منظر الشرق الأوسط من واشنطن لم يعد كما كان. ليس لأن المشهد في المنطقة تغير كثيراً، بل لأن الرؤية الأميركية له تبدلت بشكل كبير.
بعض التبدل مرتبط بالتعب الأميركي من دفع المال والدم وفشل الغزوات العسكرية وسياسات"بناء الأمم"، وآخرها كان مشروع "الشرق الأوسط الواسع" بعد احتلال العراق. وبعضه الآخر يتعلق بإعطاء الأولوية للشرق الأقصى على الشرق الأوسط، حيث الثروة والقوة والتنافس والصراع مع الصين وروسيا.
وهو خروج عن الخط التقليدي من أيام الرئيس أيزنهاور إلى أيام الرئيس جورج بوش الابن، وعز الانخراط أيام الرئيس ريغان والرئيس جورج بوش الأب، وحرب "عاصفة الصحراء". خروج بدأته إدارة الرئيس أوباما وتابعته إدارة الرئيس ترمب ومشت فيه إدارة الرئيس بايدن على الرغم من الوعد بالعكس.
فالانسحاب من أفغانستان باتفاق مع "طالبان" من دون اهتمام بالحكومة في كابول، وبالطريقة المهينة التي حدث بها ضمن سياسة الخروج من "حروب لا تنتهي"، خلق هزة في أميركا وبلبلة في الشرق الأوسط وحسابات إيجابية وسلبية في الصين وروسيا. والسؤال صار، بعد الشكوك في الاعتماد على أميركا: ما هو مدى الانسحاب من الشرق الأوسط؟
الموفد الأميركي السابق حول سوريا جيمس جيفري قال عن سياسة بايدن حيال دمشق، "نعرف العناوين، لكننا لا نعرف السياسة. إعلان الأهداف شيء ووجود استراتيجية لتحقيقها شيء آخر. ولا أعرف إن كنا نعمل لتقوية روسيا وإيران والأسد". ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية النافذ في نيويورك، المسؤول سابقاً عن التخطيط السياسي في الخارجية الأميركية ينتقد التركيز على الشرق الأوسط الذي"يضم 5 في المئة من سكان العالم، لا قوى عظمى فيه، واقتصاد يعتمد على استخراج النفط".
وعلى العكس، فإن مارتن إنديك الذي تولى مناصب عدة بينها سفير أميركا في إسرائيل رأى أن الشرق الأوسط "لا يزال مهماً بسبب موقعه الجيو استراتيجي المركزي على مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا، واعتماد حلفاء أميركا عليه لضمان أمنهم". وهو يضيف في مقال نشرته "فورين أفيرز" في العدد نفسه الذي حمل مقال هاس "سوريا واليمن الفاشلتان تبقيان أرضاً خصبة للإرهابيين الذين يمكن أن يضربوا أميركا وحلفاءها. وإذا صارت إيران نووية، فإنها ستقود أي سباق تسلح وضربة وقائية إسرائيلية تجبر أميركا على العودة إلى حرب الشرق الأوسط". وعلى أميركا اليوم، في رأيه "صوغ استراتيجية ما بعد أفغانستان لتطوير النظام في الشرق الأوسط، وإن كانت تنتقل إلى أولويات أخرى".
لكن كل ما تعد به إدارة بايدن هو إبقاء قوة صغيرة في سوريا، ومستشارين بلا مهام قتالية في العراق، والاعتماد على موفد خاص إلى أزمة مياه النيل بين مصر والسودان مع إثيوبيا المشغولة بحرب داخلية، ومساعدة السعودية في ضمان أمنها ضد هجمات الحوثيين، والدعوة إلى إكمال"اتفاقات أبراهام" بين الدول العربية وإسرائيل، من دون خطوة عملية لتسوية النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما روسيا، فإن الوصول إلى المياه الدافئة كان حلماً وسياسة لها من أيام القياصرة، ثم أيام السوفيات وأيام "القيصر فلاديمير بوتين". القياصرة أرسلوا أسطولاً إلى بيروت وقاتلوا السلطنة العثمانية وفتحوا المدارس في سوريا ولبنان وفلسطين كان أحد تلاميذها ميخائيل نعيمة.
السوفيات دعموا مصر وسوريا والعراق واليمن الجنوبي. وبوتين تدخل عسكرياً في حرب سوريا، فأنقذ النظام وحصل على قواعد بحرية وجوية، وصار دوره مطلوباً في الشرق الأوسط. كذلك السلاح الروسي. والأهم هو أن موسكو لا تتخلى عمن تدعمه حين تتغير الظروف والحسابات.
أما الصين، فإنها بدأت العمل على كسب مواقع في الشرق الأوسط المشمول بخطة "الحزام والطريق". خطة رصدت لها الصين تريليون دولار، لإقامة بنية تحتية على "طريق الحرير" القديم، أيام كانت الصين في العام ألف أهم حضارة وأقوى قوة في العالم. وهي اليوم في تنافس شديد مع أميركا وتحالف مع روسيا، ولديها طموح لدور قوة عظمى لا تريد تغيير الأنظمة والخرائط، بل الحفاظ عليها من أجل أهداف التجارة.
وفي المنطقة تحولات نحو الانفتاح على روسيا والصين، لا سيما في ظل التوجه الأميركي إلى تخفيف الالتزامات فيها. لكن من الصعب على كل روسيا والصين القيام بالدور البديل من الدور الأميركي. والمشكلة في أميركا هي تضارب الآراء والدعوات والنظرات، سواء بالنسبة إلى حجم الانسحاب أو بالنسبة إلى نوع الانخراط.
والمفارقة هي أن الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط للالتفات إلى الصراع مع الصين وروسيا، يعطي موسكو وبكين فرصة التمدد في المنطقة.