Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خارطة الأزمة السياسية في تونس: تفرعاتها ومآلاتها

قيس سعيد يستمد قوته من المؤسسة العسكرية والأمنية التي باتت ذراعاً للدولة الجديدة المبنية على فئوية من نوع آخر

حالة من الانقسام السياسي في تونس تنذر بأزمة جديدة (أ ف ب)

"أيها التونسيون لا تُفرطوا في الحلم، حتى لا يصبح الإحساس بالواقع صعباً"، قول مأثور ينسحب على واقع التونسيين بعد 11 عاماً من إطاحة نظام الرئيس زين العابدين بن علي، بعد أن ارتفع منسوب الأحلام في غد أفضل، بينما يشرب الوافدون الجدد على الساحة السياسية في تونس نخب الثورة، ويسابقون الريح في نثر الأحلام الوردية، والوعود بالرفاه، والرخاء للتونسيين.

انتظر التونسيون "ربيع الثورة" وريعها، وطال الانتظار بينما تتكدس الأزمات على صدر البلاد، من عمليات إرهابية، إلى اغتيالات سياسية، إلى تنامي البطالة، إلى ارتفاع المديونية إلى التضخم.

"طلع البدر علينا"

عاد قياديو حركة "النهضة" الإسلامية من المنفى، واستُقبل راشد الغنوشي في مطار تونس قرطاج بأنشودة "طلع البدر علينا"، واعتلى الحزب سدة الحكم، وتجشم إكراهات السلطة، وتحالف مع أعداء الأمس (نداء تونس ثم قلب تونس)، وعِوض أن يقطع مع النظام السابق الذي فشل في الحفاظ على "المقايضة الطبقية" التي صنعها بأنامله من أجل ديمومته، قبل أن تتسع الهوة بين النظام وقواعده الاجتماعية، أعاد إنتاج النظام نفسه وانخرط في خيوط شبكة الطبقة المهيمنة ذاتها، التي أبدت ليونة كبيرة لابتلاع الوافدين الجدد وإعادة تدويرهم في العجلة الاقتصادية والسياسية.

ويقول الكاتب الصحافي، أحمد نظيف، في مقال له في صحيفة "قنطرة"، "اكتشفنا أن النظام أعاد تشكيل نفسه وفقاً لتحولات ما بعد 2011، لكنه حافظ على مصالح الطبقة المهيمنة، بأدوات جديدة، أضاف إليها شخصيات وكيانات جديدة، على رأسها الإسلاميون".

حركة "النهضة" تتمتع بالدولة

وبعد أن كانت حركة "النهضة" معادية للدولة التي بناها من تصفهم برموز الاستبداد في سردياتهم النضالية القديمة، وهما الحبيب بورقيبة، وزين العابدين بن علي، أصبحت الحركة "تتمتع بالدولة وتستفيد من الامتيازات والمصالح"، على حد تعبير نظيف.

واستمرت حال "زواج المتعة" بين الحركة والسلطة التي تجملت طبقاتها المتشعبة لاستيعاب خطاب الحركة الجديد، ولم تقدم "النهضة" مشروعاً يقوض ما سبقه، واصطدم خطابها بواقع معقد فاختارت الانخراط في المنظومة والاستفادة مما تدره من امتيازات.

تنصل الحزب ذو المرجعية الإسلامية من وعوده، وبات مكشوفاً في العراء مفضوحاً بازدواجية الخطاب، فمن غير الطبيعي أن تسب الاستبداد وتستثمر أدواته لمصالحك، وهو الذي وصف حزب "نداء تونس" الذي أسسه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، بأنه "أخطر من السلفيين"، بينما قال قائد السبسي إن "النهضة" و"نداء تونس" خطان متوازيان لا يلتقيان أبداً، قبل أن تحدث "المعجزة الإلهية" ويصبح الخطان المتوازيان متلازمين وهو ما "شكّل خيبة أمل للطبقة الوسطى التي راهنت على هذا التوافق، الذي كرس مزيداً من الفساد المالي والإداري، وعمق الأزمة الاقتصادية، وألحق قطاعاً واسعاً من هذه الطبقة بعموم الفقراء من ذوي الأوضاع المعيشية الرثة"، بحسب نظيف.

