على الرغم من أن السودانيين نالوا استقلالهم قبل 66 عاماً، ما زالت مسألة الحكم محل صراع بين العسكريين والمدنيين، إذ امتدت سنوات الحكم العسكري 52 عاماً، موزعةً على ثلاث حقب، فكلما جاء حكم مدني ينقضّ عليه العسكريون، متعللين بتدهور الأوضاع الاقتصادية، واتساع دائرة الفساد، وغيرهما، في حين شهدت فترات الانتقال تحديات سياسية وأمنية واقتصادية، بسبب التغييرات والإصلاحات التي تجريها السلطات الجديدة.
وتظل الفترة الانتقالية الحالية أكثر فترات الانتقال الثلاث تعقيداً، نظراً إلى عدم توافق المكونين العسكري والمدني منذ الوهلة الأولى من الشراكة في السلطة بعد توقيع الوثيقة الدستورية في 17 أغسطس (آب) 2019، وصولاً إلى الأزمة الحالية التي تفجّرت بإعلان قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي حالة الطوارئ، وفضّ الشراكة مع المدنيين، ما تسبّبت في اندلاع تظاهرات واسعة، شملت العاصمة الخرطوم ومدن البلاد الرئيسة، راح ضحيتها 55 قتيلاً حتى الآن، فيما تأزم الوضع عقب تقديم رئيس الوزراء عبدالله حمدوك استقالته، الأحد، الثاني من يناير (كانون الثاني).
لكن، في ظل التاريخ الطويل من الأزمات السياسية، التي واجهت السودانيين منذ استقلال بلادهم في 1956، كيف تمكنوا من تخطي أزماتهم خلال هذه السنوات الممتدة في الحكم؟
ترتيبات عبود
في هذا الشأن، قال المتخصص في القانون الدولي وكيل وزارة العدل السودانية الأسبق أحمد المفتي، "الأزمة السودانية الحالية مختلفة تماماً عن سابقاتها، فمعلوم أن السودان مر بتدخلات عسكرية عيدة لإصلاح الأوضاع السياسية في البلاد، كان أولها انقلاب الفريق إبراهيم عبود (1958 - 1964)، ثم العميد جعفر النميري (1969 - 1985)، فالمشير عمر البشير (1989 - 2019)، وجميعها قوبل في البداية بترحيب شعبي واسع، بينما جرت إطاحة تلك الانقلابات الثلاثة بثورة شعبية، بالتالي فإن الخطوط العريضة لتاريخ السودان السياسي تمثلت في الإصلاح العسكري ثلاث مرات، ثم قابلها الإصلاح الجماهيري بعدد المرات نفسه".
وتابع المفتي، "لكن مشكلة الإصلاح الجماهيري في ثورة أكتوبر 1964 أن الثورة لم تكتمل بعد، حيث وضعت الحل في إجراء الانتخابات العامة، التي جاءت بنفس الأشخاص الذين ثار الشعب ضدهم، وتكررت المسألة نفسها في ثورة أبريل 1985، والآن تسير الثورة الحالية في مسار الثورتين السابقتين نفسه، لكن الشيء المختلف أن المكونين المدني والعسكري في هذه الثورة لا يجمعهما توافق، عكس ما كان سابقاً، لذلك فإن المنعطف الحالي خطير جداً، بخاصة بعد استقالة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، إذ أصبح الحكم عسكرياً كامل الدسم".
وأضاف، "في المقابل نجد أن الشارع في حالة فوران وهيجان، إذ ظل يسير المواكب المناهضة للحكم العسكري من أجل الوصول إلى مدنية كاملة الدسم، ونجد أيضاً هناك مجموعات صامتة تراقب ما يحدث، في حين أدت التظاهرات المستمرة إلى توقف الحياة اليومية بكل أشكالها، كما ظل المتظاهرون يخسرون عدداً من الأرواح في كل مسيرة، وهذا وضع لا يستقيم، وفي تقديري أن الكرة الآن في يد العسكر للخروج بالبلاد إلى بر الأمان، وذلك بإيجاد حل بأسرع وقت ممكن يسهم في وقف التصعيد المتزايد".
واقترح المتخصص في القانون الدولي، تسليم السلطة لحكومة مدنية تتوافق على تشكيلها قوى الثورة كافة، بخاصة المتظاهرين، شريطة أن تتوقف التظاهرات فور الاتفاق على ذلك، وأن تلتزم الحكومة الجديدة إجراء الانتخابات في موعدها المتفق عليه بحيث تشرف عليها لجنة قومية مكونة من القوى السياسية في البلاد، على أن يجري هذا الاتفاق بترتيبات على نحو ما حدث مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة السودانية برئاسة الفريق إبراهيم عبود عام 1964، حيث أنقذ السودان بحكمته آنذاك من مواجهة شاملة نتيجة لتصاعد عمليات العنف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحكمة السودانية
في السياق، أشار الكاتب السوداني عبدالله آدم خاطر، إلى أنه "معلوم أن السودان يعد دولة حديثة، ومن دون شك أن الثورة المهدية (1881 - 1899) أكدت وحدته الحالية، وكانت سبباً في استقراره وازدهاره، لكن بشكل عام البلاد شهدت مشكلات سياسية عديدة معقدة على مر الحقب منذ الاستقلال، ولعبت الحكمة السودانية دوراً مخلصاً في تهدئتها وإنهائها بالتوافق التام بين أطراف الصراع. كما أن النضال من أجل الاستقلال بدأ في شكل تظاهرات في عدد من مدن السودان، بدءاً من عطبرة وانتهاءً بالفاشر التي جرى فيها حرق العلم البريطاني، وهو ما جعل الاستقلال لكل السودانيين، بمن فيهم الجنوبيون".
