Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أميركا بين قيادة القدوة وقوة القيادة

على عتبات الفخ الأوكراني... هل فشل جو بايدن في تغيير صورة أميركا المحاربة والهاربة؟

جنود أوكرانيون يطلقون صاروخا: هل تكون الأزمة الأوكرانية اختبار للقوة الأميركية؟ (أ.ب)

وسط قعقعة السلاح المسموعة على الحدود الروسية – الأوكرانية، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، قراءة سريعة بشأن تفكير الرئيس بايدن في نشر آلاف الجنود في أوروبا، وكذلك السفن والطائرات في أوروبا الشرقية ودول البلطيق لمواجهة الوضع في جميع أنحاء أوكرانيا، حال غزت روسيا كييف.

لا تتحدث "نيويورك تايمز" عن عشرات الآلاف بل عن عدد لا يتجاوز الألف إلى قرابة الخمسة آلاف جندي، وإن كانت هناك إمكانية لزيادة هذا العدد عشرة أضعاف إذا اقتضى الأمر، والعهدة هنا على مسؤولين كبار في وزارة الدفاع الأميركية، الذين قدموا هذه النصائح لإدارة بايدن.

يبدو الرئيس بايدن أمام اختبار صعب وعميق، لا سيما أنه أظهر نفسه خلال الانتخابات للرئاسة بوصفه الرجل الذي سيخلص أميركا من إدمانها استخدام القوة العسكرية، والتعاطي فقط مع القوة الخشنة، ومن غير أدنى مقدرة على مغازلة القوة الناعمة.

خلال عامه الرئاسي الأول الذي خلا من أي انتصارات سياسية خارجية، أو تحقيق مكاسب للديمقراطيين داخلياً، بدا وكأن الفعل الوحيد الذي أقدم عليه، هو الانسحاب العشوائي من أفغانستان، وكذلك التخطيط لانسحاب مماثل من الشرق الأوسط، لا سيما من العراق وسوريا.

خُيل لكثيرين أن بايدن بالفعل ماضٍ في خطته لإنهاء اعتماد الولايات المتحدة الأميركية على مفهوم القوة وعلى إقناع العالم بأن بلاده تتغير، وربما حان الوقت لاختبار القوة الناعمة، التي كانت أحد أهم أسباب ذيوع وشيوع الحلم الأميركي حول العالم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

في أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم، صدرت مجلة "فورين آفيرز" الأميركية وفي القلب من محتوياتها نقاش جاد وجدي حول رؤية الولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن للعالم، وهل ستتعامل مع الدول والشعوب من منطق يحترم الفكر الويستفالي، أم أنها ستكمل مسيرتها عبر النار والدمار، مدفوعة بدافع قسري يجعلها تكرر أخطاء الماضي.

"فورين آفيرز" رأت أنه إذا كانت إدارة بايدن جادة فعلاً في تأكيد القطيعة مع عهد الرئيس السابق دونالد ترمب الذي رفع شعار "أميركا أولاً"، فسيتعين عليها استخدام القوة نفسها التي تتوقع أن تتبناها الدول الأخرى، كما ينبغي أن تقلل من وجودها العسكري في جميع أنحاء العالم، وإعادة النظر في التريليون دولار التي تخطط لإنفاقها على ترسانتها النووية على مدى السنوات القليلة المقبلة.

على أن الإرهاصات الأولية للمواجهة مع روسيا من جراء الملف الأوكراني، أثبتت -وحكماً ستثبت- أن فكرة "القيادة بالقدوة"، غير مطروحة في الوقت الراهن على مائدة تفكير البنتاغون وجنرالاته، وأن واشنطن لا تزال تعيش حالة استثنائية منذ الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، بمعنى أنها لا تقبل لنفسها ما تود أن يقبله الآخرون لأنفسهم، فهي تحب لنفسها ما لا تحبه للآخرين، وعلى العكس تماماً من القاعدة الذهبية التقليدية... أحبب للآخرين ما تحب لنفسك، أو افعلوا بالآخرين ما تودون أن يفعلوه بكم.

هل من مدخل تاريخي يفهم من خلاله لماذا تبقى الولايات المتحدة الأميركية أسيرة القوة العسكرية نظرية وتطبيقاً؟

من الآباء المؤسسين إلى الإمبراطورية الرومانية

تبدو إشكالية القوة مخترقة النفس الأميركية حتى العظام، والسر يسير فهمه، ذلك أن الرجل الأبيض حين حل به الرحال على الأراضي الأميركية، لم يجد أمامه من طريق سوى استخدام القوة المسلحة للتوسع غرباً، وحتى بلغ حدود كاليفورنيا لتضحى الدولة الوليدة الجديدة من المحيط الأطلسي شرقاً، إلى الهادي غرباً، لتقوم إمبراطورية على جسد نحو 140 مليون هندي أحمر تمت إبادتهم بالحديد والنار.

لاحقاً بدا واضحاً أن نموذج الإمبراطورية الرومانية هو الذي احتل عقل الآباء المؤسسين، وهذا ما وضحه الأكاديمي الأميركي الشهير تشالمرز جونسون، في مؤلفه المعنون "أحزان الإمبراطورية... النزعة العسكرية، والسرية، ونهاية الجمهورية".

نظر الآباء المؤسسون نظرة إعجاب كبيرة وواسعة للإمبراطورية الرومانية، التي سيطرت على بقاع واسعة من العالم عبر العمل العسكري والغزو المباشر.

عبر التاريخ الأميركي نجد رؤساء قرروا وعند لحظة بعينها ومثل الأباطرة الرومانيين، متى وأين يشنون الحرب، فيما مجلس الشيوخ يوافق وينتزع الاعتمادات المالية للإنفاق على مغامرات الإمبراطورية مثلما كان يفعل النموذج الأصلي في زمن قيصر أوكتافيان.

لم يتوقف التماهي الأميركي مع الجيوش الرومانية فحسب، وإنما انسحبت المقامرة والمغامرة على صعيد التكوينات السياسية، فأقام الأميركيون برلمانهم على تلة "الكابيتول هيل"، بالضبط كما كان "السينت" أو مجلس الشيوخ الروماني، وحتى الرتب العسكرية الأميركية تبدو محاكية لنظيرتها في القديم الروماني.

بدت القواعد العسكرية والمستعمرات من المعالم الشائعة للنظم الإمبراطورية منذ العصور القديمة، ولكنها كانت في الماضي تقوم دائماً بتأمين أو الدفاع عن الأراضي المهزومة واستغلالها اقتصادياً.

هذا ما فعلته الولايات المتحدة في طريقها الإمبراطوري التقليدي، فقد قامت باحتلال واستيطان القارة الأميركية الشمالية، وأقامت قواعد عسكرية أمامية من الساحل إلى الساحل سميت بالحصون، مثل حصن أباتشي، وحصن لارامي، وحصن أوسيج.

لاحقاً تجلت عصرانية الإمبراطورية الأميركية في شكل قواعد عسكرية أقرب ما تكون إلى سبارطة استهلاكية، تتضح فيه ثقافة المحارب الأميركي التي تتباهى بالمساكن مكيفة الهواء وقاعات العرض السينمائي ومحلات السوبر ماركت وملاعب الغولف وحمامات السباحة المخصصة، وهنا طفت على السطح خاصية خطيرة أخرى تميز الإمبراطورية الأميركية عن إمبراطوريات الماضي وهي أنه لا حاجة لأن تخوض القواعد حروباً، ولكنها توجد باعتبارها تعبيراً خالصاً عن النزعة العسكرية والإمبراطورية.

لكن القوة وكما يقال فلسفياً مغرية، وتدفع في طريق استخدامها، ما يعني أن 725 قاعدة عسكرية أميركية حول العالم تقر وزارة الدفاع بوجودها، حكماً لا بد لها من إقناع المشرعين الأميركيين بأهميتها، وبجدوى ما يتم إنفاقه عليها، ومن هنا تتبدى القيادة بالقوة لا القيادة بالقدوة.

على مر التاريخ الإمبراطوري الأميركي لم يتوقف رئيس للبلاد ليحذر من الانجرار وراء منطق القوة المسلحة الذي تمضي البلاد وراءه من جراء أطماع المجمع الصناعي العسكري، مثلما فعل الرئيس دوايت أيزنهاور في خطابه الوداعي عام 1961.

عبر العقود الستة المنصرمة بدا كأن أميركا مسوقة بالقهر في طريق العسكرة الخارجية والسؤال إلى أين، وربما إلى متى؟

القوة سبيل أميركا منذ الحرب العالمية الثانية

في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 نشرت "نيويورك تايمز" الأميركية ومن جديد تقريراً عن آليات استخدام الولايات المتحدة القوة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة، وكيف أنها كقوة كبرى سعت للهيمنة على العالم قسراً وجبراً، وعازمة على اللجوء إلى القوة الخشنة بمفردها لتحقيق نزعتها الإمبراطورية.

من البيانات المثيرة في هذا السياق، القول إن الولايات المتحدة لطالما كانت دولة محاربة، ذلك أنه ومنذ إعلان استقلالها في 4 يوليو (تموز) 1776، وعلى مدى تاريخها الذي يزيد على 240 عاماً، كانت البلاد دوماً في حالة حرب عدا فترة تقل عن 20 عاماً.

أحد أهم الباحثين الأميركيين الذين أولوا اهتماماً لتلك الجزئية، داكوتا وود، الزميل البحثي البارز المتخصص في برامج الدفاع بمركز الدفاع الوطني التابع لمؤسسة التراث الأميركية، هيريتاج، توصل إلى أن الولايات المتحدة "كل 15 عاماً أو نحو ذلك، تدخل في صراع مسلح جديد".

واشنطن وللحفاظ على هيمنتها، والحديث لـ"وود" انتهكت بشكل صارخ مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وأعراف القانون الدولي مرات عديدة.

هل يمكن أن نعدد الحروب التي دخلتها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة؟

البداية من عند الحروب في شبه الجزيرة الكورية وفيتنام وكوسوفو، ثم الموجة الثانية في أفغانستان والعراق، ولاحقاً سوريا، عطفاً على العمليات العسكرية ذات الطابع السري التي جرت على نحو مكثف منذ العقدين الماضيين.

ماذا عن بقية التقارير التي توضح إدمان أميركا القيادة بالقوة؟

في مارس (آذار) 2021، أصدرت مجموعة "كودبينك"، وهي مجموعة أميركية مناهضة للحروب تقريراً رصدت فيه بعض الحقائق، ومن بينها أن أميركا وبعضاً من حلفائها واصلوا قصف دول أخرى على مدى العشرين عاماً الماضية، حيث أسقطوا في المتوسط أكثر من 40 قنبلة في اليوم.

أما ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، فقد سطر عبر دراسة مطولة منشورة بمجلة "فورين آفيرز" عبارات يفهم منها ما يجري وبعض منها يقول "إن الحملات التي لا نهاية لها في الخارج تطلق العنان لمجموعة من القوى السياسية والعسكرية الأميركية، لا سيما السرية، عطفاً على السلطة التنفيذية المعززة، لإظهار المزيد من كراهية الأجانب، والوطنية الزائفة، والديماغوجية، وجميعها تتعارض مع الفضائل المدنية التي تعتمد عليها الديمقراطية الصحيحة".

هل العسكرة إذن ستار المشروعية الوهمي للنخبة الأميركية المسلحة التي تنتهج نهج المواجهة والهروب إلى الأمام مرة وإلى الأبد؟

 مدينة فوق جبل أم فوق قواعد عسكرية؟

أحد الركنين الرئيسين اللذين تقوم عليهما فلسفة الوجود الأميركي، فكرة مدينة فوق جبل، بجانب طرح القدر المستنير، وكلاهما يعني أن الأقدار الإلهية هي التي اختارت لواشنطن مكانها ومكانتها حول الكرة الأرضية، وأنها من خلال نموذجها اليوتوبي، سوف تضحى وإلى ما شاء الله مدينة تنير للعالم الديمقراطية وحقوق الإنسان، والعدالة والكرامة الإنسانية، والدفاع عن الحريات الشخصية والحق في اعتناق المرء ما يشاء من معتقدات دينية أو لا يعتقد.

غير أن من يطالع واحدة من أهم الاستراتيجيات الأميركية في العقدين الأخيرين يخلص إلى أن أميركا ليست مدينة فوق جبل، بل فوق قواعد عسكرية منتشرة حول العالم.

في 17 سبتمبر 2002 جاء في تلك الاستراتيجية ما نصه "إن وجود القوات الأميركية في الخارج هو أحد أعمق التزامات الولايات المتحدة تجاه حلفائها وأصدقائها. تثبت الولايات المتحدة عزمها على الحفاظ على توازن القوى لصالح الحرية من خلال استعدادها لاستخدام القوة للدفاع عن أنفسنا وعن الآخرين. لمجابهة عدم اليقين وتحديات الأمن الكثيرة التي نواجهها، ستحتاج الولايات المتحدة إلى القواعد والمحطات في أوروبا الغربية وخارجها، وفي شمال شرق آسيا، ستحتاج أيضاً إلى إتاحة مؤقتة لنشر قوات الولايات المتحدة على مسافات بعيدة".

هل عكست تلك الاستراتيجية روح ما بعد الحرب الباردة؟

المعروف أنه أثناء الحرب الباردة، كان المبدأ العسكري المعياري هو أن للقواعد الأجنبية مهمات أربعاً: وجود القوة العسكرية التقليدية في المناطق التي تهم الولايات المتحدة، والإعداد في حالة الضرورة للحرب النووية، والعمل كنقاط انطلاق تضمن الاستجابة الأميركية السريعة للهجمات، وتوظيفها كرموز للسطوة الأميركية.

وفي واقع الحال، ظلت الولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب الباردة تبحث، دونما توقف، عن مبررات جديدة لبناء قواعدها الدائمة التوسع، بدءاً من التدخل الإنساني إلى نزع أسلحة العراق.

غير أنه -والعهدة على تشالمرز جونسون- في فترة ما بعد الحرب الباردة، حلت خمس مهام جديدة محل الأربع القديمة: الحفاظ على تفوق عسكري أميركي مطلق على باقي العالم، وتقتضي هذه المهمة ضبطاً للأمن بحيث لا يتحرر أي جزء من الإمبراطورية من المقود، والتنصت على اتصالات المواطنين، الحلفاء والأعداء معاً، ويحدث ذلك غالباً، لإثبات أنه لا يوجد أي مجال للخصوصية محصن ضد قدرات واشنطن التكنولوجية، ومحاولة السيطرة على أكبر عدد ممكن من مصادر النفط للتزود باحتياجات أميركا النهمة للوقود، واستخدام تلك السيطرة ورقة ضغط للمساومة حتى مع المناطق التي تعتمد على النفط بدرجة أكبر، وإمداد المجمع الصناعي العسكري بفرص للعمل والدخل، وضمان أن يعيش الأفراد العسكريون وعائلاتهم حياة مريحة وتوفير وسائل للتسلية واللهو لهم وهم يعملون بالخارج.

سطور تشالمرز اتضحت بأسوأ صورة بعد الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان، فقد تبين لعموم الرأي العام الأميركي، أن الفئات التي استفادت وبغنى وفير من عشرين سنة من الاحتلال الأميركي لأفغانستان، تمثلت في كبار الجنرالات، الذين حققوا ثروات طائلة من وراء العمليات العسكرية المباشرة على الأرض أول الأمر، ومن خلال الاستعانة بهم في الشركات والمصانع التي تضمن استمرار الدعم العسكري بعد خروجهم من الخدمة.

