Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروائي فرنسوا وويغران الراحل... دخل الأكاديمية الفرنسية بصفته مهرجا

النقاد انقسموا حول ظاهرته الفريدة بعدما قطف أبرز الجوائز

الروائي الفرنسي الراحل فرنسوا وويغران (يوتيوب)

كان النقاد الفرنسيون يصفون الكاتب الفرنسي البلجيكي الأصل فرانسوا وويغران الذي رحل قبل أيام عن 77 سنة بـ"المهرج"، ولم يكن هو يعترض على هذه الصفة بل كان يرحب بها قائلاً "لكنني مهرج ذو رسالة". وكان هذا الروائي والسينمائي الأشد طرافة بين أقرانه قد أصدر أصلاً في العام 1973رواية أولى بعنوان "المهرج" وحاز عنها جائزة روجيه نيمييه، وهي تدور حول مريض يخضع لجلسات من التحليل النفسي لدى محلل معروف يلقب بـ"الوزير الكبير" فيتحول الحوار بينهما إلى ما يشبه حواراً هزلياً وكأنهما في "سيرك". وكتب بعض النقاد أن الكاتب قصد بالمحلل النفساني هذا عالم النفس الكبير جاك لاكان. وكانت هذه الرواية بمثابة خطوة أولى وراسخة شقت الطريق أمام هذا الشاب الموهوب ليصبح واحداً من أبرز رواد الرواية الحديثة وما بعد الحديثة. لكنّ وويغران لم يكن روائياً فحسب، فهو جاء إلى الرواية من عالم السينما، ناقداً في مجلة "دفاتر السينما" الشهيرة ومخرجاً أنجز أفلاماً عدة قصيرة، أحدها عن الراقص ومصمم الرقص العالمي موريس بيجار، وفاز فيلمه الطويل الوحيد "فيلم عن أحد ما" بجائزة في مهرجان البندقية السينمائي عام 1972. وفي العام 1992 فازت روايته "جنون الملاكم" بجائزة رونودو المعروفة وفي العام 2005 تمكنت روايته "ثلاثة أيام عند أمي" من مواجهة رواية "النجم" ميشال وويلبيك "احتمال جزيرة" وخطفت جائزة غونكور الشهيرة. وكان النقاد قد انقسموا حول رواية "ثلاثة أيام عند أمي" حين صدورها، مدحها بعضهم وانتقدها بعضهم. أما الحدث الكبير الذي وسم مسيرة وويغران ومساره الأدبي فكان انتخابه عضواً في الأكاديمية الفرنسية أو "مجمّع الخالدين" عام 2009 ليحلّ محل الروائي آلان روب غرييه. وكان لانتخابه صدى كبير في الأوساط الأدبية الفرنسية المنقسمة حوله. وقد أثار وويغران حفيظة أعضاء الأكاديمية "المحافظين" و"التقليديين" عندما تأخر ربع ساعة عن الاحتفال بتنصيبه في الأكاديمية وتسليمه "السيف" الشهير.

ولئن كتب فرانسوا وويغران نحو خمس عشرة رواية، خالقاً عالماً تخييلياً جديداً وغير مألوف سابقاً سواء بوقائعه أو بشخصيته وأبعاده النفسية والفكرية، ومنها روايته الطريفة جداً "حياة طفل" التي يجعل بطلها طفلاً في بطن أمه، فإن روايته المهمة والفريدة هي "ثلاثة أيام عند أمي" التي تنتمي إلى الأدب المابعد - حداثي ليس لكونها تشك في العمل الروائي نفسه فقط وإنما لأنها تشك في شخصية الروائي فرنسوا وويغران الذي ينقلب في الرواية إلى ثلاث شخصيات تؤدي درو الروائي نفسه، وكأنها ثلاثة قرائن له تتولى فعل السرد عوضاً عنه. هل هي حال "التشظي" تدفع الروائي إلى أن يتعدّد معبراً عن مرض "الانفصام" الذي يصيب الإنسان في المجتمع المعاصر؟ أم أنها مجرد لعبة روائية يمسك الكاتب خيوطها بذكاء ولكن ليؤديها كما لو كانت لعبة عبثية؟ لا شك في أنها رواية الشك بامتياز، بل رواية تنقسم إلى أكثر من رواية لئلا تنتهي، هي التي بدأت من غير أن تبدأ مثلما تبدأ الروايات عادة. فالراوي الذي سماه الكاتب (الحقيقي) فرنسوا وييرغراف يختلق بدوره راوياً يسميه فرنسوا غرافينبرغ وهذا بدوره أيضاً يسمي بطل روايته التي يؤلفها فرنسوا وييرشتاين. إنهم ثلاثة رواة يختلقهم الكاتب الحقيقي ليروي عنهم حيناً وليجعلهم يروون حيناً آخر، كأبطال، أو أشباه أبطال، هم صورة مستنسخة عنه، هو الذي يعاني أزمة في الكتابة ولا يتوصل إلى إنهاء الرواية التي ينتظرها القراء، وأمه كذلك والتي سيكون عنوانها "ثلاثة أيام عند أمي" كما يدل العنوان أصلاً.

