Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"المعادلة الألهية" ملحمة روائية تجمع بين مزالق السياسة والعلم والفلسفة والدين

البرتغالي جوزيه سانتوس يتخطى التخييل الملغز لدى دان براون انطلاقا من مشروع آينشتاين النووي

اسرار الكون والسياسة والدين ومعادلة أينشتاين في رواية واحدة (موقع  ساينس)

ما يميز عمل الروائي البرتغالي جوزيه رودريغز دوس سانتوس في روايته "المعادلة الإلهية" (دار الجمل، 670 صفحة) هو استغراقه في النظريات العلمية الأكثر أهمية في تاريخ تطور العلوم، لا سيما تلك التي وضعها آينشتاين ونيوتن. فـ"المعادلة الإلهية" هي كناية عن نص روائي يسرد فيه الكاتب أكثر النظريات دقة وتعقيداً. حاولت تلك النظريات تفكيك لغز الكون وبدايات تشكله ومن ثم تطوره وصولاً إلى نهايته أو تكرار تشكله إلى ما لا نهاية. وهو أمر تطرقت إليه الأديان السماوية والوضعية ولكن من خلال دلالات رمزية ودروب استندت إلى الغيبية الميتافيزيقية والإيمان بأن ثمة خالقاً لهذا الكون. تفسير لغز النشوء الكوني يتراوح في هذه الرواية الممتعة علمياً وفلسفياً بين الأدلة العلمية والدلالات الدينية الرمزية لقصة الخلق.

وطبعاً إثبات وجود الله الخالق، بدلالات متعارضة تنحو في الدين إلى الإيمان ومستنده حكايا الأنبياء والمرسلين "من العهد القديم فالجديد لكن من غير التطرق للقرآن الكريم"، ومنهج الوحي الوسيط مع الله، بينما تنحو في العلم إلى براهين ملموسة لوجود خالق يختلف في وصفه عن الله الذي تحدثت عنه الأديان السماوية والوضعية. حاول جوزيه سانتوس من خلال روايته أن يشرح أن همّ العلماء لم يكن إيجاد البراهين على وجود "خالق" لهذا الكون، بقدر ما هدف للبحث عن تفسير ظواهر الطبيعة واكتشاف القوانين التي تعمل بها، والمعادلة الخفية التي يعمل وفقها نظام الكون المثير للذهول والفضول العلمي.

أبعد من "دافنتشي كود"

المدهش في عمل سانتوس الذي ترجمه سعيد بنعبد الواحد عن البرتغالية، بلغة متقنة، هو تلك الحوارات العلمية الدقيقة التي تنم عن باحث دؤوب شديد الاجتهاد وليس مجرد روائي يسعى وراء مخيلته. مع ذلك، تمكن سانتوس، من خلال حبكة واقعية يمتزج فيها السياسي والاستخباراتي والعلمي والفلسفي واللاهوتي، بسلاسة مثيرة للدهشة والمتعة في آن، من أن يرتقي بهذا النوع الروائي إلى أبعد مما فعله الروائي دان براون في رائعته "دافنشي كود" وتجاوزه بما لا يقاس. وإن تطلب عمله "المعادلة الإلهية" صبراً وتركيزاً عالياً من القراء ليتمكنوا من فهم الثيمة التي استند إليها العمل الروائي، أي ثيمة البحث عن خالق الكون في سياق محاولات فك شيفرة رسالة مشفرة كتبها آينشتاين على يد الشخصية الروائية الرئيسية طوماس نورونيا، المؤرخ وخبير التشفير الذي يعمل مستشاراً لـ"مؤسسة كولبنكيان للآثار" وأستاذاً في إحدى جامعات لشبونة، وهو ابن عالم الرياضيات مانويل نورونيا الصديق الحميم لعالم الفيزياء "أوغستو سيزا" التلميذ السابق لألبرت آينشتاين والمقرب منه والذي ائتمنه على رسالته "المعادلة الإلهية" كي يتم نشرها في الوقت المناسب بعد موته. أي في الوقت الذي يتمكن سيزا من استكمال ما بدأه آينشتاين بما يضمن عدم اعتباره مختلاً عقلياً بالنسبة لأقرانه المنافسين العلميين وقتذاك. وما تجدر الإشارة إليه هو أن الرواية تدور أحداثها بين منتصف القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين.

