بالتزامن مع الذكرى الأولى لأحداث اقتحام الكونغرس في 6 يناير (كانون الثاني)، تتصاعد التحذيرات في الولايات المتحدة من أن البلاد أصبحت على شفا حرب أهلية قد تندلع خلال سنوات قليلة، أو بعد انتخابات 2024، بسبب الحزبية المفرطة التي تسيطر على النظام السياسي، وجعلت القرارات السياسية تمثل نصف سكان البلاد فحسب. لكن، مع نُذر الخطر التي يعترف بها كثر، لا يوجد حتى الآن سيناريو عسكري يمكن أن يقوم به الجيش الأميركي لمواجهة مثل هذه الكارثة المحتملة، على الرغم من إدراك الجميع أن وزارة الأمن الداخلي ومكتب التحقيقات الفيدرالي ليس بمقدورهما مجابهة الميليشيات المسلحة المنتشرة في البلاد من الجانبين. فما أسباب ذلك؟
حقائق مقلقة
لم يكن من الوارد قبل سنوات طرح تساؤلات حول احتمال أن تواجه الولايات المتحدة اندلاع حرب أهلية ثانية. فالولايات المتحدة ليست كأي دولة. إنها أكثر ديمقراطيات العالم ديمومة، وتمتلك الاقتصاد لأكبر، ولديها قوة عسكرية لا تضاهيها قوة أخرى على سطح الأرض. لكن، ما لم يكن متصوراً في الماضي، أصبح حقيقة واقعة، عندما شاهد الناس حول العالم جماعات متمردة مسلحة تقتحم معقل الديمقراطية في مبنى الكابيتول، ودبابات تتجول في شوارع واشنطن، ومعارك تدور بين متظاهرين وميليشيات، وعصابات تحاول اختطاف حكام محليين.
واكتملت المظاهر المقلقة بدراسات واستطلاعات كشفت عن أن 35 في المئة من خبراء الأمن القومي الأميركي يرون أن فرص اندلاع حرب أهلية على مدى السنوات العشر إلى الخمس عشرة المقبلة واردة في أميركا. وأورد استطلاع أجرته جامعة جورج تاون عام 2019، أن 67 في المئة من الناخبين المسجلين يعتقدون أن البلاد تقترب من حافة الحرب الأهلية. ووجدت دراسة استقصائية العام الماضي أجراها "مركز جون زغبي" أن 43 في المئة من الأميركيين، و53 في المئة من الشباب، يرجحون هذا الاحتمال، في حين حذر نواب في الكونغرس، مثل النائب الجمهوري ماديسون كاوثورن، من أن الاستمرار في تزوير الانتخابات، بحسب ادعائه، سيؤدي إلى إراقة الدماء.
أجواء سامة
وعلى الرغم من أن الناس والخبراء لم يحددوا سبباً لاعتقادهم أن حرباً أهلية يمكن أن تحدث، فإن هناك قضايا ساخنة عدة يمكن أن تدفع في هذا الاتجاه، بحسب قول ويليام غيل وداريل ويست من "معهد بروكينغز" الأميركي. ومن أبرز تلك القضايا المساواة العرقية، والسيطرة على السلاح، وشرعية الانتخابات، وتغير المناخ، ولقاحات "كوفيد-19"، والإجهاض، وغيرها من العناوين الساخنة التي تولد السخط والعداء وتعزز الاستقطاب والانقسام الذي يرتكز على الاختلافات على أساس الأيديولوجيا والعرق والنوع ومستويات المعيشة. وهو ما يجعل المجموعات المختلفة تمتلك وجهات نظر متباينة بشكل كبير في شأن السياسة العامة في المجتمع الأميركي.
