Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجغرافيا القلقة تقود روسيا نحو الصدام دائماً

سعت موسكو إلى الهيمنة على جيرانها لمنع استخدام الأراضي الحدودية ضدها من قبل قوى أخرى

الصدام بين روسيا والغرب لا يتعلق بالأيديولوجيا مثلما هو شائع، وإنما بالجغرافيا (رويترز)

في الركن الشرقي من أوروبا والشمالي من آسيا، تقع تلك البقعة الواسعة من الأرض التي شكلت قديماً إمبراطورية ضخمة، وحديثاً قائداً لكيان سياسي ضخم، يضم عدداً من دول المنطقة باسم "الاتحاد السوفياتي"، فطالما كانت روسيا الدولة الأكبر في العالم من حيث المساحة التي تشارك حدودها مع 14 دولة من قارتي أوروبا وآسيا، وصاحبة النفوذ الأكبر في محيطها الجغرافي.

وعلى الرغم من استمرار ذلك النفوذ حتى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي قبل نحو 30 عاماً واستقلال الدول التابعة، فإن السنوات الأخيرة الماضية حملت تحديات لنفوذ الدب القوي في المنطقة التي طالما اعتبرها ملعبه الخاص.

بدأ عام 2022 باحتجاجات شعبية غير مسبوقة في كازاخستان، الجمهورية السوفياتية السابقة والحليف القوي لروسيا التي تقع على الحدود الجنوبية منها، وفي 2020 وقعت سلسلة من الأحداث المقلقة لموسكو، إذ اشتعلت تظاهرات في بيلاروس هددت حكم حليفها ألكسندر لوكاشينكو، وتسببت هزيمة إيغور دودون في انتخابات الرئاسة بمولدوفا في حرمان موسكو من واحد من أفضل الحلفاء السياسيين في البلاد، التي فازت فيها مايا ساندو.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كما يتحدث مراقبون عن ظهور جيل جديد من القادة ذوي الميول القومية في قيرغيزستان، منذ ما يسمى بالثورة الثالثة التي اندلعت في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، وهؤلاء القادة ليس لديهم خلفية تتعلق بالهياكل السوفياتية القديمة.

وليس ذلك فحسب، ففي جنوب القوقاز كان الدعم التركي الحاسم لأذربيجان في حرب ناغورنو قره باغ ضد أرمينيا مؤشراً إلى اهتزاز التوازن الذي طالما حافظت عليه موسكو طوال عقدين.

الجغرافيا لا الأيديولوجيا

بالعودة للتاريخ يذكر الكاتب الأميركي بين ستيل في كتابه الصادر عام 2019 "خطة مارشال: فجر الحرب الباردة"، أنه في أعقاب استسلام ألمانيا في مايو (أيار) عام 1945، وقف الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين أمام خريطة الاتحاد السوفياتي مشيراً بغليونه إلى قاعدة أسفل منطقة القوقاز قائلاً لمساعديه، "لا أحب حدودنا هنا"، مشيراً إلى المنطقة التي التقت فيها جمهوريات الاتحاد السوفياتي جورجيا وأرمينيا وأذربيجان بالقوى المعادية في ذلك الوقت إيران وتركيا.

ويقول الكاتب إن الصدام الواقع بين روسيا والغرب منذ الحرب الباردة "لا يتعلق بالأيديولوجيا مثلما هو شائع وإنما بالجغرافيا".

ومع إعلان وزير الخارجية الأميركي جورج مارشال في 5 يونيو (حزيران) 1947، عما سمي بـ "خطة مارشال" التي تنطوي على تقديم مساعدات أميركية ضخمة مدتها أربع سنوات لدعم إعادة الإعمار والتكامل الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، شجب ستالين الخطة ووصفها بأنها "مؤامرة أميركية شريرة لشراء الهيمنة السياسية والعسكرية على أوروبا"، وكان يخشى فقدان السيطرة ليس فقط على ألمانيا ولكن على أوروبا الشرقية أيضاً.

وبناء على مطالب من فرنسا وبريطانيا عززت الولايات المتحدة خطة مارشال بحراسة عسكرية، إذ وقع الرئيس الأميركي هاري ترومان في 4 أبريل (نيسان) 1949 اتفاق تأسيس منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).

وفي الشهر التالي وافقت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على دستور دولة جديدة في ألمانيا الغربية، وسرعان ما رد السوفيات بإنشاء دولتهم الخاصة في ألمانيا الشرقية في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه.

وعلى مدى العقود الأربعة وحتى سقوط جدار برلين وتوحيد ألمانيا، سعى السوفيات إلى ألا تكون ألمانيا جزءاً من التحالف الأطلسي، ووصف الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف الناتو بأنه "منظمة صممت منذ البداية لتكون معادية للاتحاد السوفياتي".

ولم تنجح محاولات روسيا لاحقاً في منع مزيد من دول الشرق الأوروبي من الانضمام إلى "الناتو"، مثل المجر وبولندا والتشيك، مما يعني توسيع حدود الحلف العسكري باتجاه الحدود الروسية. 

وحذر مجلس موسكو للسياسة الخارجية والدفاعية من أن توسع "الناتو" سيجعل "دول البلطيق وأوكرانيا منطقة تنافس استراتيجي مكثف".

الهيمنة على الجيران

يقول ستيل إن الخوف الأبدي لروسيا من الغزو كان دائماً وأبداً الدافع وراء سياستها الخارجية، وفي تفسير العلاقة بين الجغرافيا والسياسة يشير الكاتب إلى أن روسيا "دولة شاسعة وقليلة السكان وتواجه تحديات ضخمة في مجال النقل، وعند النظر إلى الخارج كانت روسيا أرضاً لم تعرف قط جاراً ودوداً لها، كما لا تتمتع بحدود طبيعية تمكنها من الدفاع عن نفسها، فلا توجد سلاسل جبلية أو مسطحات مائية تحمي حدودها الغربية".

ويضيف ستيل، "لقرون عدة عانت روسيا غزوات متكررة، وشجع هذا المشهد والتاريخ ظهور قيادة شديدة المركزية والاستبداد مهووسة بالأمن الداخلي والخارجي، إذ كان الشيوعيون مجرد نوع واحد من هذه القيادات".

ولطالما كانت الحدود الغربية للبلاد معرضة للخطر بشكل خاص، فالكتلة اليابسة الأوروبية الواقعة غرب حدود روسيا تشكل شبه جزيرة كبيرة يحيط بها بحر البلطيق وبحر الشمال من الشمال والمحيط الأطلسي من الغرب والبحر الأسود من الجنوب، وفي المقابل تمتلك روسيا منافذ بحرية قليلة.

كما أن المحيط المتجمد الشمالي بعيد عن مراكزها السكانية، والموانئ القليلة للبلاد غير صالحة للاستعمال إلى حد كبير خلال فصل الشتاء، ويمكن بسهولة غلق وصولها للبحر المتوسط عبر تركيا، وهي المشكلة نفسها التي تواجهها في الشمال، فخلال الحرب الباردة أعاقت القواعد الجوية النرويجية والبريطانية والأيسلندية وصول روسيا إلى البحر.

ونظراً إلى محدودية خياراتها الدفاعية الطبيعية فإن العقيدة العسكرية لروسيا كانت تاريخياً هجومية، إذ سعت إلى الهيمنة على جيرانها كوسيلة لمنع استخدام الأراضي الحدودية ضدها من قبل قوى أخرى.

روسيا تعزز موقعها

خلال العقدين الماضيين تمكنت روسيا من إعادة تعزيز موقعها في جميع أنحاء المنطقة، فكان تحركها نحو ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 ودعم الانفصاليين شرق أوكرانيا، وقبلها الاعتراف بمنطقتي أوستيا وأبخازيا الانفصاليتين بعد التدخل العسكري في جورجيا عام 2008، خطوات رئيسة في درء مزيد من التهديدات الغربية، في ظل رغبة البلدين في الانضمام إلى "الناتو"، وهو ما لن تقبل به موسكو.

وقد أدى الضغط الروسي عبر الحشد العسكري على حدود أوكرانيا إلى إجبار الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، إذ تجري حالياً مفاوضات في جنيف لحل أزمة أوكرانيا خشية غزو جديد.

تقول المديرة لدى المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ماري دومولين إن روسيا عززت موقفها في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى وبيلاروس وحتى في مولدوفا وأوكرانيا، ففي جنوب القوقاز وبعد التوسط بنجاح في وقف إطلاق النار بين أرمينيا وأذربيجان، عززت نفوذها العسكري من خلال نشر قوات حفظ السلام، وباتت الآن قادرة على تحديد أجندة المحادثات والصيغ التي يجب أن تتم بها.

 

وفي جورجيا وبينما لا تفيد الأزمة السياسية التي طال أمدها روسيا بشكل مباشر، لكنها تعرقل الإصلاحات وتؤثر في نفوذ الاتحاد الأوروبي وصدقيته في البلاد. وبالفعل فقدت محاولة الوساطة من قبل رئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشال زخمها في مواجهة الاستقطاب العميق في المشهد السياسي.

وفي آسيا الوسطى ساعد استيلاء "طالبان" على السلطة في إعادة روسيا إلى دورها كضامن نهائي لأمن جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفياتي في المنطقة، وقد سمح ذلك لها بتعزيز قدرات قواعدها في طاجيكستان وقيرغيزستان.

وفي سبتمبر (أيلول) الماضي أجرت تدريبات عسكرية في طاجيكستان، وتقول دومولين إنه يمكن لروسيا الآن أن "تضع شروطاً للتعاون العسكري الأميركي مع هذه الدول".

مآلات الوجود الروسي في كازاخستان 

ومع نشر روسيا قوات في كازاخستان جنباً إلى جنب مع أعضاء آخرين من منظمة معاهدة الأمن الجماعي الأسبوع الماضي، في أعقاب اشتعال موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات ضد الحكومة الحليفة لموسكو، ذهب بعض المراقبين إلى الحديث عن احتمال أن تسيطر روسيا على الجزء الشمالي للبلاد الغني بالنفط، إذ يعيش معظم الروس الذين يشكلون 20 في المئة من السكان في كازاخستان، فبين الحين والآخر يتحدث السياسيون الروس عن كازاخستان كأراض روسية.

غير أن آخرين يستبعدون هذا السيناريو تجنباً لتأجيج التوترات في الوقت الحالي، لكن الوجود العسكري الروسي في كازاخستان والذي تم بناء على دعوة رسمية من الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف سيعزز بالطبع النفوذ الروسي، وإذا نجا النظام في كازاخستان فستكون روسيا قادرة على الدفع بمطالب جديدة، ومن المرجح أن تضطر كازاخستان إلى تقديم تنازلات.

ووفقاً لموقع "ذا بيل" الروسي، فإن بوتين ربما يسعى إلى وضع جديد للغة الروسية في كازاخستان أو اعتراف رسمي من قادتها بأن شبه جزيرة القرم جزء من روسيا.

وفي بيلاروس ساعد الدعم الروسي الرئيس لوكاشينكو في التمسك بالسلطة، لكن دعم موسكو كان مشروطاً، فمع اعتماد الرئيس البيلاروسي بشكل متزايد على موسكو كان عليه التوقيع على 28 خريطة طريق لمزيد من التكامل بين البلدين، وهو ما كان متردداً في فعله سابقاً، كما اعترف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم.

وفي مولدوفا أعربت الحكومة الروسية عن انفتاحها على التعاون مع الحكومة الإصلاحية التي تولت السلطة بعد الانتخابات البرلمانية في يوليو (تموز) 2021، غير أن دومولين تشير إلى أنه بحلول سبتمبر (أيلول) كانت موسكو قد "اختلقت أزمة غاز لتذكير كيشيناو بضعفها".

ومن خلال زيادة الضغط العسكري على حدود أوكرانيا، أولاً في ربيع 2021 ومرة أخرى خلال الشهرين الماضيين، صرفت روسيا الانتباه عن المناقشات التي كان من المفترض أن تجرى في صيغة "نورماندي" حول تسوية النزاع في دونباس، وحولتها إلى محادثات مع الولايات المتحدة حول الأمن الأوروبي.

مطلبان روسيان

ولدى روسيا مطلبان واضحان أعلنتهما في بيان صادر عن خارجيتها في 10 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إذ دعت حلف شمال الأطلسي إلى إلغاء بيانه الصادر عام 2008 في شأن انضمام أوكرانيا وجورجيا للحلف، وقالت إنه يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها تقديم تأكيدات ملزمة قانوناً بعدم نشر أسلحة حول روسيا، يرى الكرملين أنها تشكل تهديداً صريحاً.

لكن مراقبين روس يشيرون إلى أن الكرملين يتفهم أنه لا توجد فرصة حقيقية للاستجابة لمطالب الرئيس الروسي من جانب "الناتو" بعدم الانتشار شرقاً أو نشر أسلحة الحلف بالقرب من روسيا، كما أن منح الكرملين أي نوع من الضمانات في شأن عدم ضم أوكرانيا لـ "الناتو" سيكون بمثابة تنازل كبير للغاية.

ويعتقد مراقبون أن الولايات المتحدة وحلفاءها في "الناتو" بحاجة إلى احتواء روسيا وتقديم تطمينات لها، مثلما فعل الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، مؤكداً مراعاة مصالح روسيا الجيوسياسية في المنطقة.

كما أن هناك حاجة إلى التوازن الدقيق بين الردع وخفض التصعيد لإقناع موسكو بأن اتباع نهج أكثر تعاوناً في شأن الأمن سيكون في مصلحتها الخاصة.

المزيد من تقارير