ولقد أنتج النظام السياسي سلطة هشة غير قادرة على ابتكار الحلول لأزمات البلاد المتراكمة، بينما يزداد التونسيون فقراً وتتآكل حدود الطبقة الوسطى، التي تنتظر الفرج من خارج تلك المنظومة.

قيس سعيد يهزم "ماكينة" السياسة

وفي لحظة سريالية غامرة، فاجأ رجل القانون، قيس سعيد، الجميع في الانتخابات الرئاسية 2019، بعد أن هزم خصومه السياسيين المحنكين سليلي "ماكينة" السياسة التي يبدو أن محركاتها تعطلت أمام رجل نقي السوابق السياسية وحضوره اللافت في وسائل الإعلام بلغة عربية شدت إليه التونسيين.

تجاسر قيس سعيد على طواحين السياسة وفاجأ الجميع وتقدم بخطى واثقة نحو قصر قرطاج في غفلة من الكل، وتداول الإعلام سيرته وهو سليل الطبقة الاجتماعية الوسطى من أب موظف وأم تعتني بشؤون البيت. درس بالجامعة التونسية وتخرج فيها ليدرس فيها لاحقاً القانون الدستوري قبل التقاعد منذ سنة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد مهد احتكار السلطة في تونس سنوات ما بعد 2011، لطبقة سياسية فئوية انتهازية بالمعنى السياسي للعبارة، ودخولها في قطيعة مع الطبقة الوسطى التي كانت تونس تفاخر بها طيلة سنوات حكم الرئيس السابق، زين العابدين بن علي، التي قايض بها الاتحاد العام التونسي للشغل من خلال مفاوضات اجتماعية دورية تفضي إلى زيادة في أجور الموظفين والقطاع العام، علاوة على تحكم محكم للدولة في مسالك توزيع ما يحتاجه التونسي يومياً من مواد أساسية، ليتربع قيس سعيد على عرش الدولة بتفويض شعبي غير مسبوق، لم يسرق الرجل فوزه كما لم يفاخر به، بل خطب في الناس زاهداً عن السلطة، يفضل احتساء قهوته في الحي الشعبي الذي ينحدر منه، الواقع غرب العاصمة (المنيهلة)، وراهن طيف كبير من التونسيين على رجل القانون ليخلصهم من وطأة طبقة سياسية جشعة أتت على الأخضر واليابس، وأثقلت عموم التونسيين بغلاء المعيشة وزجت بهم جميعاً في أتون الفقر والخصاصة، حتى بات ثلث التونسيين تحت عتبة الفقر.

تعطل الدولة وامتعاض جماعي

راقب رئيس الجمهورية، من قرطاج، الوضع العام وهو في شبه عزلة سياسية فرضها دستور 2014، تشفياً من نظام رئاسوي سليط، بينما "خصومه": رئيس البرلمان راشد الغنوشي، ورئيس الحكومة هشام المشيشي يديران الدولة بمزاج الحزب ومصالحه.

واستمر الوضع لأشهر من دون الاحتكام إلى ما تفرضه دواليب الدولة من شروط البروتوكولات من لقاءات ومشاورات دورية بين مؤسسات الحكم، ويقول المحلل السياسي محمد صالح العبيدي في هذا السياق، "لا تبدو الصورة مغرية عند الحديث عن تونس، فهناك حالة من الامتعاض الجماعي على الوضع العام يغذيه انكسار الثقة في الطبقة السياسية وتكرار مشاهد البهلوانيات البرلمانية، وترسخ اللا مبدئية الحزبية والصراعات المحمومة على التموقع التي أصبحت رياضة سياسية يومية، فجرائدنا لا تروي إلا فصول الهزائم المعنوية التي تضرب كل شرائح المجتمع: الجريمة، والسرقة، والتحيل وقضايا الفساد والرشوة، وكأننا تدحرجنا في مستوى دول أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية".

