ما إن ينتهي العراق من أزمة ليدخل أزمة تلو أخرى، أو كما أطلق الساسة الأميركيون (لعنة العراق) على نتائج غزوهم للعراق عام 2003، جرّاء الأزمات التي خلّفها ذلك الغزو الذي فقد مسوغاته بعد انكشاف عدم وجود أسلحة الدمار الشامل، ليذهب مبرر الاحتلال لفكرة أخرى، هي (تحرير العراق من أجل الديمقراطية)، الذي أثار جدلاً تاريخياً لم ينتهِ، فظل الوجود الأميركي في العراق مسوغاً آخر لتوالد الميليشيات التي رعتها إيران بدعوى "مقاومة المحتل"، وتوالى انشطار الفصائل المسلحة، لتشكل حالة جديدة في البلاد عنوانها اللا دولة، التي تهدد السلم الأهلي مُتمظهرةً بالألوية والفصائل المسلحة التي ترفع شعار "المقاومة"، وتهيمن على مقدرات البلاد، وتسعى لتثبيت ولائية وتبعية القرار لإيران الثورة، التي وجدت فراغاً لا يعوض لتصدير الثورة بعد سقوط نظام صدام حسين، الذي أرجأها أكثر من عقدين.
الحكومة المقبلة لا شرقية ولا غربية
هذه الأوضاع وجدها السيد مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري الذي حصل على أعلى الأصوات في الانتخابات الأخيرة في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، عقبة لبناء العراق واستقلاله السياسي، بوجود مخلفات الحرب فوق الأرض العراقية، أفراداً، وأجندات، ومصالح، وتدخلاً سافراً ومكشوفاً، حتى رفع شعار دولة أغلبية لا شرقية ولا غربية، وانتظر آخر انسحاب للأميركيين من العراق أوائل هذا العام ليعلن عن حكومة الأغلبية الوطنية التي تضم ثلاث كتل فائزة في الانتخابات تمثل الطيف العراقي موزعة بين الشيعة بـ(75) صوتاً، والسنة نتاج اتفاق "تقدم" محمد الحلبوسي رئيس البرلمان، و"عزم" خميس الخنجر بـ(60) صوتاً، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني بـ31 صوتاً، يشكلون الكتلة الأكبر التي ينص عليها الدستور العراقي المؤهلة لتشكيل الحكومة.
لكن الرياح تجري دوماً في العراق بما لا تشتهي السفن، فقد برزت أزمة جديدة شديدة الحساسية بعد إعلان الصدر رغبة تياره الحاصد للأغلبية بأن تكون الحكومة المقبلة حكومة أغلبية سياسية، وليس توافقية كما كانت جرت العادة في السابق على مدى عقدين من الزمن تقريباً منذ التغيير بعيد الاحتلال، فهل يتمكن الحكم في العراق من تخطي المحاصصة؟
وهذا يعني تخلي الصدر عن الانصياع لفساد المحاصصة التي جرت العادة اتباعها عند توزيع السلطات والوزارات، داعياً إلى أسلوب ديمقراطي متبع في الأنظمة الديمقراطية من خلال تكريس المعارضة والموالاة، التي يرفضها جناح شيعي قوي صار خصماً له، فما يسمى بالإطار التنسيقي، الذي يضم قوى شيعية سياسية ومسلحة، أكبرها "دولة القانون" الواجهة السياسية لحزب الدعوة الإسلامي بزعامة نوري كامل المالكي، وتكتل "فتح" و"عصائب أهل الحق" بزعامة هادي العامري، وقوى مسلحة يدخل "الحشد الشعبي" ضمنها، ترفض منطق ودعوات الصدر لحكومة الأغلبية السياسية، وفق معطيات الانتخابات.
حاول الصدر مراراً الاجتماع بقوى الإطار التنسيقي بين بغداد والنجف، مستبعداً الاجتماع مع نوري المالكي رئيس الوزراء السابق إلا مرة واحدة بُعيد الانتخابات، وكان اجتماع (كسر عظم بينهما)، كما يصفه مراقبون، فقد أحيا كل مظاهر الخلاف بين الرجلين الذين تقاتلا مراراً في البصرة والنجف وبغداد، وكانت "صولة الفرسان"، التي شنها المالكي في البصرة حين كان رئيس وزراء البلاد ضد أتباع الصدر، في 25 من مارس (آذار) 2008، بدعوى وقف سيطرة الميليشيات الشيعية المتمثلة بجيش المهدي العائد للصدر واعتقال عناصره وزجهم بالسجون، خلفت خسائر بشرية من الطرفين تقدر بـ1500 قتيل، وفرض المالكي سيطرته على البصرة حينها.
المالكي الذي بات يخشى بروز خصماً عنيداً كالصدر يحظى بدعم جماهيري غير مسبوق من تياره الذي يسمى التيار الصدري، الذي عمل بصمت على تطوير أدواته السياسية بين البرلمان واللجان الاقتصادية والعمل الجماهيري والعمل السياسي والعسكري، وتكوين أكبر كتلة في الائتلاف الشيعي وخارجه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إضافة إلى الانفتاح على المكون السني والمساندة له، والدفاع عن معتقليه، والتواصل مع عشائره، في المنطقة الغربية، حيث مكّن الصدر وتياره من أن يكون داخل النظام السياسي ومعارضاً له في الوقت نفسه، لا سيما في تقديم الحماية والدعم اللوجيستي للتظاهرات في بغداد ومدن الجنوب والمحافظات الوسطى في الفرات الأوسط، مما جعله يكسب قلوب الشيعة ومساندتهم رويداً رويداً حتى تمكن من حصد أكبر أعداد المقاعد النيابية في الانتخابات الأخيرة ليتمكن من تشكيل الحكومة المقبلة.
سجال الصدر والإطار التنسيقي الشيعي، الأخ الخصم، له يتعدى التاريخ الحافل بالأزمات بينه وبين حكومات حزب الدعوة، بدءاً من اعتصامه وتياره في المنطقة الخضراء، التي تقع فيها مقار الرئاسات الثلاث، ومقرات الحكومة في مارس 2016، للضغط من أجل إجراء تغيرات وزارية ومحاربة الفساد الذي استشرى في البلاد حينها وتغوّل بعدها، وكان مشهد قيام مئات الآلاف من جمهور الصدر بالاحتشاد قبالة الجسور الرئيسة التي تؤدي للمنطقة الخضراء وقطع الأسلاك ورفع الحواجز من على جسري الجمهورية والسنك وعبورهم إلى المنطقة الدولية (الخضراء) بعد اضطرار حكومة حيدر العبادي بالسماح لهم بالعبور، فكانت رسالة مهددة قوية لحكومة حزب الدعوة الإسلامي، والمالكي شخصياً الذين يتخذون من قصور صدام حسين مقرات ومساكن لهم وحاشيتهم.
الصدر لم يبرح بيت أبيه في النجف
في وقت ظل الصدر وقياداته في بيت أبيه المرجع محمد محمد الصدر في (الحنانة) في النجف، في وقت تمركزت الملايين من أتباع التيار في مدينة الصدر والمناطق الفقيرة من بغداد، إضافة للمحافظات، لا سيما النجف وكربلاء والناصرية والبصرة وميسان، التي تكاد تكون مقفلة للتيار الصدري ومريدي والده الصدر الثاني الملقب بـ(الليث الأبيض) نتيجة ارتدائه الكفن الأبيض أثناء خطبه في مسجد الكوفة خلال تسعينيات القرن الماضي، والذي اغتيل إبان حكم النظام السابق عام 1999 مع ولديه، ولم يبقَ سوى ولده الأصغر مقتدى الذي شاءت الأقدار أن يقود تياراً شعبياً - شيعياً صدرياً هو الأكبر بين الكتل الشيعية الخصوم له ولأبيه، حتى من أيام وجود المعارضة العراقية في إيران، لا سيما المجلس الإسلامي الأعلى وقتها، في وقت كان فيه حزب الدعوة الإسلامي موالياً له ولعمه محمد باقر الصدر مؤسس الحزب العام الذي أُعدم شنقاً، في 1980 من قبل النظام السابق، ومفكره الذي لم يأتِ سواه مكانةً وفكراً وعقيدةً.
أخطأ المالكي بعدم التقاط هذه العلاقة العضوية والسببية بين الدعوة كحزب أسسه بيت الصدر، والتيار الصدري، فاستحالت بسبب المصالح السياسية إلى خصومة، ثم عداء وإقصاء، وزادت السلطة والمصالح المتناقضة، والإيغال في الفساد والهيمنة على المال العام، وشقة الخلاف مع الجمهور الصدري الفقير والمعدم الذي لم تحدث النقلة النوعية في حياته، بعد التغيير في العام 2003، وتصاعد إيرادات النفط التي تخطت تريليوناً وأربعمئة مليار، لكن الشعب ظل معدماً، وحياته مسحوقة، وكان الساسة لا سيما الشيعة، يتعاملون معهم كأصوات انتخابية من دون مشروع حقيقي لتطوير حياتهم، يعُينون مقابل الولاء ومنح الأصوات لهم في الانتخابات كما يقول باحث عراقي متخصص.
الأزمة الحالية من وجهة نظر الإطار التنسيقي وفصائله الستة، التي تعلن إنها لا تعترض على حكومة الأغلبية الوطنية، كما قال هادي العامري زعيم الفتح والشيخ قيس الخزعلي القيادي في الإطار، لكنها من وجهة نظرهما تشق وحدة الشيعة كمكون في قبالة توحيد الكتل السنية والكردية، وتستبعد المالكي رئيس الإطار بكتلته الأكبر التي هي الثالثة في تسلسل الفائزين في الانتخابات بـ33 مقعداً، مع دعوات الصدر لهم بالمشاركة، وإبقاء الباب مفتوحاً في الكتلة الأكبر من دون مشاركة المالكي وحزبه، بالقول علناً.
إصرار الصدر على شراكة واسعة للمكون الشيعي وحواره المستمر معهم نابع من تحديات يدركها بأن مهمة وقف الفساد المستشري والشروع بإعمار البلاد وبنائها يتطلب، كما يقول الكاتب العراقي إياد السماوي، "الحكومة الصدرية الموعودة ستواجه مشاكل وملفات سياسية واقتصادية وأمنية شائكة، وأول هذه المشاكل التي ستواجهها الحكومة الجديدة، هي ملف تشكيل الحكومة والعودة لنظام المحاصصة الطائفية والقومية" ويتساءل السماوي، "فهل ستعود الحكومة الصدرية (القح) لنظام المحاصصات البغيض، ويجري توزيع الوزارات بموجب نظام المحاصصات الذي دمّر البلد؟ ثم وهذا هو الأهم كيف ستواجه الحكومة الصدرية شروط الحزب الديمقراطي ومطالبه المتعلقة بكركوك والمناطق المتنازع عليها، وقضية توزيع الثروة والنفط وموارد الإقليم المالية"؟ هذه الأسئلة وأخرى يثيرها السماوي هي بلا شك ستكون تحديات يقف عندها مناوئو الصدر وحكومته، حين يكونون في كفة المعارضة أو يلجأون للمقاطعة في حال الإصرار على موقفهم ليكونوا طرف الممانعة، وكل الاحتمالات تبقى مفتوحة في بلاد فقدت مركزية القرار، ورؤية المستقبل وهوية الدولة.