"النثر الجميل نادر، وحين يقترن بقصة آسرة، يصبح باهراً". بهذه الجملة افتتحت الناقدة الأميركية روبرتا سيلمان مقالها عن رواية ربيع علم الدين، "الطرف الخاطئ للمنظار"، قبل أن تستتبعها بجملة أخرى تعتبر فيها هذا الروائي اللبناني الأميركي المقيم في كاليفورنيا "أحد أفضل الكتاب المعاصرين باللغة الإنجليزية". اعتبار لا مبالغة فيه، يتبناه تلقائياً كل من يقرأ هذه الرواية التي تشكل، مثل سابقتها، "امرأة غير ضرورية"، نصاً صاعقاً في نبرة خطابه وعمق موضوعاته وجماليات متنه، وبالتالي خطوة إلى الأمام في عمل صاحبه الكتابي الذي بات يتضمن سبع روايات.
مسرح أحداث الرواية، التي صدرت حديثاً في نيويورك عن "منشورات غروف"، هو مخيم "موريا" في جزيرة ليسبوس اليونانية الذي قصده علم الدين مراراً في السنوات الأخيرة بغية الكتابة عن معاناة قاطنيه، النازحين السوريين. لكن موضوعها لا يقتصر على هذه المأساة، على الرغم من مركزيتها، لكونها تقارب أيضاً موضوعات الهوية والفقدان والانتصار على الذات والأحكام المسبقة من خلال شخصيتها الرئيسة، مينا سيمسون.
الهوية الضائعة
مينا طبيبة لبنانية خمسينية شاء القدر أن تولد في جسد رجل، وحين قررت معانقة هويتها الحقيقية، نبذها ذووها، فاستقرت في الولايات المتحدة. في زمن الرواية، نراها تتوجه إلى مخيم "موريا" لمد يد المساعدة لسكانه، ورؤية الفرد الوحيد من عائلتها الذي لم يقطع صلاته بها، شقيقها مازن، ما يجعل من "الطرف الخاطئ للمنظار" أيضاً رواية حول معنى أن نولد وننشأ في مجتمع لن يتقبلنا أبداً إن لم نلتزم بضوابطه الأخلاقية والجنسية الصارمة، وحول الطريقة التي يمكننا بواسطتها الإفلات من هذه الضوابط وتشييد أنفسنا.
وثمة بعد ثالث في الرواية، سير ذاتي، يتمثل في تفحص صاحبها على طول نصها حدوده ككاتب وعجزه عن سرد قصته الشخصية وقصة اللاجئين إلا بطريقة إضمارية، مواربة. عجز تمكن علم الدين من تجاوزه عبر ابتكاره شخصية روائي -صنوه- يعاني المشكلة نفسها، وأيضاً عبر كتابة روايته كما يرسم الفنان لوحة، أي لمسة بعد لمسة، حتى بلوغ بورتريه حميمي لما يعنيه الانغماس في سديم جزيرة تعج باللاجئين، وأيضاً لكيف نصبح ما نحن عليه.
اللمسات في الرواية هي فصول قصيرة بعناوين طريفة نتعرف فيها إلى مينا وحياتها في لبنان أولاً، ثم على مدى ثلاثة عقود في أميركا، قبل أن تحط في جزيرة ليسبوس، إثر مكالمة هاتفية مع صديقة لها تعمل في منظمة غير حكومية وتطلب منها المجيء إلى مخيم "موريا" للمساعدة. سردية تقطعها رسائل توجهها هذه المرأة إلى روائي التقت به في الجزيرة ونتعرف فيها إلى هذا الشخص الذي يشبه الكاتب إلى حد بعيد.
قصص وذكريات
لدينا إذاً في "الطرف الخاطئ للمنظار" سلسلة قصص وذكريات موازية لهاتين الشخصيتين اللتين ستربطهما علاقة مبنية على عاطفة وسخط متبادلين. لدينا أيضاً باقة من الشخصيات التي تدور حولهما وتكافح للبقاء على قيد الحياة وتشييد نفسها، فتنجح تارة وتفشل تارة أخرى، وتستسلم غالباً لذكرياتها وماضيها. لدينا أخيراً كمٌّ من التفاصيل والطرف حول جزيرة ليسبوس بمطارها وطرقاتها وفنادقها ومطاعمها وعياداتها وخيمها وبؤسائها، وحول أولئك الذين قدموا إليها بحجة المساعدة، ولا يلبث سلوكهم المخزي تجاه اللاجئين أن يكشف عن دوافع قدومهم الحقيقية.
لكن ما سيوجه عملية السرد في لحظة ما هو الصداقة التي ستنشأ بين مينا ولاجئة سورية مصابة بمرض سرطان الكبد تدعى سمية، والجهود التي ستبذلها مينا لمعالجتها بالوسائل المحدودة المتاحة في المكان المذكور. ولتوفير مكان آمن لها ولعائلتها تتمكن سمية فيه من توديع زوجها وبناتها الثلاث كما يجب. مهمة عسيرة نظراً إلى العقبات التي ستعترض سبيل هاتين المرأتين وتمنحنا فكرة دقيقة ورهيبة عن معيش قاطني مخيم "موريا" المشؤوم الذين لم يعد يكترث أحد لمأساتهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن حين نبلغ منتصف الرواية، يحصل انفراج في قصتها وينكشف تدريجياً لقارئها ما بقي مخفياً عليه، فيغوص بعمق في شخصية الروائي وحياته، صديق مينا الملغز، ويعي كيف اكتشف هذا الكاتب يوماً ميوله المثلية وعانقها، كما يدرك كيف أسهم لقاء مينا بالصدفة مع قرد أنثى، في غابة، في تقبلها هويتها الجنسية الحقيقية ووضعها حد لعلاقتها آنذاك بامرأة تدعى جينيفر، "في هذه الأبدية، تحت سماء برونزية، وبينما كنا نتبادل النظرات، حصل انقلاب. غاص أيمن (اسم مينا الأصلي) في الأرض، وولدت مينا".وفعلاً، انطلاقاً من هذه النقطة المحورية في الرواية، يشتعل نثر نصها ويتعزز وقعه، تماماً مثل الصداقة التي تتعمق في مكان لا قيود فيه، فنتعلم المزيد عن هذه المرأة الفاتنة ومختلف فصول حياتها، وعن صديقها المذعور من عجزه عن التعامل مع أولئك الذين أتى إلى ليسبوس لمساعدتهم والكتابة عنهم.
شخصيات وأفكار
وبالنتيجة، إنجاز روائي مذهل يعج بالشخصيات المثيرة والمجسدة بقوة، وبالأفكار والآراء السياسية الثاقبة حول شرقنا، ماضٍ وحاضر، كما يعج بقصص عائلية مؤثرة، بعضها مؤلم وعنيف. وكما في كل الروايات الكبرى، ثمة شعور بطارئ وحميمية يتسلط على جميع صفحات هذا العمل، وثمة قصة يتوجب سردها لأنها "ضرورية"، كما قال يوماً الشاعر ريلكه. قصة "إن كنت غير قادر على سردها، فسأفعل ذلك بنفسي"، تقول مينا لصديقها الروائي، ما يجعل من "الطرف الخاطئ للمنظار" رواية حول فعل الكتابة أيضاً، وحول ما يمكننا وما لا يمكننا أن نكتبه، بالتالي حول صعوبات سرد قصة معقدة كقصتها.
صعوبات، نجح علم الدين ببراعة ليس فقط في عرضها، بل أيضاً في تجاوزها، بخلاف صنوه داخل الرواية، مستثمراً بذكاء وطريقة مبتكرة داخل نصه كل ما يعرفه عن شرقنا، ومانحاً إيانا سردية مغناطيسية تعري وحشية الحياة المعاصرة بنعمة وطرافة نادرتين. سردية، على الرغم من الحزن الذي يطغى عليها، تزرع داخل قارئها شعوراً بالأمل. أمل لا يعني أبداً تفاؤلاً أعمى، لأن المناخ السائد داخل الرواية هو عموماً الرضوخ، لكنه رضوخ يرفض نفسه ويتجذر في قناعة بأن ثمة جواباً في مكان ما.
ومع أن مينا لا تؤمن بأن هذا الجواب يكمن داخل الكتابة، فتؤنب صديقها الروائي، قائلة "متى فسرت الكتابة لك أي شيء؟ المفاتيح، إن وجدت يا صديقي، هي خارج الأدب". لكن أي طريقة أفضل منها لإظهار لماذا نتابع بحثنا ونأمل، حتى حين يحثنا كل شيء حولنا على الاستسلام لليأس؟