وزاد خاطر، "في الوقت ذاته، نجد أن الدولة السودانية قامت على أساس المدنية، ساعد في ذلك الثقافة المشتركة بين شعبها الذي ظل في حالة رفض دائم للانقلابات العسكرية، بخاصة عندما تصل إلى حد الطغيان، في حين كان نمط المقاومة يعبر عن الإجماع الوطني، حيث ينتشر في كل أطراف البلاد، لينتهي بإسقاط الحكم في الخرطوم. والآن، لاحظنا كيف تهيّأ واستعد الشعب السوداني لهزيمة انقلاب 25 أكتوبر، حيث قاوم هذا الانقلاب من الوهلة الأولى لحدوثه وعمل على استنهاض كل الخبرات التراكمية في أنحاء السودان شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً لدحره، وبالتوازي يتساءل المراقب العادي قائلاً: أين الحكمة السودانية للخروج من هذه الأزمة؟".
ومضى، "مؤكد أن الثورة ستصل إلى نهاياتها بنجاح تام وامتياز، وسينفتح صفحة الفيدرالية والديمقراطية في عموم البلاد بلا استثناء، لأنه لأول مرة يحصل اتفاق جامع وبوعي غير مسبوق على الديمقراطية واللامركزية والفيدرالية، وضرورة حسن إدارة التنوع الذي يمتاز به السودان من دون غيره من دول القارة الأفريقية، فضلاً عن أن تكون المواطنة أساس الحقوق والواجبات، والتنمية من القاعدة إلى القمة".
ولفت الكاتب السوداني، إلى أن "مهمة تأمين المسار الديمقراطي الجديد تتصدر حالياً أولويات العمل السياسي في البلاد، وترتبط هذه المهمة بأهمية استيعاب الدروس السياسية في تاريخ السودان منذ الاستقلال حتى الآن"، موضحاً أن الفترة الانتقالية، بما يرتبط بها من تحديات "يجب أن تدفع القوى السياسية بأسرها إلى رسم خريطة طريق جديدة لمعالجة الأزمات، سواء السياسية أو الاقتصادية منها، إذ إن ما شهدته الساحة السودانية من أحداث عديدة طيلة الـ66 عاماً سيسهل التوصل إلى تحديد المنطلقات الأساسية التي يجب اعتمادها ضمن خريطة طريق الحل السياسي الشامل".
معالجات قاصرة
وأوضح الباحث الأكاديمي والقيادي السابق في الحزب الشيوعي السوداني الشفيع خضر سعيد، في إحدى كتاباته أن أزمة السودان الحالية "ليست عابرة أو مؤقتة، وإنما هي مزمنة، وتمتد جذورها إلى فجر الاستقلال، عندما لم يتم التصدي للمهام والوظائف التأسيسية للدولة السودانية المستقلة حديثاً، فظلت مؤجلة ومتراكمة، ثم تفاقمت وتعقدت بالمعالجات القاصرة والخاطئة على أيدي الأنظمة المدنية والعسكرية التي تعاقبت على الحكم طيلة الفترة الممتدة منذ الاستقلال، وحتى يومنا هذا، والتي لم تركز إلا على مسألة بقائها في السلطة، ما جعل السودان يبدو وكأنه يعيش فترة انتقالية منذ الاستقلال وحتى اليوم".
وحدد سعيد المهام التأسيسية للدولة السودانية في نوع الممارسة الديمقراطية المتلائم مع واقع السودان، من دون التخلي عن جوهر الديمقراطية الثابت، وعلاقة الدين بالدولة، وشكل الحكم الملائم، الذي يحقق اقتساماً عادلاً للسلطة في السودان بين مختلف المكونات القومية والجهوية، ويحقق ممارسة سياسية معافاة، والتوزيع العادل للثروة، أي إعادة النظر في توزيع الثروة وخطط التنمية بما يرفع الإجحاف والإهمال عن المناطق المهمشة في الأطراف، مع إعطاء الأسبقية لمناطق التوتر العرقي والقومي والاجتماعي، وذلك في إطار المشروع الاقتصادي العلمي الذي يُراعي عدم تدهور مواقع إنتاج الفائض الاقتصادي، وعدم استنزاف مراكز ومصادر الخبرة العلمية، فضلاً عن مسألة هوية السودان: عربية أم أفريقية، أم هي هوية سودانوية؟ التي تجلت في الصراع حول اللغة والثقافة والتعليم والإعلام.