لم يكن إذن هدف تحرير الأفغان من عبودية "طالبان"، ولا تحرير النساء الأفغانيات من عبودية الأصوليات التراثية، ولا البكائيات التاريخية الأميركية على الديمقراطية هو الهدف، وإنما تحقيق مصالح ضيقة للنخبة العسكرية، ما ينافي ويجافي جملة وتفصيلاً أحاديث الطهرانية الأميركية المزعومة، ويعود بنا من جديد إلى دائرة الارتكان إلى طبيعة القوة العسكرية، ومن غير أي مجال لخيارات القوة الناعمة التي بح صوت البروفيسور جوزيف ناي في الحديث عنها والإشارة إليها منذ زمان وزمانين.

سودربرج وخرافة القوة العظمى الأميركية

من بين أفضل المؤلفات التي صدرت في العقدين الأخيرين، يأتي كتاب "خرافة القوة العظمى... استخدام القوة الأميركية وسوء استخدامها"، لمؤلفته نانسي سودربرج، مستشارة السياسة الخارجية للرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون منذ حملته الانتخابية في عام 1992، وحتى نهاية فترة رئاسته الثانية.

هذا السفر الضخم الذي يقع في نحو سبعمئة صفحة من الحجم الكبير، يطرح تساؤلاً وثيقاً ولصيقاً بفكرة هذه القراءة: هل هناك حدود للقوة الأميركية؟

تخلص المؤلفة والسياسية الأميركية المتنفذة إلى أنه إذا كان لا بد من رؤية الولايات المتحدة مرة أخرى على أنها قوة من أجل التقدم والعمل معاً من أجل المصالح الدولية ولصالح المجتمع الدولي برمته، فلا بد من أن تغير مسارها.

مؤلف سودربرج صدر عام 2005، أي على مشارف نهاية ولاية بوش الأولى، ولهذا تضيف بالقول "لقد جعلت أربع سنوات من وصفات حكومة بوش السياسية الخاصة بالهيمنة أميركا أقل أمناً، وليس أكثر أمناً، وتخسر أميركا الدعم بين الحلفاء وتخلق المزيد من الأعداء بتشبثها بسياسات ثبت فشلها".

ما الذي يتطلبه المسار الجديد لأميركا التي يتوجب عليها أن تقود بالقدوة لا بالقوة؟

عند عدد وافر من المفكرين الأميركيين، وفي مقدمهم صاحبة الكتاب، أن المسار الجديد يتطلب إعادة ترتيب السياسة الخارجية الأميركية كي تعمل باتساق مع المجتمع الدولي بدلاً من التصادم معه، وبالإضافة إلى إخضاع مصالح أميركا، كما سوف يتهم البعض، سوف يمكن هذا التحول الولايات المتحدة من رفع وضعها كقوة عظمى والمشاركة في عبء التقدم مع أصدقائها وحلفائها.

والواقع أنه على الرغم من وضع الولايات المتحدة كقوة عظمى، فإن تحديات القرن الحادي والعشرين لا يمكن التغلب عليها إلا بحشد الرأي العام لمصلحة أهداف أميركا وبالقيادة على نحو يتبعه العالم، وقد أدى ضرر سنوات بوش الثماني إلى انتكاسة ذلك الهدف.

هل القوة هي السبيل الوحيد لجعل أميركا دولة آمنة من جديد؟

 لقد أجاب جمهور المحللين السياسيين المتابعين لشؤون الإرهاب بالقول إن أميركا شنت الحرب على الغضب وهو قيمة معنوية، ولهذا خسرت معركتها والدليل عودة "القاعدة" و"داعش" من جديد، بل واحتمالات ظهور تيارات إرهابية أشد عنفاً فيما بعد.

الولايات المتحدة شنت هجماتها على الإرهاب على طريقة هش الذباب بالمطرقة، ولهذا منيت جهودها بالفشل، وهنا فلكي تنجح أميركا في البقاء آمنة، فإنه يتعين على القوة العظمى الوحيدة تنظيم قواها، تلك القوى التي تتجاوز جيشها الذي لا يباريه جيش آخر، ويمكن لتوليفة معقدة من القيادة الاقتصادية والأخلاقية والسياسية أن تستعيد مكانة أميركا باعتبارها البلد الذي يلهم التغيير ويقود الآخرين إلى تحسين المجتمع العالمي...

