Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رشا بطلة يوسف المحيميد سجينة نفسها… وخيبة حلمها الأميركي

"أكثر من سلالم" رواية المواجهة بين الذات والاخر

الروائي السعودي يوسف المحيميد (يوتيوب)

دأبت الرواية العربية على أن تكون مسرحاً للنزال بين الذات (الأنا - النحن) والآخر – العالم. وقد ظلت الذات الأنثوية وأمريكا كآخر، ولعقود، شاحبتي الحضور في هذا المسرح – النزال الذي كان جورج طرابيشي يدعوه بالرواية الحضارية. وإذا كان الأمر قد اختلف في سياق الفورة الروائية الحداثية، إلا أن حضور أمريكا ظل أدنى. وها هو يوسف المحيميد يرفد اختلاف الأمر بروايته الجديدة "أكثر من سلالم" (دار الساقي) فيسند بطولة الرواية إلى الطالبة السعودية رشا التي تنجز دراستها الجامعية في لوس أنجلوس.

تبدأ الرواية من شكوى رشا من أن رجال أمن المطار يرونها كائناً فاقد الأهلية. وفي الرحلة الطويلة إلى أميركا، تستعيد محاولتها الفاشلة للانتحار بعدما رفض والدها سفرها، ثم رضي به. وتستعيد زواجه ثانية وسوء علاقته مع والدتها، وذكريات من دراستها الثانوية، ومنها مما يرجّ الذات حرمان الطالبات من الفسحة، وإلزامهن بالإنصات لمحاضرة شيخ يجلس في غرفة الحارس.

تتوّج رشا وعيها لذاتها على عتبة عالم الآخر بإعلانها: "أشعر أنني سجينة فيّ" وبأن حريتها هي موتها. وهذه التي سبق أن زارت مع أهلها مدناً من شرق آسيا ومن أوروبا، وكانت تدرس طب الأسنان، عاشت قصة حب مع عبد الإله، وانتهت بنبذه لها، فاندفعت إلى الحلم الأمريكي، طامحة إلى كشف أسراره: "سأبحث عن حياة أخرى، بعيداً عن هذا العالم الممل".

شاركت رشا في السكن الجامعي صبية تدعى كيت التي تدرس الفنون. ومن العلاقة الرهيفة التي تنشأ بين الزميلتين يكون لرشا الاحتكاك العميق الأول بالآخر. ولن يغادر الذهول رشا حين رافقت كيت وصديقها سام إلى بلدتها، حيث ستلتقي بشقيقة كيت وولديها وزوجها – صديقها (بوي فريند). كما ترجّ رشا علاقاتُ كيت الجنسية مع سام، ومع غيره في الغرفة نفسها، ورشا تحت اللحاف تغالب الخوف والتقزز، ثم تتعود، لكنها تعزم على ألّا تتزوج أميركياً. وحين تتعلل رشا لكيت بضرورة العذرية للفتاة المسلمة تردد كيت "مسكينة"، بينما تشخص رشا: "كنا على طرفي محيط". ويذهلها أن تجد في كتب تتحدث عن حقوق المرأة الأميركية أن من حقها أن تتاجر بجسدها وتكسب مالاً، فهذه وظيفة محترمة!

مع كيت وسام تشاهد رشا فيلماً كوميدياً من كازاخستان، وتظهر النساء فيها تجر العربات بدلاً من الحمير. وترفض رشا ما ترى في الفيلم من السخرية من الشعوب، ومن نظرة صناعة السينما إلى الآخر. ويمضّها أن الجمهور ظن أن بطل الفيلم الكازاخي عربي: "فكل رجل بشعر أسود وشارب كثيف هو بنظرهم عربي، كأن هؤلاء الأميركيين معزولون عن العالم، وكأن العالم أمريكا فحسب، بينما بقية الكرة الأرضية مجرد بحار ومحيطات". ومع فيلم آخر عن أحداث 11 سبتمبر، تشاهده مع كيت وأصدقاء أميركيين، وعبر ثلاث صفحات، تتحدث رشا لهم عن الإرهابيين وعن تفجيرات الرياض في التسعينات من القرن الماضي. ويمضّها أن معرفة هؤلاء الصحب محدودة جداً.

اسئلة الفرد والجماعة

تبدو رشا مقبلة على الآخر، ولكنه إقبال مسكون بالأسئلة، وبالمقارنة مع الذات الفردية والجمعية. فالحجاب كما تشرح رشا لكيت ليس شيئاً في الدين، و تتساءل رشا باستنكار ما إذا كانت الحرية هي الشعور بلا جدوى العالم، وفوضوية المشاعر والعلاقات العابرة والصعلكة والمخدرات. وتقدم الرواية صورة أخرى للذات في شخصية الطالبة الفلسطينية سحر المتحررة والطموحة والمشغولة بالسياسة عكس رشا. فسحر ترى أن الشعب الأميركي طيب، عكس الحكومة، ولا يمكن تحميله "ذنب هذه الحكومة العنصرية".

تعود رشا في الإجازة الصيفية إلى الرياض لتجد أباها قد هجر أمها التي تعمل معلمة صباحاً ومساء. وتحقق الرواية نقلة فنية بديعة عندما تحدث رشا أباها عن السكن خارج الجامعة، فيأمر بالسكن عند عائلة. ولأن رشا لن تفعل، تبدأ تصنع (تتخيل) عائلة أميركية. وستسكب في بريد أبيها الألكتروني قصصاً عن هذه العائلة، منذ رفرفت لها ورقة الحرية والخلاص ممهورة بتوقيع الوالد: ورقة السماح بالسفر إلى الخارج.

