنية لوفيات الأطفال، والأسباب والدواعي والمسؤوليات، فإن النبأ الصادم كان له وجه آخر من حيث رد فعل المجتمع السوداني وموجة التعاطف العارمة نتيجة تسليط الضوء على القضية من كل جوانبها الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية، إذ تدافع السودانيون في اليوم التالي باتجاه الدار، وكبار المسؤولين على مستوى مجلس السيادة وانهمرت المساعدات الغذائية والزيارات التفقدية على مستوى الأسر والأفراد والشركات.
ودفعت الحادثة وفداً رفيعاً من مجلس السيادة الانتقالي ضم عبد الباقي عبد القادر الزبير، وسلمى عبد الجبار المبارك، عضوي المجلس لزيارة الدار والوقوف على الأوضاع هناك، واستمعا إلى تقرير مفصل من مدير عام وزارة التنمية الاجتماعية بولاية الخرطوم أبو بكر كوكو ضحية، ومديرة الدار منى عبد الله الفكي، حول أسباب ازدياد حالات الوفيات أخيراً بالمؤسسة.
دعم سيادي
وأكد الزبير، عضو المجلس السيادة، "ضرورة تقديم الدعم الكامل للدار بما يعين العاملين على أداء مهامهم على الوجه الأكمل، مع أهمية العمل وفق خطة ممنهجة بخصوص دعم الأطفال"، وأشار، وفق تعميم صحافي من مجلس السيادة، إلى "أن ظاهرة الوفيات الأخيرة تستوجب الوقوف عندها ومعرفة أسبابها للتعامل معها بالجدية اللازمة من جميع أطياف المجتمع"، مشدداً على "ضرورة اجتثاث الظواهر المجتمعية السالبة التي تتنافى والقيم السودانية من جذورها"، مؤكداً متابعته الخاصة للجان والتقارير ذات الصلة بموت الأطفال بالدار.
بدورها، شددت سلمى عبد الجبار، عضو مجلس السيادة، على "أهمية تضافر الجهود الشعبية والرسمية لحماية الطفل من الظواهر المجتمعية السالبة التي تؤدي بحياة فاقدي السند، فضلاً عن ضرورة تنظيم حملات توعوية للحد من جميع الممارسات التي تتنافى مع الشرع والعرف".
وفي معرض نفيها لما تم تداوله في وسائط التواصل الاجتماعي ووسائل إعلام محلية مختلفة خلال الأيام الماضية بشأن ارتفاع نسبة الوفيات بـ"دار المايقوما"، وصفت منى عبد الله، مديرة الدار، نسبة الوفيات بالضعيفة جداً، مؤكدة "استقرار الأوضاع، وأن اطلاع وزارة الرعاية الاجتماعية بولاية الخرطوم ظلت تقوم بدورها كاملاً تجاه التزامات الدار".
بدوره، نفى المدير العام لوزارة التنمية الاجتماعية بولاية الخرطوم، أبو بكر ضحية كوكو، وجود أي تقصير أو إهمال في الدار، منوهاً بأن "معالجات تعمل عليها الوزارة للمزيد من تحسين الأوضاع بها، منها زيادة الدخل الشهري للأسرة البديلة إلى 20 ألفاً (42 دولاراً بالسوق الموازية)". وأشار إلى "أن الأطفال الذي يأتي بهم إلى دار المايقوما يتم إحضارهم من أماكن لا تليق بالإنسان، ودائماً ما يكون الأطفال بحاجة شديدة للرعاية الصحية وغيرها"، موجهاً "اتهامات لناشطين بترويج الإشاعات وتضخيم الأمور"، مؤكداً "توفر الرعاية الصحية والغذائية بالدار وعدم وجود أي إهمال أو تقصير من قبل إدارتها".
وأوضح مدير عام الوزارة لقنوات محلية، "أن هناك زيادة كبيرة وغير طبيعية في عدد الأطفال الواردين إلى دار المايقوما خلال 2021 مقارنة بالسنوات السابقة"، مؤكداً "دخول نحو 200 طفل خلال ديسمبر (كانون الأول) ويناير (كانون الثاني) الماضيين"، مشيراً إلى "وجود 53 حالة وفاة خلال هذين الشهرين، لكنها كانت حالات طبيعية".
تدافع العون والمساعدات
حتى وقت قريب كانت دار رعاية الأطفال الأيتام، تستقبل أكثر من 700 طفل سنوياً، وللأسف كثير منهم يصلون الدار بعد تعرضهم لمحاولة التخلص من الفضيحة عبر "الوأد" أو الخنق، أو بالإلقاء داخل حفرة أو مرحاض، أو على بوابة أحد المساجد تخفياً أو على قارعة الطريق مات بعضهم فعلاً، وهو في عمر يوم واحد بنهش الكلاب أو القطط الضالة، أما من أسعده الحظ ومد الله في أيامه يلتقطه بعض المارة أو يبلغون الشرطة بوجوده فيأخذ طريقه إلى "دار المايقوما".
