Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البريطاني مالكولم غلادويل يستنطق الحرب الثانية روائيا

الأفكار المثالية تصطدم بالوقائع المريرة والخراب في "مافيا قاذفات القنابل"

الروائي البريطاني مالكولم غلادويل (صفحة الكاتب على فيسبوك)

على الرغم من العقود الثمانية التي مرت على وضع الحرب العالمية الثانية أوزارها، والحبر الكثير الذي سال فيها في مختلف الحقول المعرفية، فإنها لا تزال مجالاً حيوياً للكتابة التاريخية والأدبية، فتوضع فيها الدراسات، وتدون المذكرات، وتكتب حولها الروايات. ولعل آخر ما صدر في هذا المجال كتاب "مافيا قاذفات القنابل" للبريطاني مالكولم غلادويل، الصادر أخيراً بالعربية عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" في بيروت، بتعريب إسماعيل كاظم. وغلادويل صحافي وكاتب كندي من أصل بريطاني تعتبر كتبه الستة، الصادرة في العقدين الأخيرين، بين الأكثر مبيعاً حول العالم.

 الرواية والتاريخ

 في التجنيس، نقرأ على الغلاف الأمامي للكتاب كلمة "رواية"، ونقرأ بين الغلافين الأمامي والخلفي مادة نصية، تشتمل على وقائع تاريخية وشخصيات معروفة وأماكن جغرافية، فنتساءل: أين تنتهي الرواية ويبدأ التاريخ؟ وكيف نرسم الحدود بين هذين الحقلين المعرفيين في الكتاب؟ وفي الإجابة عن هذا التساؤل المزدوج، من خلال القراءة، يتبين لنا أن المحتوى التاريخي يتم تقديمه بتقنيات روائية تشكل إطاراً له، فيتجاور في الكتاب علم التاريخ وفن الرواية؛ يتمظهر الأول في الوقائع العامة والشخوص التاريخية والفضاءين المكاني والزماني، ويتمظهر الثاني في التفاصيل المتخيلة وتحليل الشخوص والتداخل بين الفصول مما يتعلق بطريقة كيفية تقديم المادة لا بماهيتها. وبذلك، يجمع الكتاب بين الماهية التاريخية والكيفية الروائية.

وبمعزل عن التجنيس، "مافيا قاذفات القنابل" عنوان تتم ترجمته في غير موضع في المتن؛ فهو "دراسة حالة عن الأحلام التي تنحرف عن مسارها، وعن الأفكار التي تسقط من السموات، إلا أنها لا تحط بخفة في أحضاننا، بل تصطدم بقوة بالأرض وتتهشم" (ص 19)، وهو لقب أطلق على "قادة المدرسة التكتيكية في الفيلق الجوي" في قاعدة ماكسويل فيلد الجوية الأميركية (ص 42)، وهو اسم "عصبة من الأخوة [...] كانوا مجموعة متمردة، خاضوا حملات علاقات عامة، وكتب بعضهم تحت أسماء مستعارة للترويج للقوة الجوية" (ص 46)، وهو مجموعة "مؤلفة من مجموعة من الرجال على الأكثر، يقطنون جميعاً متقاربين في تلك الشوارع الظليلة في ماكسويل فيلد" (ص 58)، وهو مجموعة "مكونة من منظرين، مفكرين أتوا بخططهم الكبيرة خلال الأعوام السابقة للحرب، آمنين في مونتغمري ألاباما" (ص 94). ونستنتج من هذه التمظهرات المتنية وجود مجموعة من الطيارين الحالمين باختراع أسلحة متطورة، واجتراح استراتيجيات جديدة، تختصر أمد الحرب، وتلحق الهزيمة بالعدو، وتقلل عدد الضحايا، تضطلع القوات الجوية بتنفيذها كاسرة احتكار القوات البرية لهذا الشرف. غير أن الحلم المشترك يصطدم بالواقع ما يؤدي إلى انحرافه عن مساره وتهشمه. وهذا الاستنتاج يختزل مسار الأحداث في الرواية ومصيرها.

تدور الأحداث في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، في قاعدة ماكسويل فيلد الجوية في مونتغمري من أعمال ولاية ألاباما الأميركية، في مرحلة أولى، وفي جزر الماريانا الواقعة في الجزء الغربي من المحيط الهادي، في مرحلة ثانية، وتقع مضاعفاتها على مدينتي ريغنسبورغ وشواينفورت الألمانيتين، في المرحلة الأولى، ومدينة طوكيو وغيرها من المدن اليابانية في المرحلة الثانية. وتتمخض الأحداث، في هذه الفضاءات المكانية والزمنية، عن فلسفتين اثنتين للحرب، تتفقان في الغاية المتمثلة في حسم الحرب وإلحاق الهزيمة بالعدو، في أقصر مدة زمنية، وبأقل خسائر ممكنة، وتختلفان في الوسيلة التي تحقق هذه الغاية. والمفارق أن الفلسفتين كلتيهما تنطلق من مبررات أخلاقية وإنسانية، وتتفتق عنهما عقول "مافيا قاذفات القنابل"، وتنخرطان في صراع فيما بينهما يشكل محور الأحداث في الرواية، وتترتب عليه نتائج معينة، فتربح إحدى الفلسفتين المعركة، وتربح الثانية الحرب.

الأهداف المختارة

الفلسفة الأولى تقوم على اختيار أهداف معينة، عسكرية واقتصادية وصناعية، وقصفها من ارتفاعات عالية بطائرات بي 29 المزودة بمصوب القنابل الذي طوره الهولندي كارل نوردن مبرراً تطويره باعتبارات دينية وأخلاقية وإنسانية، ما يؤدي إلى شل حركة العدو، ويحول دون ارتكاب المجازر الجماعية، ويمثل هذه الفلسفة الجنرال هيوود هانسيل، قائد قاذفات القنابل الحادية والعشرين، المتحدر من عائلة عسكرية أرستقراطية، المهووس بالتحليق، الصادق، الرومانسي، الساعي إلى تحقيق حلم "المافيا" بحرب نظيفة، في أقصر مدة، وبأقل الخسائر.

وهو، في إطار السعي لتحقيق فلسفته الحالمة، يختار في عام 1943 أهدافاً صناعية عسكرية في مدينة شواينفورت الألمانية ويقصفها من ارتفاعات عالية، غير أن مساعيه المتكررة تصطدم بواقع المعوقات الطبيعية والمناخية، وتتمخض عن خسائر فادحة، وتخفق في تحقيق أهدافها. وحين يكرر التجربة في قصف مدينة طوكيو في عام 1944 يصطدم بمعوقات أخرى ولا تختلف النتائج في هذه التجربة عنها في التجربة السابقة.

 الأرض المحروقة

 الفلسفة الثانية تقوم على سياسة الأرض المحروقة والقصف الشامل للمدن من دون تمييز بين أهداف عسكرية وأخرى مدنية بهدف ضرب معنويات العدو ودفعه إلى الاستسلام. ويمثل هذه الفلسفة العقيد كورتس لوماي، المتحدر من أسرة فقيرة، ذو الرأس المربع، البارع في استخدام السلاح، العقلاني، رابط الجأش، الوحشي، المصمم على تحقيق أهدافه. لذلك، يغتنم فرصة طرد هانسيل من موقعه والحلول مكانه، ويستفيد من اختراع قنابل النابالم الحارقة، ويسقط في إغواء استخدامها، الأمر الذي يتجنبه سلفه بدافع من اعتباراته الإنسانية ويدفع ثمنه غالياً. من هنا، يجرد لوماي في عام 1945 حملات جوية، ويغامر في قصف سبع وستين مدينة يابانية، بما فيها طوكيو العاصمة، من ارتفاعات منخفضة، ويلقي عليها أطناناً من قنابل النابالم، فيحرق مساحات شاسعة فيها، ويسقط مئات آلاف الضحايا، حتى شارفت اليابان الاستسلام، ولم يعد ثمة ضرورة لاستخدام القنابل النووية، "فقد كان العمل الحقيقي قد أنجز"، على حد تعبيره (ص 188). وهكذا، ينجح الإغواء حيث فشل الحلم، وتنتصر فلسفة الأرض المحروقة على فلسفة الأهداف المختارة، ويدخل كورتس لوماي تاريخ الحرب الوحشية من بابها العريض ليخرج هيوود هانسل من نافذتها الضيقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في "مافيا قاذفات القنابل"، يقوم مالكولم غلادويل ببناء هاتين الشخصيتين المحوريتين، من خلال تحليلهما وسرد سلوكهما وذكر ما كتب عنهما، مستنداً إلى ثقافته العميقة في علم النفس وعلم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي. فيأتي البناء الروائي مطابقاً للأصل الواقعي. وهو يفعل الشيء نفسه في بناء الشخصيات الأخرى التاريخية ككارل نورن وآيرا إيكر وفريدريك لينديمان وغيرهم. على أن حجم حضور الشخصيات التاريخية في الرواية لا يتناسب بالضرورة مع أهميتها التاريخية في الواقع، فحضور ونستون تشرشل وتيودور روزفلت في الرواية هو حضور عابر على الرغم من أهمية حضورهما في التاريخ والواقع، على سبيل المثال لا الحصر. وإذا كان غلادويل الروائي يستخدم تقنيات السرد وتقديم الأحداث وبناء الشخصيات وفق مقتضيات الفن الروائي، فإن غلادويل المؤرخ يلجأ إلى العديد من المصادر، ويقوم بالزيارات الميدانية، ويقابل الشهود الأحياء، ويخلص إلى حقائق تاريخية تشكل الجهاز العظمي لروايته ويتكفل الروائي فيه بكسوته بالقصص والحكايات. ولعل هذا ما يفسر كثرة المقتبسات النصية وتنوعها في الرواية وتعدد مصادرها، فيستلها من مؤرخ عسكري أو كتاب تاريخي أو مقابلة صحافية أو فيلم سينمائي أو مقابلة إذاعية أو شهادة ناجٍ أو مذكرات قائد أو مقال صحافي أو تعليق إذاعي أو أسطورة، ما يغني نصه الروائي ويمنحه مصداقيته التاريخية.

"مافيا قاذفات القنابل" رواية تاريخية في زمن الحرب، تصطدم فيها المثل بالوقائع، والأحلام بالواقع، والمبادئ بالمصالح، والأخلاقيات بالضرورات، وينجم عن هذا الاصطدام انتصار الطرف الأول في كل من هذه الثنائيات على الطرف الثاني، على المدى الآني، وتتغير النتائج على المدى الطويل. وفي الحالتين، نحن إزاء عمل روائي تاريخي، لا تضارع المتعة في قراءته سوى الفائدة الناجمة عن القراءة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة