Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سمر نور تخلط الأساطير وألعاب الفيديو في عالم واقعي

شخصيات ووقائع لا تفصل بينها حدود الافتراض في رواية "تماثيل الجان"

لوحة للرسام المصري عبد الهادي الجزار الذي يرد ذكره في الرواية (صفحة الفنان على فيسبوك)

ليس هناك من عالم ثابت في رواية "تماثيل الجان" (دار المحروسة- القاهرة) للكاتبة المصرية سمر نور، فكل ما يسرد عن الأبطال والأحداث، يمكن نقضه للبدء في رؤيته من وجهة نظر مختلفة. فالوقائع لا ينفصل آنيها الحاضر عن الماضي المجنون المغزول بالأساطير؛ والواقع هنا غير صاف إطلاقاً، يعكس حالة من الذهانية المسكونة داخل الأبطال جميعاً. تحكم العمل مجموعة من الخطوط المتداخلة معاً، في شكل يصعب تمييزه. فبين الفانتازيا والعبث والجنون، والهوس الافتراضي، تمضي الشخصيات جميعها باحثة عن وجودها الواقعي والمتخيل، وكل منها يستدعي الآخر ضمن علاقة مهتزة بالعالم: عمر، الجني، دنيا، ولكل منهم تخيلاته وحقائقه الممثلة لهويته، التي لا يعرفها الآخر والمختلفة بالضرورة عما يمكن توقعه.

تتكون الرواية من ثلاثة عشر فصلاً، بالتبادل بين "ما رواه عمر"، و"ما رواه الجني"، وتمثل البطلة دنيا العنصر النسوي الحاضر الغائب في الرواية، يرتبط بها جوهر وجود "الجني" الذي جاء إلى هذا العالم من أجلها. ويرتبط بها عمر أيضاً، لكنها تظل غائبة بشكل قسري، مما يجعل غيابها أكثر إيذاء على المستوى المادي والمعنوي بالنسبة لكلا البطلين، فكل منهما يبدو شريداً ومتورطاً في مأزقه الوجودي الخاص. فمن هي دنيا التي يبحث عنها الجني ويثق أنها ستعود إليه؟ على أن يمضي عمر حبيبها، محللاً الافتراضات العقلية لغيابها، كأن يكون مرضه الغامض هو الذي قادها للرحيل.

يعرف الجني طفولة دنيا منذ لحظة ميلادها، يحكي عن عالمها الطفولي، عن ماضيها المرتبك بكل ما فيه، بينما عمر يرتبط معها باللحظة الآنية المعاصرة التي انشطرت فيها ذاتها، بين امرأة حقيقية تمارس الحياة بكل صخبها وثوراتها واضطرابها، وأخرى تنزلق إلى عالم ألعاب الفيديو كي تخترع لعبة وتبيعها للشركة المنتجة. هكذا تشكل دنيا ذاتاً منسلخة عن الواقع ومشتبكة مع كل ما يمنحه الخيال من ترف. فإلى أي منهما تنحاز في حضورها واختفائها؟ إلى واقع عمر بكل دلالات علاقتها المحسوسة معه بما فيها من هزيمة في الجسد والروح، أم إلى خيالات يتآخى فيها العدم والوجود والفن، في تضافر تحدسه دنيا من دون أن تقدم له تفسيراً سوى في اندفاع شغوف بتلوين القواقع من جهة، ونحو تكنولوجيا غامضة تفصلها عن الحياة اليومية، من جهة أخرى.

حقيقة اللعبة والأسطورة

من المهم التوقف عند مستويات اللغة في "تماثيل الجان"، إذ تمضي في أكثر من اتجاه، فهي تبدو واقعية ومضطربة مع سرد عمر، فيما تنغمس في تلقائية شاعرية مع بوح الجني. هذا التميز على مستوى اللغة ساعد في التمهيد أيضاً لتداخل المضمون الحكائي، وفي حضور أجواء العالم الافتراضي مع ألعاب الفيديو التي تتسلل إلى الحكاية فتنسج شبكة من العلاقات المتخيلة. يمضي هذا النص في محاكاة مختلقة للعالم من حولنا، لا يتجاهل أي تحول سياسي أو اجتماعي أو تكنولوجي لاهث يسربل حياة البشر، إذ ليس من حقيقة مجردة مهما حاولنا تبني أي وجهة نظر. فالحقائق مسكوبة في بوتقة من الشك غير المنحاز إلى شيء، والمرض والغياب والاختفاء والوهم، حقائق موضوعية تحضر لتكشف عن مدى الهشاشة الفادحة التي تسكن الأبطال وتحكم حيواتهم.

تشتبك الرواية مع أسطورة "البن والجان" الذين سكنوا الأرض قبل البشر، هذه القصة التراثية تتواجه مع حقيقة المركزية البشرية في هذا الكون الشاسع، والقدرة على مساءلة ما توصلنا إليه من علوم ومعارف لم تمنحنا إجابات تامة على أسئلتنا. وتبدو شخصية "الجني" أكثر حساسية وإنسانية من البطل عمر، الذي يبدو في بعض المواقف أنموذجاً نمطياً للرجل التقليدي في كل هزائمه وانكساراته ورؤيته للمرأة، وطريقة تعامله معها، وطبيعة ارتباطه بها.

مأزق الجسد

تقوم دنيا بإعداد الفيديوهات عن فلسفة ألعاب الفيديو المأخوذة بها حتى النخاع، وبهذه الطريقة يلتقي عمر بها، يقع في حبها عبر غواية صوتها وهي تشجع اللاعبين على تكرار اللعبة قائلة: "يمكنك أن تحاول مرة أخرى". ترتبط دنيا بالقواقع ولوحات التشكيلي عبد الهادي الجزار، ومن المعروف عن هذا الفنان انجذابه إلى عوالم ماورائية تحضر بشكل جلي في لوحاته. من هنا تتجلى في الرواية رمزية حضور "القواقع" التي تحبها دنيا وتعمل على تلوينها بالأحمر، مع استدعاء لوحة "عاشق من الجن". هكذا يجد القارئ نفسه أمام تقاطع ثلاثي، يجمع بين دنيا وعمر والجني، عبر تداخل اللعبة الفنية في الرسم والألوان، لتربط خيوطها بين الأبطال.

ثمة لعبة تنبني عليها الرواية في وجود خيط واه بين الحضور الجسدي للأبطال، والحضور الدلالي، حيث هناك علاقة ملتبسة مع الجسد. عمر مثلاً يعاني من مرض غامض ليس له اسم، مسامات جسده تنزف دماً لا يراه سواه، ولا تفسير منطقياً للأمر. لذا يفكر بشكل مراوغ في اللجوء إلى تفسيرات غيبية لا يؤمن بها. دنيا تفوح من جلدها رائحة غزل البنات التي تشد عمر إليها وتستدعي داخله طفولة بعيدة، فيظل حضور جسد دنيا آسراً بالنسبة له. أما الجني فليس له جسد ولا وعي، أمرته "مولاته" دنيا بأن يسكن التمثال، وهو منذ ذلك الحين يرى وجوده من خلالها. رؤيته للعالم لا تنفصل عن رؤية دنيا، هي التي أخبرته أنها كانت معه قبل أن يتكون العالم، حين كان هناك غيمة، وكان العدم، ولم تكن هناك أفكار أو معان، لنقرأ: "أنا مسجون داخل تمثال، كان سكني فأصبح محبسي. في البدء، لم أكن أعرف معنى لـ"أنا" تلك، أتهادى برقة النسمات، أو أحطم الشبابيك والأبواب كعاصفة، ولا أعي أنني فعلت ذلك. في مسافات لا أعرف مداها، عشت زمناً لا أستطيع تقديره، وكيف أفعل! فالمكان أو الزمان حيث كنت لا شيء سوى الخواء والصمت، لم أكن أعرف أنه خواء، أو أن هناك ما يسمى الصمت، هكذا علمتني "دنيا" بعد أن أسرتني بعينيها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تملك دنيا، وبما يحمله اسمها من مدلول، تأثيراً قوياً على عمر وعلى الجني. يخاطب عمر الجني قائلا : "لا أملك أن أعصي أمرها أيها الغريب، ولا أعرف خريطتي من دونها". فالجني يدرك وجود عمر وارتباطه بدنيا، في الوقت الذي يظل عمر محبوساً ضمن حدوده الجسدية وحواسه الخمس، عمر لا يؤمن بالغيبيات، ولا يمنح أي تفسير غامض للواقع، هو يقتنع بما يراه فقط.

تطرح الرواية أيضاً صورة متشظية عن الواقع المعيش في مصر، تداخل طبقاته، واختلاف قناعاتها الحياتية وردود أفعالها على ما يدور حولها. هناك الشيخ محمد الذي يدعي امتلاك قدرات خارقة، وياسمين صديقة دنيا ذات الساق المعدنية، وريم الشغوفة بالتصوير والحرية، ووالد عمر الذي يمثل الجيل الأكبر وقد مسحت ذاكرته نتيجة الزهايمر، وحفيده زياد الذي خسر جولته مع الحب، بينما عمر الذي بلغ الأربعين من عمره ينتظر شروق الشمس بشغف الموت.

في الفصل الأخير يكون على عمر أن يؤكد أو يدحض نبؤة الشيخ محمد الذي أخبره عن موته الوشيك في تلك الليلة. لذا يقرر الانغماس في تجريب لعبة تماثيل الجان التي أطلقتها الشركة في نسخة تجريبية، واللعبة فيها حكاية الأرض كما سجلت بصوت ثلاثة مخلوقات، سكنوا الأرض عبر العصور: كائنات النور والنار، كائنات الماء والطين، وكائنات الحديد. ولا منتصر في هذه اللعبة، لأن المنتصر مهزوم. تتداخل الأساطير في اللعبة بين "البن والحن" و"بائع غزل البنات" و"الرجل الملون" و "زارعة الورد".

قد يبدو لقارئ رواية "تماثيل الجان" أن ثمة ابتعاداً بين خطوط الحكايا المتشعبة فيها، غير أن كل واحدة منها تؤدي إلى أخرى في سياق شبكة العلاقات التي عمل الفن على تذويب الحدود الفاصلة بينها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة