Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حريق في عقر دار الاتراك وأحلام الكثيرين متشظية بسبب الواقع الاقتصادي

التضخم وركود الأجور جعلا الفقراء أكثر فقراً وقضيا على تطلعات الطبقة الوسطى في البلاد

مولود تكين يجلس مع ابنتيه في شقتهما المستأجرة في اسطنبول (نعومي كوهين للإندبندنت)

كانت المرحلة جيدة للغاية خلال الأعوام القليلة الأخيرة، بالنسبة إلى مولود تكين وزوجته ياسمين وأطفالهما، قبل أن يبدأ اقتصاد تركيا بالخروج عن السيطرة [التدهور]. مولود كان يعمل في أحد مخابز اسطنبول، وكان أطفاله يرتدون ملابس جيدة وطعام وفير، وكان في مستطاع الأسرة الخروج إلى مطعم مرّةً واحدة في الأسبوع.  

تُعدّ عائلة تكين من الأسر الفقيرة نسبياً في البلاد وهي تنتمي إلى الطبقة العاملة، وجذورها ضاربة في صلب بلاد الأناضول. لكن مولود كان يحقّق ما يكفي من دخل - ربما بمساعدةٍ قليلة من أقاربه - إلى درجة أنه كان يخطّط للانتقال من شقة الأسرة المستأجرة في طابق أرضي من أحد مباني منطقة باكيركوي في اسطنبول، وشراء شقة، وتحقيق حلم امتلاك منزل.

لكن الآن، فإن هذا الشاب التركي البالغ من العمر 29 عاماً، بات يعمل لكسب رزقه ساعاتٍ أطول من أيّ وقتٍ مضى، موظّف توصيل بقالة على دراجة النارية. وأسرته بالكاد تقوى على إعالة أفرادها. فقد أفلتت أسعار السلع من عقالها نتيجة انهيار قيمة الليرة التركية، ولولا الخدمات الاجتماعية والمساعدات، لربما وجد مولود وزوجته ياسمين وأطفالهما الثلاثة الذين تتفاوت أعمارهم بين عامين وأربعة وخمسة أعوام، أنفسهم في الشارع.

ويقول ربّ الأسرة: "كانت لدينا القدرة في السابق على شراء دجاجة بين الحين والآخر. لكن الآن، أصبح لزاماً علينا أن نقلّل كمية الطعام التي نتناولها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا الواقع المعيشي سبّبه تعرّض الاقتصاد التركي لضغوطٍ هائلة وتدهورت قيمة الليرة إلى حد كبير خلال العام الماضي، فيما بلغ التضخم الرسمي نسبة 25 في المئة، وتضاعفت أسعار بعض السلع في الأشهر الأخيرة. وأحدث ذلك ضغوطاً على الاحتياطات المالية للبلاد، وسبّب قلقاً لدى المستثمرين في الأسواق الناشئة حيال أحد اقتصادات "مجموعة العشرين" G20، الذي كان يُعدّ في إحدى المراحل محرّكاً للنمو ونقطة جذب للاستثمارات الأجنبية، ولكنه على رغم ذلك توقّفت عجلته عن الدوران إلى حدّ ما.

هذا الوضع انعكس في الأحياء والقرى المحيطة بالمدن التركية وفي ريف البلاد، يأساً لدى الناس، وألمّ الفقر بالعمّال وأفراد الطبقة الوسطى الدنيا، الذين تحطمت تطلّعاتهم وأحلامهم. فالأطفال يتوجّهون إلى المدارس وهم جائعون، أو لا يذهبون لتلقّي تعليمهم على الإطلاق، لأن أهلهم لم يعودوا قادرين بعد اليوم على تحمّل الرسوم الدراسية. وقد فرض ذلك كلّه ضغوطاً شديدة على مؤسّسات الخدمات الاجتماعية وقادة المجتمعات الذين يحاولون الحؤول دون وقوع جيرانهم في براثن الأزمة والإهمال.  

ديدم كوريوريك أرموتلو زعيمة محلية منتخبة في إحدى ضواحي بكيركوي تُلقب بالمختارة، قالت إن  "الفقراء أصبحوا أكثر فقراً. ففي السابق، كان الناس قادرين على تدبر أمور أسرهم ورعايتها. لكن ذلك لم يعد الآن ممكناً بالنسبة إليهم".

الاقتصاد التركي، شأن غيره من اقتصادات العالم، تعرّض لضررٍ كبير نتيجة الجائحة العالمية التي أدت إلى تباطوء في التجارة، وإلى تسريح عمّال - وهذا ما حصل مع مولود عندما فقد وظيفته في المخبز.

لكن مشكلات تركيا تحديداً تزايدت بسبب التضخم المتفاقم، الناجم في جزءٍ كبير منه عمّا يسمّيها اقتصاديّون المعتقدات الاقتصادية "غير التقليدية" [الخارجة على السنن الاقتصادية] للرئيس التركي رجب طيب أردوغان. فهو يصر على أن أسعار الفائدة المرتفعة تسبّب التضخّم، وقد مارس ضغوطاً متواصلة على "البنك المركزي التركي" من أجل خفض معدّلات الفوائد على القروض. وأفضت الزيادة في المعروض النقدي، على نحوٍ متوقّع، إلى تراجع قيمة العملة الوطنية. فانخفضت الليرة التركية إلى النصف تقريباً في مقابل الدولار الأميركي خلال العام الماضي، وباتت قيمتها الآن ربع ما كانت عليه قبل نحو 5 أعوام.

أما الأجور الحقيقية (الدخل الذي يُعبَّر عنه من حيث القوة الشرائية في مقابل الأموال الفعلية المستلمة) فهوت قيمتها إلى النصف، ومنذ العام 2018 قفزت أسعار المواد الغذائية صعوداً بنسبة 100 في المئة.

الأخطر من ذلك، أن الليرة التركية تراجعت بنسبة 50 في المئة خلال الأشهر القليلة الماضية، وشهدت أسعار صرفها تقلّبات بشكلٍ كبير، مع حصول عددٍ من التدخّلات في السوق، وضخّ نقود صعبة، الأمر الذي ضاعف الضغط على حياة عامة الناس كما على الشركات، بحيث أصبح الجميع في وضع هش.

وأوضح ألب إيرينتش يلدان أستاذ الاقتصاد في "جامعة قادر هاس" في اسطنبول، أنه "بالنسبة إلى عائلات الطبقة الوسطى في البلاد، فإن التضخّم الذي تعاني منه، يرتبط  في الغالب بأسعار المواد الغذائية ووقود التدفئة وتكاليف تعليم أطفالها. إن الناس في الواقع يواجهون حريقاً في عقر الدار، نشب في فترة زمنية قصيرة للغاية. وأدّى ذلك إلى تخوّفهم من المستقبل، خصوصاً مع فقدان دخلهم ومدخّراتهم".

وفي عودةٍ إلى السيّدة أرموتلو الزعيمة المحلّية ذات الشخصية القوية، التي تتميّز بشعرها المصبوغ بأحمر داكن يحاكي لون السكاكر، فقد قدّمت وصفاً لمشاهد مروّعة عن الفقر في منطقتها التي تقطنها أغلبية من الطبقتين الوسطى والوسطى العليا، سواءٌ لجهة نساء أتين إلى مكتبها باكياتٍ لأنهن لا يستطعن إرسال أطفالهن إلى المدارس، نتيجة الافتقار إلى ما يسد رمق الصغار في وجبة الغذاء، أو لجهة رجال مسنّين محترمين داروا حول مكتبها أياماً عدة قبل أن يقرّروا الدخول إليه، معترفين بأن خزائنهم خالية، وبأنهم لم يتمكّنوا من دفع فواتيرهم.

وتضيف أن الدعاوى القضائية التي يطالب أصحابها بالبت في سداد فواتير غير مدفوعة لهم  ضدّ سكان منطقتها البالغ عددهم 40 ألف نسمة، قد زاد عددها نحو 6 أضعاف.

مكتب أرموتلو يغصّ بتبرّعات على شكل ملابس وألعاب أطفال، قامت بجمعها من أرباب أعمال أسخياء، لتوزيعها على أشخاص هم الأكثر تضرّراً من الأزمة.

وتقول في هذا الإطار: "هناك عائلات ما زالت تشعر بحرج شديد من المجيء وطلب المساعدة"، مشيرةً بإحباط إلى أن تلبية الحاجات الماسّة للأشخاص الذين يعانون من الضرر الاقتصادي، ليست في الواقع جزءاً من وظيفتها كمختارةٍ محلّية، فدورها الأساسي يتمثل في المصادقة على عناوين الأشخاص وأوضاع إقامتهم.

 

 

المعاناة الاقتصادية شملت أيضاً أسرة ديدم أرموتلو نفسها. فابنتها البالغة من العمر 22 عاماً كانت تسعى إلى تحقيق حلمها بالدراسة في الولايات المتحدة في "جامعة تامبل" Temple University في فيلادلفيا. لكن مع انهيار الليرة التركية في مقابل الدولار الأميركي، لم يعد بإمكان الأسرة تحمّل تكاليف الدراسة والعيش في الخارج، ما اضطُرها إلى وقف تعليمها والعودة إلى تركيا.

حتى الحصول على وظيفة غالباً ما لا يكون كافياً في كثير من الأحيان. فمولود الذي يعمل في توصيل السلع، يحقّق دخلاً أعلى بنحو 40 في المئة ممّا كان راتبه في المخبز، لكن ارتفاع التكاليف بشكلٍ كبير، أدّى إلى القضاء على المكاسب. وتشكو زوجته ياسمين من أن أسعار أغطية الأسرّة التي تحافظ على دفء أفراد أسرتها خلال فصل الشتاء قد تضاعفت ثلاث مرات، فيما زادت أسعار البيض بأكثر من الضعف.

الخبيرة الاقتصادية سيلفا ديميرالب من "جامعة كوتش" في اسطنبول، أوضحت أن معدّل تضخّمٍ في تركيا أكثر من 25 في المئة مقارنة بنحو 5 في المئة في المملكة المتحدة ومنطقة اليورو، وحوالى 6.8 في المئة في الولايات المتّحدة. وأشارت إلى هذا التضخّم يؤثّر بشدّة على أصحاب الدخل الثابت أو الذين يعيشون على مدخّراتهم.

وتضيف ديميرالب قائلةً إن "توزيع الدخل [حصة الفرد من الناتج المحلي]. آخذ في التراجع، فيما معدّل الفقر يأخذ منحى تصاعدياً. إن البيئة التضخمية تجعل التخطيط طويل المدى أمراً صعباً للغاية في أوساط الأسر ذات الدخل المتوسط، كما بالنسبة إلى بقية الناس في البلاد".

الضغوط الاقتصادية جاءت قاسيةً بشكل خاص على النساء والأطفال والشباب الذين يجدون مصاعب في دخول سوق العمل أو في إنهاء دراستهم  [تحصيل الشهادة]. وقد اعتادت نساء فقيرات كسب أموال إضافية لقاء تنظيف منازل، لكنهن أُجبرن على البقاء في بيوتهن من أجل الاعتناء بأطفالهن، عندما تمّ إغلاق دور الحضانة والمدارس بسبب الجائحة. ومع الانهيار الاقتصادي، انخفض عدد العائلات القادرة على تحّمل تكاليف استئجار عاملات نظافة في المنزل أو غيرها من المصاريف الإضافية.

نازان أكبولوت أمّ عزباء، وظيفتها مصفّفة شعر، وتبلغ من العمر 36 عاماً، تكافح من أجل تغطية نفقاتها مع طفلها دنيز البالغ من العمر 10 أعوام. وقد أخذت تتأخر عن سداد مدفوعاتها، إلى حدّ أنها تخوّفت من عدم قدرتها لاحقاً على دفع حتى رسوم المدارس العامّة المتواضعة، فيما شريكها السابق لم يكن قادراً أو غير راغبٍ في مساعدتها على إعالة الطفل. وفي الخريف المنصرم، فقدت وظيفتها. لكن بعض زبائنها الدوريات تدخّلن [مددن لها يد العون] وتبرّعن بدفع الرسوم المدرسية لإبنها، وقدّمن له بعض الثياب المستعملة.

وقد بلغ الضغط على كلٍّ من الوالدة وابنها حدّاً دفع بمعلم دينيز إلى الشكوى من سوء سلوكه في المدرسة، فيما لجأ الطبيب إلى إعطاء نازان مضاداتٍ للاكتئاب.

وتقول في وصف ما يحصل معها: "إن اكتئابي مرتبط تماماً بالوضع الاقتصادي. والمسألة تُختصر بعدم القدرة على تغطية نفقاتنا".

الميسورون من الناس وأصحاب الأموال في تركيا، تحّولوا في مسعى يائس لحماية أنفسهم من مفاعيل التضخّم، إلى العملات الصعبة كالدولار أو اليورو أو إلى العملات المشفّرة، الأمر الذي فاقم "آلام"  العملة الوطنية [أثقل كاهلها بأعباء إضافية]. ولجأ مالكو العقارات إلى رفع بدلات الإيجار خشية أن يكون ما يتقاضونه الآن لا يعتد بقيمته في غضون سنة. وأدّى هذا الوضع الإسكاني إلى مزيدٍ من الضغط على طلاب الجامعات والشباب الذين يسعون إلى شقّ طريقهم في الحياة، أثناء دراستهم أو بعد الانتهاء منها.

ويقول البروفيسور يلدان إن "ما بين 8 إلى 10 طلاب يعيشون في شققٍ مؤلفة من غرفتين، ويتشاركون المنازل، ويتناوبون على النوم تماماً كما في الأحياء الفقيرة كما في روايات تشارلز ديكنز".

أحدى هؤلاء تُدعى إليف كوبان التي تبلغ من العمر 26 عاماً، وهي جامعية تخرّجت حديثاً، وعملت مساعدةً إدارية في شركة تبيع معدّات صوت وإضاءة وتقوم بتركيبها للزبائن. وقد تم تسريحها من العمل قبل نحو شهر، بعدما بات أحدٌ غير مستعدّ لدفع الثمن المرتفع للمعدّات المتطوّرة التي كان الشركة تستوردها من أوروبا. وتجد الشابة مصاعب الآن في دفع بدل إيجار السكن، وتتساءل كيف ستتمكّن من الاستمرار على هذا النحو.

وتقول: "إنني أشعر بيأس. ولا يمكنني وضع أي خطط للمستقبل، وليست لديّ أي آمال في ظل هذه الظروف".

لكن مولود تكين، يشعر من جانبه بالامتنان لأنه حصل على وظيفة، على الرغم من أنها أكثر خطورة لأنها تتطلّب ساعات عمل أطول بعد الدوام من دون أي بدل، وهي في النهاية توفّر له ولأسرته دخلاً أقلّ مما كان يحقّقه من قبل. وهو يقوم كلّ يوم بتحميل مواد البقالة المطلوبة عبر الإنترنت، ويعمل على تسليمها إلى المنازل. وقد حقّقت الشركة التي تشغّله، وهي إحدى أكبر وأسرع خدمات توصيل البقالة نموّاً في تركيا، أرباحاً قياسية خلال فترة الجائحة، ويُعرف عنها أنها تحسن معاملة سائقيها.

لكنه ربّ الأسرة يقرّ بأنه يشعر أحياناً بيأس شديد، ولا سيما عندما يقوم بتسليم الأطعمة الفاخرة التي تطلبها عائلات أخرى، من لحوم طازجة أو حبوب فاخرة أو فواكه مستوردة، التي يعتقد أنه لن يكون قادراً على تحمّل شرائها بعد اليوم. ويشير إلى أن لديه أيضاً ديوناً على بطاقة ائتمان بقيمة 10 آلاف ليرة تركية (720 دولاراً) بالكاد يمكنه سدادها.

ويختم بالقول "إن الوضع يؤثّر عليّ. فلا يمكنني حتى شراء نوع جيّد من الأرز. ومع مرور الوقت، فإن الأمور ستزداد سوءاً أكثر فأكثر".

ساهمت نعومي كوهين في إعداد هذا التقرير

© The Independent

المزيد من دوليات