نحو اللارواية

يتعمد وويغران جعل روايته أقرب إلى اللارواية، مع أنه خلال كتابتها، استطاع أن يكتب سيرته ولكن من خلال الراوي الأول الذي لن يتمكن إلا من إنهاء ثلاثة فصول من الرواية المنتظرة، وهذه الفصول لا علاقة لها بحياة الأم، أم الراوي نفسه. ففي الصفحة 161 يفاجأ القارئ بأن غلافاً داخلياً يحتل الصفحة معلناً بداية رواية تحمل العنوان نفسه "ثلاثة أيام عند أمي"، واسم الراوي الأول فرنسوا وييرغراف وليس اسم الكاتب الحقيقي. وهنا تبدأ رواية أخرى ذات ثلاثة فصول يسرد الراوي الأول فيها حكاية راو ثان يدعى فرنسوا غرافينبرغ يعيش مغامرة عاطفية في مدينة غرونوبل ويسعى إلى كتابة رواية يدعى الراوي فيها فرنسوا وييرشتاين. إنها لعبة رواة أو قرائن. فالكاتب يروي عن راو يروي عن راو يروي بدوره عن راو... حتى ليسأل القارئ نفسه: أين هي الرواية، بل أين الأحداث، خصوصاً عندما تختلط حياة الرواة بعضها ببعض حتى لتبدو كأنها حياة متقطعة.

كان لا بد من أن يعترف الراوي الأول بأنها ليست المرة الأولى التي يختار فيها نموذج "الكاتب" راوياً وأن الكتّاب في رواياته هم مكتئبون عادة ويعيشون أزمة مع أنفسهم ومع المال والجنس والعائلة... إنها إذاً الأزمات التي يحياها الراوي قبل شخصياته. وهكذا يصبح الراوي الثاني شخصية مثل سائر الشخصيات، سواء عندما يتحدث عنه الراوي الأول أم حين يتحدث هو الراوي الثاني عن الآخرين. والراوي - القرين ليس إلا نسخة "مستنسخة" عن الراوي الأول وعن الكاتب أيضاً، فهو "سيغلق على نفسه ليكتب ثم يتلهى بأمور". تختلط وقائع الحياة اليومية والتفاصيل بالذكريات القريبة والبعيدة ويبدو الكاتب بارعاً في الانتقال من زمن إلى آخر، ومن بيئة إلى أخرى. وتحضر الطفولة مثلما تحضر سنوات اليفاع والدراسة وسنوات الشباب، ناهيك بالحياة العاطفية والفتيات أو النسوة اللواتي ملأنها.

وإذا كان هاجس الراوي الأول كتابة رواية عن أمه، رواية يعجز عن إنهائها، فهو يدرك جيداً ما قالت له أمه في الختام: "لم أعطك نهاية لكتابك، ولكنني أعطيتك سقطة". وكانت الأم سقطت في حديقتها ومكثت ليلتين منطرحة فوق العشب غير قادرة على الحراك. وعندما اكتشف ابنها أو الراوي، وبناتها الأمر أسرعوا إليها ونقلوها إلى المستشفى. وكان على الأم التي أنهت الثمانين أن تهلوس خلال فترة العلاج مستعيدة حكايات غريبة من ماضيها. وفي ختام الرواية يقول الراوي، بعدما أيقن أن الرواية انتهت: "قضيت أخيراً هذه الأيام الثلاثة، عند أمي، عندها ولكن من دونها". إنها الأيام الثلاثة التي أشار إليها عنوان الرواية.

المزيد من ثقافة