وفي ظل الأجواء السائدة اليوم، أصبح من الصعب التفاوض بين الأطراف المتناقضة بشأن القضايا المهمة، ما جعل الناس غاضبين من الحكومة الفيدرالية، ويشعرون بأن الرابح يأخذ كل شيء، وأن المخاطر كبيرة جداً، الأمر الذي يجعل الناس على استعداد للنظر في وسائل غير عادية لتحقيق أهدافهم على حساب أي اعتبار آخر. فعلى سبيل المثال، يرى الليبراليون أن المحافظين يحدّون من حقوق التصويت، ويعرضون الديمقراطية للخطر، ويتجاهلون الضمانات الإجرائية، بينما يعتقد المحافظون أن التقدميين يتجهون إلى الاشتراكية ولا يحترمون الحريات الشخصية والعامة.
انتشار الأسلحة
لكن، ما يثير أكبر المخاوف هو أن لدى أميركا عدداً غير عادي من الأسلحة والميليشيات الخاصة، إذ تشير جمعيات تجارة الأسلحة إلى أن هناك 434 مليون قطعة سلاح ناري في حوزة المدنيين داخل الولايات المتحدة، أي بمعدل 1.3 بندقية لكل شخص، بينما تشكل الأسلحة شبه الآلية نحو 19.8 مليون سلاح، ما يجعل السكان مدججين بالأسلحة، ولديهم قدرات خطيرة، ليس كأفراد فحسب، وإنما كمجموعات تتدرب وتتجمع ضمن ميليشيات أيضاً.
وقبل أسابيع، نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن مجموعات الميليشيات الخاصة الموجودة في أنحاء البلاد، تصل إلى المئات، وتتكون الميليشيات بشكل عام من رجال بيض يمينيين قلقين بشأن تغيير التركيبة السكانية، وتأثير ذلك التحول عليهم، بالإضافة إلى الميليشيات الأخرى التي تدّعي أنها تستعد للدفاع عن نفسها. وتزيد هذه المجموعات إمكانية العنف لكونها تميل إلى جذب الأفراد المتطرفين، وتدربهم على المواجهات العنيفة، وتستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز المعتقدات الحالية السائدة بينهم. وتتحدث بصراحة عن التمرد المسلح. وقد انخرط بعض أعضاء هذه المنظمات في أعمال عنف ويساعدون آخرين في التخطيط لهجماتهم.
مخاوف الجنرالات
وسط هذه الأجواء التي تزداد احتقاناً، حذر ثلاثة من الجنرالات المتقاعدين في الجيش الأميركي، في مقال نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، من احتمال حدوث فوضى قاتلة داخل الجيش من شأنها أن تعرض جميع الأميركيين لخطر شديد إذا لم تقبل بعض أقسام الجيش نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2024. وحذر الجنرالات من احتمال انهيار نظام التسلسل القيادي في حال تشكيل حكومة ظل بقيادة مرشح خاسر يرفض الاعتراف بالهزيمة، ما يهدد بتقسيم الولاءات على أسس حزبية داخل رئاسة الأركان بين الرئيس الفائز والمرشح الخاسر الذي لا يقبل الهزيمة.
وفي ظل هذا السيناريو، فإن انهياراً عسكرياً قد يؤدي إلى حرب أهلية إذا ما ظهر مثل هذا الموقف. لهذا، حدد الجنرالات خطوات وقائية يرون ضرورة اتباعها. ومنها، مراجعة الدستور وقوانين الحرب لتجنب ادّعاء أفراد الخدمة أنهم لم يفهموا مَنْ الذي سيتلقون الأوامر منه خلال أسوأ سيناريو محتمل. ونصح الجنرالات البنتاغون بإجراء مناورات وتدريبات لمواجهة تمرد محتمل أو محاولة انقلاب بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2024 بهدف تحديد نقاط الضعف والتعامل معها.
ولكن، بصرف النظر عن هذا الانقسام المحتمل داخل قيادة الجيش، فإن هناك كثيراً من الأسباب للقول إن الولايات المتحدة أصبحت حالة نموذجية لبلد على شفا صراع أهلي بعدما طغت الحزبية المفرطة على النظام السياسي بما جعل كل قرار سياسي يمثل إرادة نصف البلاد فحسب، وأصبح النواب المنتخبون يدعون إلى أعمال عنف ضد خصومهم السياسيين، واخترقت أكبر الميليشيات المناهضة للحكومة قوات الشرطة، حسبما يقول ستيفن مارش في مقال نشره موقع "فورين بوليسي"، والذي نقل مخاوف مماثلة من الكولونيل المتقاعد في الجيش الأميركي بيتر منصور، أستاذ التاريخ العسكري في جامعة ولاية أوهايو، الذي خدم في حرب العراق ويدرس الآن حركات التمرد.
دور الجيش
غير أن السؤال الأهم في حال اندلاع تمرد واسع أو حرب أهلية، يتعلق بالدور الذي يمكن أن يضطلع به الجيش الأميركي في هذه الحالة، ذلك أن اندلاع العنف السياسي على نطاق واسع داخل حدود البلاد من شأنه أن يستدعي تدخلاً عسكرياً من الجيش بالنظر إلى عدم قدرة وزارة الأمن الداخلي، أو مكتب التحقيقات الفيدرالي على التعامل مع الميليشيات الأميركية المسلحة.
لكن، على الرغم من أن أي اشتباك بين القوات النظامية الأميركية والميليشيات التي تمتلك عدداً هائلاً من الأسلحة، سيحسم من دون شك لمصلحة مشاة البحرية الأميركية، فإن المشاكل الحقيقية التي ستواجه الجيش تتعلق بجوانب قانونية وإجرائية، إذ لم يتم تصميم الجيش الأميركي ثقافياً أو مؤسسياً ليكون جهة فاعلة مناسبة لمواجهة تمرد داخلي، بل على العكس، فقد تم تصميم دوره في الحياة الأميركية ليكون غير فعال في العمليات المحلية.
مقاومة منتظرة
وفي حين أن استخدام الجيش بحد ذاته لا يشكل أزمة دستورية، بالنظر إلى سلسلة من السوابق القانونية والأوامر التنفيذية الصريحة التي تحكم استخدام القوة العسكرية على الأراضي الأميركية، فإن أي رد عسكري على الاضطرابات المدنية من المرجح بدرجة كبيرة أن يخرج عن السيطرة ويتحول إلى تمرد أوسع، إذ ستواجه القوة الأميركية الموجودة على الأراضي الأميركية المقاومة نفسها التي تواجه قوات الاحتلال الأجنبية، بالنظر إلى التاريخ الأميركي المتخم بمقاومة الولايات للسلطة الفيدرالية.
وما سيعزز هذه المقاومة وجود مجموعة متنوعة من الحركات المناهضة للحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة، بدءاً من الجماعات التي تضم مجرد هُواة، وصولاً إلى جماعات أخطر مثل النازيين الجدد والقوميين البيض و"براود بويز" وجماعات أخرى مسلحة تم القبض على العديد من أعضائها، ومعهم بعض المواد اللازمة لصنع أسلحة نووية منخفضة الدرجة.
ما ينص عليه القانون
يحدد القانون دور القوات المسلحة في الدفاع عن الوطن بأنه حماية سيادة الولايات المتحدة وأراضيها وسكانها المحليين والبنية التحتية الحيوية ضد التهديدات الخارجية والعدوان أو غيرها من التهديدات، وفقاً للأوامر الصادرة من الرئيس. لكن، يبدو أن تدخل الرئيس مقيّد بظروف معينة، إذ ينص قانون التمرد الذي وُضع عام 1807، على قمع التمرد ضد حكومة الولاية بناءً على طلب الحاكم، ويسمح قانون الولايات المتحدة للرئيس باستخدام القوات المسلحة لقمع التمرد أو العنف الداخلي إذا كان يعرقل تنفيذ القوانين عندما يكون جزء من المواطنين محروماً من الحقوق الدستورية، بينما الولاية غير قادرة أو ترفض حماية هذه الحقوق أو تعرقل تنفيذ أي قانون فيدرالي أو تعرقل سير العدالة بموجب القوانين الاتحادية الفيدرالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهناك سوابق لهذا التدخل الرئاسي، مثل القرارات الصادرة بتدخل الجيش خلال عمليات إعادة إعمار الجنوب بعد الحرب الأهلية، ولفرض إلغاء الفصل العنصري في ليتل روك في ولاية أركنساس عام 1957، وخلال أعمال الشغب في لوس أنجليس عام 1992، لكن قواعد استخدام القوة التي صدرت لفرقة المشاة السابعة أثناء أعمال الشغب في لوس أنجليس حددت الحد الأدنى من مستويات القوة رداً على مستويات العنف المدني.