قد يغلب على أسلوب الروائي جوزيه دوس سانتوس العمل البحثي في رواياته الأخرى لكونها تتطرق إلى أمور يختلط فيها التاريخي بالسياسي بالإنساني، كما في روايته الاستثنائية "رجل القسطنطينية" التي ترجمها أيضاً سعيد بنعبد الواحد، وهى ترصد لحظة فارقة في تاريخ العالم، جمعت بين النفس الأخير قبل انهيار الإمبراطورية العثمانية، والسعي الغربي المحموم للسيطرة على المنطقة العربية. نرى ذلك أيضاً في روايته "الغضب السماوي" الأكثر رواجاً في العالم والتي ترجمت إلى 20 لغة، وهي تحكي عن جهادي مصري يدعى أحمد، كان مواظباً على حضور دروس شيخ متطرف، ولكنه اعتقل.

قنبلة باكستان

وفور ما أطلق سراحه التحق بتنظيم "القاعدة" في أفغانستان، وصار مقرباً من أسامة بن لادن، الذي كلّفه تنفيذ اعتداءات باستخدام القنبلة الذرية في الغرب. ألهمه في كتابة هذه الرواية عنوان كتاب "باكستان والقنبلة الذرية" الذي وجده في مكتبة فندق الماريوت في إسلام آباد إثر اغتيال رئيسة الوزراء الباكستانية بنازير بوتو. وقد دفعه عمله الصحافي إلى هذا الأسلوب الذي يختلط فيه البحث العلمي والتاريخي بالتحقيق الصحافي، واستخدام المتخيل لتفكيك الواقع المعقد على أسس سرد روائي أكثر تعقيداً، يصعب معه الفصل بين الحقيقي والمتخيل. وساعده عمله كمذيع لامع للنشرة الإخبارية الرئيسة للقناة الأولى البرتغالية في الوصول إلى الكثير من العلاقات والأماكن التي يصعب الوصول إليها.

تبدأ "المعادلة الإلهية" كرواية من واقعتين، إحداهما حقيقية وهي اللقاء الذي جرى بين بن غوريون رئيس الوزراء الإسرائيلي عام 1951 وآينشتاين ذي الأصول اليهودية، والواقعة الثانية عن لقاء جمع طوماس نورونيا مع عالمة فيزياء إيرانية تدعى آريانا باكرافان، قابلته عمداً في القاهرة أثناء وجوده في مؤتمر علمي، وعرضت عليه مخطوطة بخط يد آينشتاين تحمل عنوان "المعادلة الإلهية". كُتِبَ قسم منها بلغة مشفرة والقسم الآخر باللغة الألمانية التي يجيدها آينشتاين الألماني الأصل. غلب الاعتقاد أنها معادلة فيزيائية لصنع قنبلة نووية بسيطة التصنيع وغير مكلفة، كان طلبها بن غوريون في اللقاء الذي جمعه ربيع 1951 مع آينشتاين في جامعة برينستون كي يدعم دولة إسرائيل الفتية لحماية نفسها من خطر دائم.

هذا اللقاء الذي جمع بين بن غوريون وآينشتاين كواقعة تاريخية، تلته ملابسات وأحداث أحاطت بهذه الواقعة، بما فيها رسالة آينشتاين التي كانت تتراوح بين المتخيل والحقيقة، بدرجة كبيرة يصعب الفصل بينهما. وهي الخلفية التي توارى جوزيه دوس سانتوس خلف خباياها السياسية والاستخباراتية ليحقق في مسألة الخلق عبر منهج علمي تارة ومناهج لاهوتية استند في حل شفرتها إلى نصوص من العهد القديم وردت في تلك الرسالة. عطفاً على الغوص في الفلسفات الروحية للديانات الشرقية كالبوذية والهندوسية والطاوية، التي عالجت شخوص الرواية عبر مرجعياتها، كيف تلاقت العلوم الغربية كما العهد القديم والديانات الشرقية، في إثبات وجود الخالق لكن عبر طرق ودروب مختلفة. جوزيه دوس سانتوس ليس عالماً ولا رجل دين أو لاهوتياً، كما أنه ليس متبحراً في الفلسفة، بل اشتهر بوصفه من ألمع نجوم الإعلام المتلفز كمذيع لنشرة الأخبار الرئيسية على القناة الحكومية الأولى في البرتغال. وربما هذا ما يفسر العديد من رواياته التي عالجت أمراً سياسياً على خلفيات تاريخية وثقافية ودينية.

التفسير الديني والعلمي

استهل سانتوس روايته بمقطع من سفر الرؤية 8:1 يقول: "أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية يقول الرب الكائن والذي كان والذي يأتي، القادر على كل شيء". وهو ما يتطابق مع التفسير العلمي لنظريات متعددة جمعها آينشتاين وتعمق فيها ليصل إلى "نظرية كل شيء"، التي على ما يبدو بحسب سانتوس، أطلق عليها آينشتاين المعادلة الإلهية. إذ بدأ الكون مع الانفجار العظيم "البيغ بانغ" الذي سيظل يتمدد ويتسع إلى أن يصل إما لمرحلة التجمد أو الانكماش. وتتواصل الحوارات العلمية التي يجريها طوماس مع والده المشرف على الموت وأيضاً مع العالم لويس روشا، الأستاذ المساعد للعالم سيزا. ولا يلبث أن يسافر طوماس إلى التيبت ليقابل العالم البوذيساتفا تيزنينغ، راهب الطاوية الذي شاطر سيزا مهمة إكمال ما بدأه مع آينشتاين، والذي شاطره قربه منه أثناء عمله على مشروعه الذي حمله عنوان "نظرية كل شيء أو المعادلة الإلهية"، أي أن الكون يصل إلى مرحلة الزوال ليعود إلى بداية جديدة كتكرار، لكن تحت لغز يخفي سره فيه، طالما وجد من يراقبه ويحاول سبر أسرار نشوئه. وهذا ما يتقاطع مع ما ورد في سفر الرؤية، كما تمت الإشارة سابقاً. فالكون يعيد خلق نفسه مراراً وتكراراً، ويعمل على إخفاء سره بحسابات فيزيائية وزمنية دقيقة وفقاً لقوانين نظرية الكم، كأن يوجد الإلكترون في مكانين على شكل موجة يدخل فيها من ثقبين إلى اليسار واليمين، ما دام لا يخضع للملاحظة. فقط ينتقل الإلكترون إلى جهة واحدة في حضور ملاحظ، كأنما الكون يخفي سره وقدرته.

صحيح أن البداية السردية انطلقت من حدثين أوحيا بما يشبه الخدعة أننا بصدد رواية يغلب عليها الطابع السياسي، لا سيما حين تشرح آريانا في وزارة الشؤون العلمية والبحث والتكنولوجيا الإيرانية، في القاهرة لطوماس أنها تملك مخطوطة مهمة وسرية، وتطلعه على نسخة الغلاف الممهور بتوقيع لآينشتاين وتزعم أنها تحتوي على معادلة لتصنيع قنبلة نووية بسيطة التصنيع وقليلة الكلفة، نزولاً عند رغبة بن غوريون. وتحتاج إلى براعته في فك القسم المشفر من المخطوطة لقاء مبلغ مغر من المال. قبل طوماس العمل تحت تأثير الفضول ولكون المخطوط لآينشتاين فضلاً عن الإغراء المادي. وحين يعود إلى لشبونة تتعقد حياته ويدخل في متاهة الاستخبارات الأميركية ومدير عملياتها فرانك بيلامي الذي يحضر من واشنطن لمقابلته في السفارة الأميركية بناء على ترتيب من الملحق الثقافي غريغ سوليفان.

يعرض بيلامي على طوماس العمل لمصلحة الاستخبارات الأميركية بعد أن يخبره أنه يعلم بالمخطوطة وبما حدث معه في القاهرة، وأيضاً بالعرض الذي قدمته آريانا، بينما يخبره طوماس أنه لم يوافق بعد على عرضها. يخبره بيلامي بأن عليه أن يوافق كي يتمكن من الاطلاع على المخطوطة وفك شيفرتها لما يحتمل أنها معادلة لصنع قنبلة نووية. حين يرفض طوماس يفاجأ أنه مرغم على القبول حين استخدم بيلامي أسلوب الترغيب والترهيب بعد أن أخبره أن "عزيز المتقي" التابع للمقاومة الإسلامية الجناح العسكري لحزب الله، سرق المخطوطة من مكتب العالم أوغستو سيزا بعد مداهمة منزله وقام باختطافه.

مخطوطة أينشتاين

في طهران يتعرض طوماس لضغوط وملابسات ويتورط مع غولبهار باغيري عميل الـ"سي آي أي" في طهران في سرقة كامل المخطوط. يصاب العميل ويعتقل المؤرخ طوماس ويزج في السجن. هناك يتعرض لتعذيب شديد يظهر وحشية النظام. ثم لا يلبث أن تساعده آريانا وأصدقاؤها في الهرب من الحافلة التي تنقله إلى سجن غير شرعي لا سجلات فيه للسجناء. لاحقاً ترتب أمر خروجه من إيران وتعده باللحاق به إلى لشبونة. ومن هناك يسافران معاً إلى "التيبيت" ليبحث طوماس عن صديق سيزا الذي أرسل له بطاقة بريدية مرسلة من هناك تحمل توقيع تينزينغ ثوبتين التي وجدها حين ذهب بمعية لويس روشا إلى شقة سيزا ليبحث عما يمكن أن يساعده لحل شيفرة مخطوطة آينشتاين. كانت البطاقة مرمية بشكل مهمل على مكتب سيزا. استهل تينزينغ البطاقة بالقول: "صديقي العزيز... سعدت بتلقي أخبارك وفضولي يغلبني لمعرفة اكتشافاتك، فهل يكون اليوم الموعود قد حل؟ التحق بي في المعبد. مع مودتي، تينزينغ ثوبتين". هناك يتعمق طوماس وآريانا مع "البوذيساتفا تينزينغ" في حوارات علمية وروحية يشرح فيها العالم التيبتي التقاطع بين دروب العلم الغربية والأديان الشرقية في حقيقة إثبات وجود الخالق. ولكن بعد أن يمر كلاهما بمصاعب مرعبة حين تلاحقهما الاستخبارات الإيرانية إلى هناك، لا يلبثا أن يهربا منها للقاء تنيزينغ وذلك لإضافة بعض التشويق في الحبكة المتعددة التنوعات والغايات التي وضعها سانتوس.

تشويف وعلم

يصعب الخوض في تفاصيل النظريات العلمية التي وردت في الرواية والحوارات العلمية الدقيقة على رغم متعتها الشديدة في هذه المراجعة الوجيزة، لكنها مشوقة وتدفع القراء، في حال بذلوا القليل من التركيز، إلى مواصلة القراءة من أجل المزيد من التشويق، أثناء رحلة الغوص في خبايا الاكتشافات العلمية عن سر الوجود والخلق. والاستطراد سيد الموقف في الحوارات الفلسفية التي يخوضها طوماس مع والده عن الحياة والموت والخلق وأيضاً مع تينزينغ وآريانا ولويس روشار... وتتخلل الاستطرادات والحوارات لحظات عشق يتفتح بين طوماس وآريانا، بلغت مراتبها نفحات من العشق تطورت حتى الخوض في علاقة جنسية ألهبت مشاعر كل منهما وسط تألق في الأحاسيس الروحانية التي سيطرت عليهما وسط الطبيعة الخلابة للتيبيت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

طبعا كان لا بد من وجود شخصية روائية مكملة لشخصية طوماس المؤرخ وخبير التشفير، وهي والده عالم الرياضيات مانويل نورونيا، لدعم المضمون العلمي للرواية والحوارات العلمية الدقيقة. حين يساهم مانويل في تفتح طوماس العلمي الذي يمكنه - بحسب سانتوس- من فهم ألغاز الشيفرة تتعمق علاقة الأب بابنه بعد زمن من البرود، سيطر على علاقتهما نتيجة انغماس والده في مهنته كعالم للرياضيات على حساب دوره كأب. ولكن حين اقترب مانويل من الموت استيقظ على ما أضاعه من عمر أفناه وأهمل فيه ابنه. وكلما اقترب أكثر من الموت غاص في حوارات عن عالم ما بعد الموت، ما قاده مع طوماس المهووس بفك شيفرة المعادلة الإلهية إلى حوارات علمية وفلسفية عميقة ظهرت في الثيمة العامة للرواية، وخلقت نظاماً سردياً متشعباً يشبه الكون.

وعلى رغم نظرية الحتمية، المبنية على براهين علمية دقيقة، تؤكد نظريات أخرى أن هذه الحتمية تتهاوى أمام جناح فراشة يرفرف في بلد فيخلق عاصفة هائلة في بلد آخر يقع على بعد آلاف الكيلومترات إلى أن يصل "تأثير الفراشة"، الذي أطلق على إحدى النظريات العلمية التي تتحدث عن حتمية حدوث الأشياء، لكنها تبقى قاصرة عن التجسد بفرضيتها العلمية الدقيقة عند أصغر جناح يرفرف لفراشة تطير فوق السهوب.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة