سؤال يشغل النقاد والمؤرخين السينمائيين منذ وُجدت السينما بالمعنى الحرفي عند نهايات القرن التاسع عشر وراحت تطل على حكايات التاريخ، كما راحت تصور ما يحدث حقاً وكأنها تدوّن تاريخاً حقيقياً: هل تصلح الصور السينمائية لتحكي عما حدث حقاً في التاريخ؟ بكلمات أخرى: هل يمكن اعتماد المشاهد المصورة كوثائق يمكن الركون إليها للحكي عما حصل؟ ويعرف المعنيون بمثل هذه المواضيع أن السجالات حول مثل هذا الموضوع لم تتوقف. لكنهم يعرفون أيضاً أنه في وقت يمكن الاستعانة إلى حد ما بمشاهد صوّرتها الكاميرات لأحداث حقيقية، سيكون من غير المنطقي دائماً القول إن ما يصوره مبدعون في أفلام يتخيلونها، أي في أفلام روائية، يمكن النظر إليه على أنه إعادة إنتاج لتواريخ محددة ولكن عبر نظرة المبدعين الذين اشتغلوا عليها انتفاءً وبحثاً وابتكاراً، بالتالي فإنها تنتمي في أحسن الأحوال إلى نظرتهم المفسرة والمحللة لما "حدث حقاً"، نظرة لا يمكن بالطبع اعتمادها كحقيقة مطلقة. ما يضعنا أمام حكاية العميان الذين وُضعوا أمام فيل وطُلب منهم تعريفه، فقال من أمسك أذنه أنه قطعة قماش ومن أمسك قوائمه أنه أساسات عمارة تُبنى وهكذا.
نقاشات المئوية
انبعث نقاش مثل هذا خلال الاحتفالات التي أقيمت سينمائياً، أي عبر تحقيق أفلام عدة في بلدان شتى بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لولادة الفن السابع قبل نحو ربع قرن من الآن. ودارت السجالات يومها حول عدد من أفلام تتناول تواريخ سياسية وحربية وسينمائية وما إلى ذلك، فانبرى مؤرخون ونقاد لِيُفتوا بعدم الحديث عنها بوصفها "سينما تاريخية". وتركز السجال بخاصة حول فيلمين هما "أندرغراوند" لليوغوسلافي إمير كوستوريتزا، و"نظرة أوليس" لليوناني ثيو أنجيلوبولوس. وكان الفيلمان يربطان بين السينما وجزء من تاريخ كل من هذين البلدين. ومن الواضح أن اليوناني كان الأكثر تأثراً بالسجال الذي أجمع المشاركون فيه أن فيلمه ليس تاريخياً على عكس فيلم كوستوريتزا الأقرب الى أن يكون غوصاً في التاريخ، وذلك على الرغم من أن فيلمه يتحدث هو الآخر عن حرب البلقان، مع فارق أساس يكمن في أن كوستوريتزا يجول في الزمان، بينما يجول أنجيلوبولوس في المكان، للحديث عبر ثلاث ساعات لكل منهما عن علاقة السينما بالتاريخ. وربما كانت المشكلة مع أنجيلوبولوس أنه انطلق في مشروعه من أساس سينمائي: فبطله أوليس المعاصر إنما يتجول في بلدان البلقان طولاً وعرضاً، بعدما ظل عقوداً من الزمن منفياً في الولايات المتحدة للبحث عن لفافتي فيلم خرافي، كان من أول الأفلام البلقانية حققه الأخوان ماناكيس رائدا السينما في اليونان والبلقان. لقد عرّف أنجيلوبولوس فيلمه يومها بأنه "بحث عن نظرة ضائعة، وعن براءة مفقودة"، وهو يقصد بالنظرة والبراءة، نظرة السينما إلى الواقع في بداياتها، وهو يضع تلك النظرة في تعارض مع الصور الراهنة التي تصور حرباً، أو بالأحرى حروب البلقان.
حكاية "A" العائد دائماً
إذا كان الرجل الذي يطلق عليه الفيلم اسم "A" مثل أنجيلوبولوس طبعاً، عاد من منفاه ليذرع البلقان طولاً وعرضاً عبر رحلة تشبه إلى حد كبير رحلة بطل ملحمة الأوديسة والإلياذة، فيعاصر حروب هذا البلقان العجيب، فإن نظرة "A" إلى كل ما يحدث لا تزال مطعّمة بالبراءة الأولى التي كانت طبعت نظرة الأخوين ماناكيس إلى بلقانهما في ذلك العصر المبكر من عصور المذابح.
أمام هذا التوازي والتقاطع بين نظرة الأخوين ونظرة "A" ونظرة أوليس، لا يعود من المهم أن يثبت لنا أن لفافتي الفيلم الأسطوري موجودتان حقاً، أو أنهما لم يصورا من الأساس، أو أنهما صُوّرا ولم يحمّضا، فبراءة السينما في أيامها الأولى، ليس المهم أن نعثر اليوم على دليلها الحسي، المهم أن تشكل بالنسبة إلينا ذريعة لنظرة جديدة، أو تعويذة ولو وهمية ضد نظرة الواقع الشريرة المدمرة. وبهذا المعنى، يضع أنجيلوبولوس براءة السينما في صباحاتها الأولى، على تعارض مع ما يراه ويختبره "A".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقيناً أنه بهذا وضع تعريفاً جديداً لعلاقة التاريخ بالسينما. لكنه ظل على عطشه سنوات قبل أن يقيّض له أن يعود الى تلك التيمة ذاتها في اقتراب من التاريخ كان يريده توسيعاً لتلك الفكرة. فكان مشروعه المدهش المسمّى بـ"المروج النديّة" الذي لم يُتِح له القدر أن يستكمله مكتفياً بجزئه الأول (2003) وبإنجاز الثاني بعنوان "غبار الزمن" (2008)، في وقت اصطحب المبدع إلى قبره فكرة الجزء الثالث.
من أوديسا إلى نيويورك وأبعد
الغريب في الأمر أن الثلاثية التي تتحدث بوضوح عن تاريخ البلقان بصورة عامة واليونان بصورة خاصة، لا تبدأ في أي منطقة من مناطق البلقان ولا تنتهي في أي منها. فالمخرج الذي أراد التعبير عن تاريخ القرن العشرين جعله شديد الخصوصية. جعل موضوعه يستشفّ من خلال حكاية حب متعددة الأطراف تجتاز القرن العشرين، بدءًا من غزو الجيش الأحمر الروسي لمدينة أوديسا على البحر الأسود عام 1919 لتنتهي في الزمن الراهن لزمن إعداد الجزء الأول من الفيلم في نيويورك. وطوال أعوام ذلك القرن الذي نعرف أن إريك هوبسباون يسمّيه "أقصر قرن في التاريخ"، بادئه مع الثورة الروسية التي أسست الاتحاد السوفياتي خاتمه مع انهيار هذا الأخير، طوال تلك السنوات التي بالكاد تتجاوز الـ75 عاماً، يضعنا هذ العمل أمام الحب والألم، والانتصارات والحروب، والهزائم والمنافي والانفصالات والتوهان، أمام سقوط الأيديولوجيات وانبعاث غيرها، ليجري الكل في نهر يتألف ماؤه من غبار الزمن.
ولئن كان الجزء الأول، "إيليني" أو "المروج النديّة" يغطي الأعوام من 1918 – 1919 إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن أحداثه الرئيسة تدور حول حقبة تصل ذروتها مستعارة من فيلم سابق للمخرج نفسه هو "رحلة الممثلين" (1975) ليروي معاناة عائلة تعود إلى اليونان بعدما كانت هربت منها إلى أوديسا. وتتبنى في طريقها الفتاة اليتيمة إيليني التي يركز الفيلم على مسارها في الحياة، بالتوازي مع مسيرة التاريخ اليوناني، وكذلك من خلال التوأمين اللذين تنجبهما إيليني حين تكبر، من غير خطيبها الموسيقي، فيُرسَلان إلى البعيد. فيما سيحدث لإيليني لاحقاً أن ترغم على الزواج من متبنّيها، لكنها يوم العرس تهرب مع الوالد الحقيقي للتوأمين إلى تيسالونيك حيث يجتمع شمل العائلة مع الولدين، ولكن ليس لزمن طويل، إذ سرعان ما تتمزق حياتهم العائلية بفعل الحرب العالمية الثانية، ثم الحرب الأهلية اليونانية.
من اليونان إلى العالم
إذا كان الجزء الأول هذا قد أتى بلقانياً – يونانياً، فإن الثاني، "غبار الزمن" سيكون أكثر كوزموبوليتية، إذ مقابل الممثلين اليونانيين الذين قاموا بالأدوار في الأول، هناك مجموعة من نجوم عالميين سيقومون بأدوار الثاني، ناهيك عن أن تصوير "غبار الزمن" يتوزع على اليونان وإيطاليا وروسيا وأميركا وهولندا وألمانيا وكازاخستان وغيرها تبعاً لتنقّل الشخصيات بين مكان وآخر لكي لا نقول بين منفى وآخر، وذلك حول سينمائي أميركي يتلقّى من ابنته المقيمة في روما رسالة تضطره إلى الانتقال على الفور إلى شقتها في روما حيث يعثر على رسالة مرسلة من أمه التي ليست على الأرجح سوى إيليني نفسها (علماً أن كلمة إيليني تعني اليونان أيضاً، ما يفتح على كل التفسيرات الرمزية للاسم بالطبع)، إلى أبيه سبيروس تعود إلى عام 1953. وهنا انطلاقاً من تلك الرسالة التي مضى على كتابتها نحو43 عاماً، نعود من خلال ذاكرة هذا السينمائي، الأميركي اليوم، إلى بداية الخمسينيات لنتابع مآسي التاريخ البلقاني ولكن بشكل خاص، التاريخ اليوناني من خلال البشر أنفسهم ونفس الآلام والأحلام الخائبة وضروب المنافي والانتظار، ما يغطي هذه المرة القسم المتبقي من القرن العشرين ويجعلنا بالطبع نتساءل عما كان من شأن الجزء الثالث من "الثلاثية" أن يتناوله بالنظر إلى أن أنجيلوبولوس الذي سيرحل بعد فترة من إنجاز "غبار الزمن" وعرضه الذي لقي استقبالاً نقدياً وجماهيرياً أتى أقل حماسة بكثير من نظيره الذي كان من نصيب "المروج النديّة"، سيرحل عن عالمنا في حادث سير من دون أن يكون قد تحدث كثيراً عن مشروع خاتمة الثلاثية، معلناً فقط عنوانه المفترض "العودة".