مع ذلك، من المتوقع أن يكون العنف السياسي الآن أو في المستقبل أكثر تنظيماً، ما يطرح أسئلة عما سيحدث إذا ما اضطر الجيش الأميركي إلى الرد بالمثل؟ وبموجب شروط قانون التمرد، فإن وزارة العدل هي الوكالة الفيدرالية المعنية بقضايا التهدئة في الولايات المتحدة، وهذا يعني أن الرئيس سيعين ممثلاً مدنياً رفيع المستوى للإشراف على العمليات العسكرية تكون له صلاحية الدور المزدوج لعمل الشرطة والعمل العسكري. وسيحدث الصراع في ظل ظروف تدقيق أكبر من أي عملية عسكرية أميركية في التاريخ، بالنظر إلى أن العمليات المعلوماتية في المجتمعات المدنية هي نقطة الضعف الكبرى للجيش الأميركي، وهو ما اعترف به جنرالات سابقون لا يرتاحون إلى عمليات مكافحة التمرد، بما فيها تلك التي وقعت في أفغانستان والعراق، إذ تتمثل نقطة الضعف لدى العسكريين في فهم التفاعل بين الثقافة والصراع.
خطر عدم الشرعية
ووسط هذا التفاعل، سيكون الاشتباك العسكري ضد المتمردين أو الإرهابيين بالنسبة إلى نصف البلاد ضرورياً للحفاظ على الديمقراطية وسيادة القانون، لكن بالنسبة إلى النصف الآخر، سيكون هذا تدنيساً للحرية الفردية، وسيخلق تدخل أي قوة عسكرية أميركية ضد المواطنين الأميركيين إحساساً تلقائياً بعدم الشرعية.
وتظل المشكلة المركزية هي أنه من المستحيل بناء الشرعية لقوة ينظر إليها السكان المحليون على أنها قوة محتلة، ما يجعلها تواجه معارضة أكبر بدعوى عدم شرعية السلطة الفيدرالية. وعلى سبيل المثال، أنتج الجنوب الأميركي المهزوم بعد الحرب الأهلية، خلال عملية إعادة الإعمار، كو كلوكس كلان، والقمصان الحمر، والرابطة البيضاء، وجميعها منظمات إرهابية حاصرت الإدارة الشمالية المنتصرة حتى تخلت عن مشروع المصالحة.
الحل سياسي
وعلى الرغم من ضمان انتصار قوات الجيش الأميركي المحترفة في أي صراع مع الميليشيات، فإنه لا يمكن لأي شخص يتمتع بخبرة سياسية في مكافحة التمرد أن يتخيل أن أياً من هذه الانتصارات سيكون مهماً، لأن مشكلة مكافحة التمرد ليست عسكرية في الأساس، وإنما سياسية، بحسب الجنرال المتقاعد دانيال بولغر الذي يدرس التاريخ في جامعة ولاية كارولينا الشمالية.
ويتفق الكولونيل المتقاعد منصور على أنه من المستحيل النجاح في كبح التمرد، لأن دور الجيش هو تضييق الخناق على العنف لإحراز تقدم سياسي، أي تحقيق الاستقرار ضمن استراتيجية موسعة لجعل مكافحة التمرد ممكنة من الناحية السياسية.
لهذا، سيكون حل الحرب الأهلية الأميركية المقبلة حلاً للأزمات التي تواجهها أميركا، إذ يمكن للجيش في أحسن الأحوال أن يوفر المساحة التي تمتلكها الولايات المتحدة للتفاوض بشأن مشاكلها.