تجمع مصادفة رشا بهشام الطالب السعودي الذي يبادرها: "أنا أخوك وسندك هنا". وإذ تقبل على هذه الصداقة تنكر ما تعلمته في البيت من عدم الثقة بالغرباء، ومن أن الرجل لا يمكن أن يكون صديقاً. وفي المدرسة "تعلمنا" أن الرجال ذئاب بشرية، وتستعيد رشا الشريط الذي كان يبث في مدرسة التوحيد مصحوباً بالصدى: "احذري الذئاب البشرية" وهكذا يلعلع السؤال: لماذا نخشى بعضنا بعضاً ولا نثق بأحد؟

ترسم الرواية برهافة العلاقة بين هشام ورشا، فكل منهما بات مستودع أسرار الآخر. وربما كان بناء شخصية هشام أثرى وأجمل وأمتن بناء بالمقارنة مع شخصيات الرواية، بعد رشا، أو مها. وستكون لرشا مع سعود – صديق هشام – قصة حب فاجعة، تعري ما في الذات الذكورية من هنات، كما هي أيضاً شخصية الكويتي بشار، وابن عم لهشام... ففيما عدا هشام ورشا، ليس في صورة الذات غير السلب، سواء في وطن الآخر، أم في وطن الذات.

يتكشف سعود سريعاً عن شرقي غيور، يرفض أن تخرج رشا مع خليجي، لاعتقاده أن الخليجي لا يرى في البنت غير جسدها، بينما الأجنبي يميز بين الصديقة والعشيقة.

في منتصف الرواية تجمع مصادفة رشا بليلان هاريس التي ليست غير سارا السمراوي كما ستروي لرشا، حيث يتبين أن والدها السعودي كان يدرس الكيمياء عندما تزوج من لورين وأنجبا سارا. لكن الأب اختفى بعد التخرج، ثم اختفت الأم المدمنة على المخدرات والمتاجرة بالأدوية الممنوعة. وبينما سجنت الأم سنوات جراء ذلك، احتضنت سارا أسرة حتى عادت الأم. وتتحدث سارا عن مذكرات أبيها على نحو يبدو محشوراً في الرواية. وفي هذا الشطر من الرواية تتناوب رشا وسارا على السرد، بينما تولته رشا غالباً بضمير المتكلم. وتندفع رشا إلى مساعدة سارا في العثور على أبيها، فيعترض سعود الذي يرى أن الآخر "كلهم أولاد زنا". وحين يصل الهاتف بين سارا وأبيها ينكرها. وتأتي ردة فعل سارا كشرقية، لا كأمريكية، بينما تشخص رشا الأمر: " أنت تبحثين عن أهلك وأنا أهرب من أهلي".

العودة الملتبسة

في الإجازة السنوية التالية، وقد تمكن الآخر – أميركا – من روح رشا، تراها تنتظر بشغف العودة إلى "بلادي التي أعشقها: أميركا"، وتراها تفتقد في الرياض حضن أمريكا، وحاجتها إلى الاستقلال في كل شيء. وبعد عودتها تكتشف العلاقة بين سارا وسعود، الذي رماها "كالأشياء الزائدة". وتتساءل رشا في ما ينبض بطهرانية الذات ونرجسيتها: "لماذا يرحلون دون خطأ مني؟". ويشتبك ذلك بالجسد والجنس عندما تتساءل عما إذا كان سبب رحيل الآخرين هو أنها لا تقبل عبث أحدهم بجسدها.

انتهت دراسة رشا سنة 2010، وكان عليها أخيراً أن تعود إلى عقر الدار، وهي تبكي لوس أنجلوس "بل أبكي أمريكا العظيمة كلها، ياالله، كم أحببت هذه البلاد". وكما باعت أثاث شقتها، رأت أنها باعت حريتها عندما صعدت إلى الطائرة، وشبهت نفسها بمعتقل يقاد إلى منفى. ومن نافذة الطائرة نظرت إلى الأرض التي فتحت لها ذراعيها، ونقرأ: "لم تشك في سلوكي، لم تحاصرني، لم تفرض وصايتها علي، لم يرسل ناسها أعينهم كي تقيسني من رأسي حتى أخمص قدمي، لم يسألوني عن وليّ أمري، ولا محرمي. كنت إنساناً كاملاً، وها أنذا أعود تاركة اكتمالي، أعود إلى نقصي، أعود جاهلة رغم شهادتي، وأحتاج من يصادق على تصرفاتي بدمغة وبصمة وتوقيع، أي عالمٍ غير عادلٍ هذا؟"

ذاك هو الآخر بعيني الذات الأنثوية التي رسمها يوسف المحيميد في حالاتها جميعاً، بمُكْنةٍ وعمق، وبالغ في تزويقها بالأغاني وبالأفلام السينمائية. ومن المهم ملاحظة النأي عما في الذات وفي الآخر مما يُعنون بالسياسة، أو شمولية التفاعل الحضاري وفي صلبه السياسة. وبذلك ظلت صورة الذات كما صورة الآخر تنشدان تعقيدات أخرى ربما كانت ستزيد في ثراء الرواية.

المزيد من ثقافة