أثناء الزيارة الميدانية للدار، ما بعد نبأ الوفيات الصادم، رصدت "اندبندنت عربية" التدافع الكبير من مؤسسات وشركات وهيئات ومنظمات في تقديم المواد الغذائية المرتبطة باحتياجات الطفولة من أغطية وملبوسات وألبان. عمال ومهندسون جاءوا لصيانة للأجهزة الكهربائية والمطبخ بالدار، كما قدمت القوات المسلحة البرية حمولة شاحنتين من المواد الغذاء والإيواء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي حديثها معنا، أعربت منى عبد الله الفكي، مديرة الدار، عن شكرها وامتنانها لكل المبادرات المنظمات التي تعمل، وما زالت، من أجل خدمة أطفال الدار والتطلع إلى مزيد من التعاطف والتعاون والعون، لكنها بدت عاتبة على ضعف الإقبال على عمليات الكفالة الأسرية والتبني، معربة عن أمنياتها في "أن تتسع حملة التعاطف الراهنة والتفاعل وتتحول إلى نمط إيجابي آخر في عمليات تبني وكفالة هؤلاء الأبرياء، بخاصة أن شروط الكفالة بسيطة وليست بالصعبة، فيما تتكفل الدار بالمتابعة الدورية للمكفولين من خلال كوادرها بمحليات الولاية المختلفة علماً بأنها الدار الوحيدة في السودان".
تضيف مديرة "المايقوما"، "أن غاية أمنياتها أن ترى هذه الدار خالية من أي طفل فاقد للسند"، داعية إلى "تفعيل جميع الجوانب الوقائية في المجتمع للتقليل من حالات الأطفال مجهولي الهوية".
من جانبها، أشارت مسؤولة الحماية بالمجلس القومي لرعاية الطفولة أميرة الأزهري لوسائل إعلام محلية، إلى "الظروف الاجتماعية والنفسية السيئة التي تحيط بولادة واحتضان هؤلاء الأطفال، ما يجعل الطفل بعد الولادة يعاني بعض المشاكل الصحية، إضافة إلى مشكلات ما بعد الولادة التي تواجههم قبل دخولهم لدار المايقوما، مثل نقص الأوكسجين أو الولادة المبكرة، فضلاً عن التهاب الدم". وأوضحت أن "هناك تحديات تواجه الدار، أبرزها وجود نقص كبير في غرف العناية الحثيثة، على الرغم من جهود ومحاولات عديد من منظمات المجتمع المدني لحل تلك مشكلة".
من جانبها، أرجعت عالية عبد الله مدني، الاختصاصية الاجتماعية، ضعف إقبال الأسر السودانية على عمليات التبني والكفالة إلى عدة أسباب، على رأسها "الأوضاع الاقتصادية الضاغطة وما ترتب عليها من ارتفاع كبير في تكاليف المعيشة، فضلاً عن طبيعة المحيط الاجتماعي المنغلق للأسرة السودانية والمحدد بأطر صلات القرابة والرحم كمدخل أساسي تعرف من خلاله الأسر وبنائها فرداً فرداً، إلى جانب العادات والتقاليد التي تجعل بعض الأسر التقليدية تحجم عن كفالة أو تبني أطفال فاقدي السند أو أيتام داخل سياج الأسرة نفسها، إذ يفضل كثير من السودانيين الكفالة غير المباشرة بالالتزام المالي، على التبني والإعالة المباشرة داخل الأسرة، كما أن هناك الكثير من الأسر السودانية المحرومة من الأطفال، لكنها ترفض مسألة التبني لأسباب دينية واجتماعية أيضاً".
خلل اجتماعي
وأوضحت مدني، "أن ظاهرة تزايد الأطفال فاقدي السند، خطيرة وتمثل عرضاً ومظهراً لخلل اقتصادي واجتماعي وثقافي، بالتالي، فإن البحث عن العلاج لا بد أن يكون أيضاً من خلال معالجات ومداخل اجتماعية مع ضرورة تحمل الدولة لكامل مسؤولياتها في كلتا الحالتين، ناهيك بأن أهم المشاكل التي تواجه الذين يعيشون ويكبرون من هؤلاء الأطفال المساكين هو نبذهم من قبل المجتمع والنظرة الدونية له".
جدير بالذكر أن دار المايقوما أنشئت في عام 1961 بسعة 400 طفل، وكانت عبارة عن مستشفى لصحة الأمومة والطفولة تتبع لوزارة الصحة، يتم استيعاب الأطفال فيها من جميع أنحاء السودان فهي الوحيدة بها، وكانت تتبع وقتها وزارة الصحة، ثم تحولت لاحقاً إلى إشراف وزارة الشؤون الاجتماعية منذ عام2009 ".
وبحسب تقارير سابقة، تتزايد في السنوات الأخيرة إعداد الأطفال الذين تستقبلهم الدار، إذ قفز العدد في عام 2000 إلى 100 طفل، ثم إلى 400 خلال أربع سنوات، ما يشكل ضغطاً مستمراً على إمكانات المادية والبشرية وطاقتها الاستيعابية، في ظل التدهور المستمر للأوضاع الاقتصادية مستصحباً معه تدهوراً اجتماعياً ملازماً. ومع تضاعف عدد الأطفال الرضع ترتفع أيضاً نسبة الوفيات بنسب متفاوتة من عام إلى آخر.