في روايته الأولى "إلى أي مدى نحلق في الظلام" يحاول الكاتب الأميركي سيكويا ناغاماتسو تشكيل فسيفساء واسعة من مجموعة من القصص، وذلك بنسجها في كيان أكبر يمتد عبر القرون والقارات، من ناطحات السحاب الجنائزية إلى فنادق الموتى والمركبات الفضائية والأجرام السماوية. وعبرها يروي قصة مؤثرة عن مرونة الروح البشرية في لحظات الكوارث، وقدرة البشر اللامحدودة على الحلم، والخيوط التي تربطهم جميعاً بهذا الكون الفسيح، وتربطهم معاً بأوثق الروابط على الإطلاق، رابطة المصير الواحد المحتوم.
اكتشاف يدمر البشرية
تبدأ القصة في عام 2030، العالم آخذ في الاحترار، والطقس يتغير، والأشياء المجمدة منذ آلاف السنين تبرز إلى النور من جديد، كما لو أن "بعض الآلهة فتحت المستنقعات التي تعلوها الثلوج". في هذه الأجواء المنذرة بالخطر، نلتقي بمجموعة من العلماء ينقبون في ثلوج سيبيريا الذائبة جراء تغير المناخ، وفي غمار بحثهم، يعثرون على جثة فتاة، ولكنها ليست أي فتاة، إنها مزيج من الإنسان العاقل وإنسان النياندرتال مع سمات وراثية تشبه نجم البحر أو الأخطبوط. كانت ترتدي ملابس مطرزة على نحو بديع، مزينة بأصداف البحر الأبيض المتوسط. لكن هذا الاكتشاف يؤدي إلى تحرر فيروس يدمر الأعضاء البشرية ويغير بشكل جذري طريقة تفاعل البشر بعضهم مع بعضاً.
من خلال فريق العلماء ينتشر الفيروس في جميع أنحاء العالم، مسبباً ربكة في أجساد ضحاياه، بحيث تتحول خلايا الرئة إلى خلايا كلوية، وتتحول خلايا الدماغ إلى خلايا قلبية. تنغلق الأعضاء، لأنها تتحول إلى شيء آخر تماماً وقبل الموت، يصبح الجلد شفافاً مع بقع ملونة تشبه السديم. هذه هي أعراض طاعون القطب الشمالي، الذي اجتاز مئات القرون مجمداً في جسد فتاة موشومة بشكل غريب، ماتت قبل 30 ألف عام، ودفنت في حفرة دائمة التجمد في سيبيريا.
لقطات سريعة لأيام الإنسان
بهذه القصة المخيفة يمهد ناغاماتسو الطريق للفصول اللاحقة غير المترابطة، وإن حاول في بعضها تحقيق نوع من الترابط، من خلال تكرار بعض الشخصيات التي راحت تسرد قصة الطاعون بأصواتها الفريدة المتعددة. من تلك الشخصيات الساردة والد المرأة التي اكتشفت مع فريقها جثة الفتاة وراحت ضحية اكتشافها. وهو ممثل كوميدي يسافر إلى الدائرة القطبية ليستكمل ما بدأته ابنته الراحلة، ويتحول إلى جالب للحظ في "حديقة القتل الرحيم" مثل ديزني لاند للأطفال المحتضرين. ومنها أيضا عالم فيزياء يحاول كشف سر السفر في الفضاء لمسافات طويلة، وعن طريق الخطأ يقوم بزرع ثقب أسود في دماغه. راو آخر يسقط في غيبوبة بسبب المرض، وغيره على متن سفينة فضاء يبحث عن ملجأ آمن في مجرتنا الرحيبة.
ينتهي الفصل، كما معظم الفصول، بملاحظات عن الألم والندم والتفاؤل والشعور بعدم ثبات الحياة، تبدو كلقطات سريعة لأهم أيام الإنسان ومنعطفاته ولحظاته الهشة الضائعة، سواء وهو يعمل على تكوين روابط مع غيره أو يستسلم لفقدانها.
للحب قصة أخرى
تسكن شخصيات ناغاماتسو مجتمعات غارقة في الموت بامتياز، لدرجة أن الخدمات الجنائزية من مختلف الأنواع تهيمن على الاقتصاد في عالم اختفى فيه الماضي وأصبح من المستحيل تخيل المستقبل. ولا تخفى أوجه التشابه بين عالم ناغاماتسو الفنتازي وعالمنا الواقعي الذي وحد بدوره البشرية في مصير مشترك. لكن الأكيد أن عديداً من فصول هذا الكتاب نشرت قبل ظهور "كوفيد" بسنوات، بحيث ظل كاتبها يعمل عليها على مدى عشر سنوات. علاوة على أن ناغاماتسو يقفز بعيداً في المستقبل قفزة واسعة، مسلطاً الضوء على الخسائر العاطفية للوباء الخيالي أكثر من التقنيات العلمية ووسائل علاجه. وهو يتوسل بالحب لتبديد هذه الكآبة، ففي أحد الفصول تقع طبيبة شرعية في حب رجل تبرع بجسده من أجل البحث المنوط بها العمل عليه، ويقع فنان جنائزي يصنع منحوتات جليدية من بقايا سائل في حب إحدى العميلات. وفي مدينة الملاهي المخصصة للأطفال الذين يحتضرون، نلمح إعجاب الموظف بوالدة الصبي المصاب الذي لا مفر من إعدامه مع غيره من الأطفال في قطار الموت "أعطته حضناً أخيراً ورشفة من زجاجة العصير قبل أن تخرج الحقنة".
الخسائر في عالم ناغاماتسو المنسوج بحرفية، مهولة لدرجة أنها تغير كل زاوية في العالم، وتجبرك على رؤية الموت بشكل مختلف. ولكن ثمة وسائل كثيرة يتبعها المحبون لتخفيف وجه الفقد المخيف، كصنع صور مجسمة "هلوغرام" لأحبائهم، وتسجيل أصواتهم المفقودة في حيوانات أليفة آلية، والاستلقاء في غرفة مع بقاياهم المحنطة والتفاعل مع الصور الافتراضية التي تركوها وراءهم.
طريقان للنجاة عبر الزمن
ذهب البعض إلى مقارنة ناغاماتسو بجورج سوندرز وتشارلي كوفمان وديفيد ميتشل، لكن تفرده يظهر في كل فصل وهو يتعامل مع الفقد أو الصدمة بمنتهى الرقة والدقة معاً، ليكتشف معنا إلى أي مدى نصل في تحدي الموت والألم الهائل في تقبله. وعلى الرغم من الدمار الذي نسببه لأنفسنا بفرط يأسنا، فلا يزال هناك بصيص من الأمل في النجاة بتقوية العلاقات بيننا أينما نكون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقفز الرواية بين الشخصيات والأزمنة وحتى الأنماط السردية. ومع ذلك، فإن النغمة الكئيبة توحد الشخصيات المتباينة والمسارات المختلفة. في الفصلين الأخيرين تسلك البشرية طريقين متقابلين عبر الزمن من أجل النجاة من الموت المحقق في كوكب تم تدميره بالفعل. الطريق الأول يتجه إلى المستقبل، حيث يرسل الجيل الجديد على متن مركبة فضائية بحثاً عن بداية لائقة. والآخر يعود إلى الماضي لتفسير أصولنا الغامضة، ولا يفوته أن يلتحم على نحو دائري بنقطة البداية، كاشفاً عن اللغز المتروك معلقاً في الفصل الافتتاحي.
إلى أي مدى نستطيع "التحليق في الظلام" رواية كتبت على نحو متقطع زمنياً، قبل جائحة كورونا، غير أن بعض العبارات والسيناريوهات أعيد تحريرها كما يبدو لاحقاً، لتشكل رواية تجمع بين الخيال العلمي والقيمة الأدبية. وهو ما أقره كثير من القراء والنقاد على حد سواء، بينما ذهب البعض إلى عدم اكتمالها. وصفتها المجلة العلمية الأميركية بأنها رواية "متعددة الأصوات تعكس رغبتنا في إيجاد معنى داخل المأساة. أن نشعر بترابطنا الفطري مع كل الأشياء، ونعتني ببعضنا بعضاً (حتى الغرباء) في أوقات الخسارة الفادحة، وأن نتعلم كيف نقول وداعاً، لنضفي جمالاً على الأشياء، والأهم من ذلك، أن نقطن كوكباً يصلح للعيش للجميع".