Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سياسات خاطئة وراء أزمات الطاقة العالمية

"مشكلة بعض الدول أنها تسرعت في التخلص من الفحم والطاقة النووية، من دون إيجاد كميات كافية من الطاقة المتجددة للتعويض في كل الأوقات"

تُعد الطاقة النووية والفحم من المصادر كثيفة الطاقة، بعكس الطاقة الشمسية والرياح (رويترز)

تشكل عودة بعض الدول الأوروبية إلى استخدام الفحم في توليد الكهرباء، وعودة بعض محطات الكهرباء في شمال شرقي الولايات المتحدة إلى استخدام النفط في توليد الكهرباء، أكبر دليل على أن خطط الحياد الكربوني المعلَنة لم تتم دراساتها بعناية، وأنها أبعد ما تكون من الواقع. أضف إلى ذلك الارتفاع الكبير في أسعار مصادر الطاقة المختلفة، بخاصة الكهرباء، نجد أننا أمام خطأ تاريخي كبير، وقد يستمر بالتضخم حتى ينفجر. المشكلة أن أزمة الطاقة هذه قد تستمر سنوات، وما يزيد الطين بلة أن بعض الحكومات مصرة على الاستمرار في الطريق الخطأ.

ولعل من أكبر الأخطاء الركض وراء خفض التكاليف على حساب أمن إمدادات الطاقة. والحقيقة المؤسفة أن الأزمات المالية التي عصفت بالعالم في عامَي 1998 و2008، كان سببها الهندسة المالية التي اخترعها خريجو ماجستير إدارة الأعمال في أشهر الجامعات العالمية. فقد كان أمثال هؤلاء مَن أقنع المسؤولين في الحكومات والشركات بأنه يجب التخلي عن العقود طويلة المدى للغاز والغاز المسال المرتبطة بأسعار النفط، والتركيز على الشراء من الأسواق الفورية، حيث يُسعَّر الغاز بشكل حر مستقل عن النفط. هذا التحول حقق وفورات كبيرة للمشترين على المدى القصير عندما انهارت أسعار الغاز، ولكن كما حذر الخبراء، فإن الثمن على المدى الطويل باهظ جداً. وهذا فعلاً ما حصل، إذ ارتفعت أسعار الغاز والغاز المُسال إلى مستويات تاريخية، وكانت أكثر الأطراف خسارة هي التي تخلت بالكامل عن عقودها طويلة المدى. أما من أبقى تلك العقود، فقد حقق وفورات ضخمة من جهة، ولم يعان من شح في إمدادات الغاز أو الكهرباء من جهة أخرى.
وكان التحول إلى الأسواق الفورية تغيراً هيكلياً في أسواق الطاقة، وكان الثمن عالياً، والأمل أن تدرك الدول والشركات أهمية أن يكون هناك توازن في ملف الطاقة بين التكاليف وأمن الإمدادات. هذا التوازن مفيد للعالم أجمع لأن المنافسة على إمدادات الغاز المسال عمقت الأزمة من نواح عدة. مثلاً، جعل ارتفاع الأسعار بعض الدول تبيع شحنة غاز مسال إلى دولة أخرى، فتوجهت الناقلة إليها، وفي الطريق تم بيعها إلى طرف ثالث، فغيرت الناقلة وجهتها. في هذه الحالة، تأخرت الناقلة في البحار، ولم يحصل أي طرف على الغاز، ما يعني زيادة شح المعروض واستمرار ارتفاع الأسعار بسبب المنافسة وليس نقص الإمدادات. 