ساعة الصفر وتخليص الدولة

تحيّن قيس سعيد فرصة ذروة الأزمة السياسية التي تردت فيها البلاد، حيث لا غالب ولا مغلوب، أي (الساعة الصفر) في الزمن السياسي، بعد أن عم الجفاء مؤسسات الحكم في الدولة، وبات الجميع يتحدث عن ثلاث جزر مفصولة تكون من بعيد كائناً هلامياً اسمه مجازاً الدولة التونسية، فتقمص دور المنقذ من الانهيار، واستثمر لحظة الـ25 من يوليو (تموز) 2021، الذي يصادف عيد الجمهورية، ليعلن الإجراءات الاستثنائية التي أوصد بموجبها الباب أمام سياسيين هواة عمقوا الهوة بينهم وبين هموم الشعب، لينفجر التونسيون بهجة برجل خلصهم من طبقة سياسية حاكمة نهمة تكتفي بإحصاء عدد قتلى كورونا يومياً من التونسيين من دون أن تبتكر حلولاً أو تصنع رفاهاً.

لم يعمر شعور البهجة طويلاً إذ يتطلع التونسيون إلى إجراءات اقتصادية واجتماعية سريعة وفعالة، بعد أن تآكلت الطبقة الوسطى، وهي التي راهنت على هذا المنعرج، من أجل وضع اجتماعي أفضل، فهي لم تعد تحتمل صداع السجالات القانونية الدستورية.

استمر الفراغ شهرين تقريباً من دون حكومة، والأعناق مشرئبة يومياً إلى قصر قرطاج انتظاراً لخطاب رئاسي أو مراسيم تطيح خصوم قيس سعيد وتفكك شبكات الفساد الملتفة على أعناق أغلب القطاعات في الدولة.

الأحلام المكدسة

بات قيس سعيد يمسك بكل السلطات بعد أن كان زاهداً متعففاً، وعلى الرغم من أنه صاحب الكلمة الفصل، الحاكم بأمره كما يقول خصومه، لم يتخذ الإجراءات التي ينتظرها التونسيون وتمس معيشهم اليومي مباشرة، بل دخل في حرب مفتوحة مع الكل، عادى الجميع أحزاباً ومنظمات ومؤسسات وإعلاماً، فهو "يعتقد أنه شخص استثنائي ولا يحتاج لوسائط ولا للإعلام" على حد تعبير أستاذ الإعلام والاتصال في الجامعة التونسية الصادق الحمامي.

ويبرر رئيس الدولة إجراءاته بإنقاذ الدولة من الانهيار، بينما يرى معارضوه أنه انقلاب على الدستور واحتكار للسلطات، وتندد هياكل الإعلام بسوء إدارة الاتصال الرئاسي. وفي الأثناء، تكتفي وسائل الإعلام بالبيانات الرسمية الصادرة عن مؤسسة الرئاسة والمنشورة على موقعها على "فيسبوك".

غرقت تونس مجدداً في وحلِ أزمة سياسية غير مسبوقة، في تاريخها السياسي المعاصر، برلمان موصد الأبواب، معلقة اختصاصاته، تحرسه دبابات الجيش والأمن لأول مرة في تاريخ تونس السياسي المعاصر، وحكومة تأتمر بأوامر الرئيس، ولا يُسمع صوت لرئيستها، نجلاء بودن، ومنظمات وطنية تتوسل، وأخرى تهادن، بينما خفت صوت حركة "النهضة" والأحزاب المتحالفة معها لحين، بعد أن صرخ التونسيون في وجوههم سخطاً، وها هي ذي اليوم تطالب بعودة المسار الدستوري.

في المقابل، وضع رئيس الجمهورية خارطة طريق تبدأ باستشارة إلكترونية ثم استفتاء على النظام السياسي فانتخابات تشريعية، مسار اعتبره منتقدوه أنه فرض لأمر واقع وحملة انتخابية مبكرة لشخص قيس سعيد.

عزز قيس سعيد وجاهة إجراءاته الاستثنائية من غمرة بهجة التونسيين، التي لم تعمر طويلاً لينزلق الوجدان التونسي مجدداً في كبد المعاناة والحيرة ويتنامى شعور الإحباط بينما تزداد الهوة اتساعاً مجدداً بين رئيس الجمهورية وقاعدته الشعبية. وبات سعيد اليوم يستمد قوته من المؤسسة العسكرية والأمنية التي باتت ذراعاً للدولة الجديدة المبنية على فئوية من نوع آخر، وسط حال من الانقسام السياسي، الذي ينذر بانفجار جديد، قد لا يكون بعيداً تغذي شرايينه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وستكون وقوده الفئات الهشة التي تدفع في كل مرة ثمن الانكسارات السياسية.

المزيد من تحلیل