لكن ماذا لو كان استخدام القوة بعيداً عن فخ الإرهاب التقليدي؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الفخ الأوكراني والتمدد الإمبراطوري الجديد

يحتاج الحديث عن الفخ الأوكراني المنصوب لإدارة بايدن إلى حديث مطول قائم بذاته، غير أنه ربما يتحتم علينا الإشارة إلى جزئية مهمة للغاية، وهي أن الرئيس بايدن، وربما أي رئيس أميركي غير قادر على مواجهة أو مجابهة جذور فكر القيادة عبر القوة الكامن في الروح الأميركية، والمتمثل في حضور الدولة الأميركية العميقة، تلك التي أزاحت جون كينيدي قتلاً ذات مرة، ودونالد ترمب انتخاباً مرة ثانية.

الفخ الأوكراني وتوجهات الرئيس بايدن يعنيان أن الولايات المتحدة عازمة على حصار روسيا الاتحادية من خلال مناطق النفوذ التاريخية التقليدية التابعة لها، وهو الأمر الذي أشار إليه قائد البحرية الألمانية المستقيل، الأميرال كاي أخيم شونباخ، وقد قاده تفهمه الحوار والجوار الجيوسياسي الروسي إلى تقديم استقالته.

التساؤل المثير ربما للحرج الأميركي: ماذا في حال أقدم القيصر بوتين على عملية عسكرية محدودة في أوكرانيا؟

هل سيكتفي بايدن بالعقوبات الاقتصادية كما جرى الحال من قبل عندما تدخل بوتين في جورجيا، وتنسحب قوت أميركا من أوكرانيا هاربة، كما انسحبت قديماً من فيتنام وحديثاً من أفغانستان؟

أم أن الرئيس الذي تحدث كثيراً عن نزع فتيل الأعمال العسكرية الأميركية سيقود بلاده إلى الطامة الكبرى والقارعة النووية التي نجا العالم منها قبل ستة عقود؟

أميركا قوة خيّرة ومغيّرة

على أن الموضوعية تقتضي منا النظر إلى وجهة نظر أخرى تجاه القوة الأميركية، نظرة ترى في القوة العسكرية رمانة الميزان، أو بيضة القبان كما يقال للحفاظ على توازن العالم وأمنه واستقراره في وقت واحد.

خذ إليك على سبيل المثال لا الحصر الآراء التي يبديها، روبرت كاغان، أحد أساطين اليمين الأميركي، والمشارك الرئيس في مشروع القرن الأمريكي للمحافظين الجدد للعام 1997.

يرى كاغان أنه ضمن مكامن القوة الأميركية، تبقى هناك منطلقات العدالة، وأن تجربة الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، تبين بوضوح أن الولايات المتحدة لم تكن قوة شمولية طاغية، بل قوة خيرة ومغيرة، وأنه من دون تدخلها إلى جانب أوروبا وبقية دول الحلفاء، لما استطاعوا بالمرة أن يتحرروا من ربقة وعبودية النازي.

بالمقياس نفسه يرى البروفيسور الشهير جوزيف ناي، أنه رغم تأكيده على القوة الناعمة وأهميتها، إلا أنه وفي أوقات بعينها تكون القوة الخشنة صمام أمان، وهذا ما خبره العالم في خلال أربعة عقود أو أزيد من الحرب الباردة.

في الاتجاه نفسه يدلل البعض أنه لولا قوة أميركا العسكرية لما استطاعت الوقوف في وجه صدام حسين واحتلاله للكويت عام 1990، وتاليا لم يكن لها أن تواجه تنظيم القاعدة في أفغانستان، حيث كان قد بلغ أوج شروره.

تطول الأمثلة التي ترى أن القوة الأميركية مهمة لتوازن العالم، ولعل المثال الأخير الخاص بأزمة أوكرانيا يقطع بأن الحضور العسكري الأميركي يمثل رادعا معنويا أول الأمر، وفعليا على الأرض تاليا، بحسب ما يقول أنصار الخيار العسكري الأميركي... والأيام حبلى بمفاجآت من شأنها أن تثبت صحة هذا الرأي أو نقيضه.

المزيد من تقارير