الطاقة النووية والفحم

وأعلنت دول عدة، على رأسها ألمانيا، أنها ستتخلص من الطاقة النووية تدريجاً، ثم أعلنت ألمانيا أنها ستسرّع تلك العملية. جاء ذلك بعد قرار التخلص من الفحم. ظنت هذه الدول أن الاستثمارات الضخمة في الطاقة المتجددة، ممثلةً في طاقة الرياح والطاقة الشمسية ستعوض عن محطات الطاقة النووية والفحم. وفي خضم الهوس المناخي والخوف من الطاقة النووية، نسي صناع القرار أو تناسوا أمرين، الأول كثافة الطاقة، والثاني استمرارية إمدادات الطاقة.
بالنسبة إلى النقطة الأولى، تُعد الطاقة النووية والفحم من المصادر كثيفة الطاقة، بعكس الطاقة الشمسية والرياح. مثلاً، استبدال محطة نووية متوسطة الحجم يتطلب نحو 390 عنفة رياح من النوع الكبير والمتقدم، أو نحو 25 مليون لوح شمسي (300 واط). بعبارة أخرى، تحتاج هذه الدول إلى بناء مزارع ضخمة للتعويض عن محطة نووية واحدة.
استبدال مولد كهرباء يعمل بالفحم، بالطاقة الهوائية، يتطلب ما بين 120 و170 عنفة. واستبدال محطة كهرباء عاملة بالفحم بطاقة 2000 ميغاواط، بالطاقة الشمسية، يتطلب نحو 12 مليون لوح شمسي.
من هنا يمكن للقارئ أن يتصور كمية الأرض اللازمة لذلك، بخاصة في الدول الصغيرة والمزدحمة بالسكان.  مشكلة هذه الدول أنها تسرعت في التخلص من الفحم والطاقة النووية، من دون إيجاد كميات كافية من الطاقة المتجددة للتعويض في كل الأوقات، وذلك بسبب تجاهل اختلاف كثافة الطاقة بين المصادر المختلفة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بالنسبة إلى النقطة الثانية، الطاقة النووية والفحم، مصادر طاقة مستمرة وغير متقطعة. الطاقة الهوائية والشمسية متقطعة، وخيارات التخزين ما زالت غير متاحة على نطاق واسع. وهذا سبب أزمات الطاقة الأخيرة، بخاصة يوم 6 سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، عندما توقفت الرياح في بريطانيا وارتفعت أسعار الغاز والكهرباء إلى مستويات تاريخية، وأُجبرت بريطانيا على العودة إلى الفحم.

أمن الطاقة بين الغاز الروسي والحياد الكربوني

أدبيات أمن الطاقة خلال الـ 50 سنة الماضية، إضافة إلى سياسات الطاقة في الدول المستهلكة التي تم تبنيها خلال تلك الفترة، وكل ما ركزت عليه وكالة الطاقة الدولية، تؤكد على ضرورة تنويع مصادر الطاقة من جهة، وتنويع واردات الطاقة من جهة أخرى. وفي السنوات الأخيرة، تجاهلت الدول الأوروبية والولايات المتحدة هذا الأمر، ودفعت الثمن غالياً، وما زالت تدفع.
وفي محاولة التخلص من الفحم والطاقة النووية، زاد الاعتماد على الغاز، وزاد الاعتماد على الغاز الروسي تحديداً. وفي محاولة تحقيق الحياد الكربوني، زاد الاعتماد على الطاقة الشمسية والهوائية. كل هذه التصرفات تخالف أبسط قواعد أمن الطاقة. أضف إليها الأمور السياسية المتعلقة بروسيا، وتقطّع إمدادات الطاقة الشمسية والهوائية، وسترى كيف أن أزمة الطاقة صناعة محلية بامتياز.
في الأيام الأخيرة حصل تطور جديد في الولايات المتحدة أسهم في رفع أسعار النفط: عادت شركات الكهرباء في شمال شرقي الولايات المتحدة إلى حرق زيت الوقود، وهو منَتج نفطي قريب من النفط الخام، لتوليد الكهرباء، حيث ارتفع إلى أعلى مستوى له منذ خمس سنوات بسبب العاصفة الثلجية، على الرغم من أن الولايات في المنطقة من أشد الولايات المتطرفة بيئياً بعد كاليفورنيا.
لماذا حصل ذلك؟ لأنها حاربت التنقيب عن الغاز في المنطقة، وحاربت مد أنابيب الغاز إليها. الحل هو استيراد الغاز المسال. وهنا أزمة أخرى: الولايات المتحدة من أكبر منتجي ومصدري الغاز المسال في العالم. ولكن لا يمكن نقل الغاز المسال من منطقة خليج المكسيك في الجنوب إلى موانئ نيويورك وبوسطن في الشمال، لعدم وجود ناقلات غاز مسال محلية، التي يتطلبها القانون المسمى بـ "قانون جونز"، الذي يمنع السفن الأجنبية من نقل أي بضائع بين الموانئ الأميركية. لهذا وجب على الولايات في شمال شرقي الولايات المتحدة أن تستورد الغاز المسال من الأسواق العالمية. المشكلة أن أسعاره مرتفعة جداً، بينما النفط أرخص نسبياً، فحرقوا النفط لتوليد الكهرباء! إذا أحسست بالدوران من هذا التعقيد، لست الوحيد، أنا أعيشه يومياً.

المزيد من آراء