وتابع، "بالنظر إلى عناصر الأزمة السودانية هذه، سنجد أنها ليست مجرد صراعات حول السلطة بين المعارضة والحكومة، وليست مجرد معارك بين الحكومة المركزية والمتمردين عليها، سواء في دارفور أو جنوب كردفان أو جنوب النيل الأزرق أو شرق البلاد، كما هي ليست مجرد مؤامرات من قوى خارجية، وأصلاً، لم نكن نتوهم أن تختفي هذه الصراعات وتحل أزمات البلاد، بمجرد وقف القتال بين المتحاربين، أو بمجرد توقيع القوى المتصارعة على ميثاق أو معاهدة سلام. فجوهر الأزمة في السودان، هو في الحقيقة التجليات الطبيعية لعدم حسم تلك القضايا المصيرية التأسيسية، أي هو الصراع والنزاع حول كيفية بناء دولة ما بعد الاستقلال (الدولة السودانية الوطنية الحديثة)، وحول أن هذه الدولة تقوم على الاعتراف بالتعدد الإثني والديني والثقافي، وترتكز على أسس النظام الديمقراطي التعددي المدني، وعلى أسس التنمية المتوازنة بين كل أطراف البلاد وتكويناتها القومية، وذلك في ظل نظام للحكم يجعل ذاك الاعتراف واقعاً، ويحقق هذه الأسس والأهداف".
الدائرة الشريرة
أضاف الباحث الأكاديمي، "أعتقد كما ترى معظم القوى السياسية والتيارات الفكرية السودانية، أن التصدي الجاد لهذه المهام هو المدخل والضمان لتحقيق حلم كسر الحلقة أو الدائرة الشريرة التي تمسك بتلابيب السودان منذ استقلاله وحتى اليوم، وهي دائرة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، واستدامة الحرب الأهلية، والتردي الاقتصادي".
وشدد سعيد على أن حلم كسر الحلقة الشريرة والبدء في إنجاز المهام الدستورية والهيكلية، ذات الطابع المصيري والتأسيسي لدولة ما بعد الاستقلال، "لن يتحقق بضربة واحدة، ومن أول وهلة، وإنما عبر مراحل عدة، فيها الانتصارات والانكسارات، وهي عملية يتحكم فيها عديد من العوامل، منها ميزان القوى في الصراع السياسي، وآلية حل هذه النزاعات، عبر الحوار الوطني أو الانتفاضة الشعبية أو الحسم العسكري، لكن الواضح، والبديهي أيضاً، أن أزمة بهذا العمق في الجوهر وهذه الامتدادات في الجذور، التي تتعلق ببناء وطن ودولة، لا يمكن أن تحل إلا عبر مشروع وطني نهضوي، يجري التوافق حوله والإجماع عليه من خلال حوار وطني لا يستثني أحداً".
ولفت إلى أنه سبق أن جرت محاولات عديدة لتغيير هذا الواقع المأساوي في البلاد، منها الانقلابات العسكرية ثلاث مرات، لكن هذه الانقلابات وما أفرزته من نظم ديكتاتورية، فشلت في إحداث التغيير المنشود، بل فاقمت من مأساوية الوضع، بخاصة انقلاب 1989، الذي أقام نظام حكم تحت شعارات الإسلام السياسي، ولا يزال يحكم البلاد على الرغم من إطاحته في أبريل (نيسان) 2019، مدعياً أنه جاء لإحداث التغيير الجذري في البلاد، فجاءت نتائج سياساته وممارساته كارثية بمعنى الكلمة، بل ويومياً، وحتى اللحظة، تشهد البلاد مزيداً من فداحة هذه النتائج الكارثية.
استقالة حمدوك
وكان السودان قد بدأ فترة انتقالية لمدة 39 شهراً، عقب إطاحة الرئيس السابق عمر البشير بثورة شعبية قبل قرابة السنوات الثلاث، حيث اتفق المكونان العسكري والمدني على إقامة شراكة في الحكم، بموجب وثيقة دستورية شهد توقيعها مراقبون دوليون وإقليميون، أفضت إلى تشكيل ثلاثة مجالس للحكم هي مجلس الوزراء، ومجلس السيادة، والمجلس التشريعي، حيث جرى تشكيل مجلسي السيادة والوزراء برئاسة كل من عبدالفتاح البرهان، وعبدالله حمدوك على التوالي، بينما تأجل تكوين المجلس التشريعي إلى وقت لاحق، بسبب خلافات بين القوى السياسية حول نسب المحاصصة. ومدّد عمر الفترة الانتقالية بعد توقيع الحركات المسلحة على اتفاقية السلام في جوبا مطلع أكتوبر 2020 إلى 14 شهراً إضافية.
وقادت هذه الخلافات بين المكونين المدني والعسكري، التي زادت حدّتها عقب إجراءات البرهان الأخيرة التي اعتبرتها القوى السياسية وغالبية الشارع السوداني انقلاباً عسكرياً إلى تقديم رئيس الوزراء عبدالله حمدوك استقالته رسمياً في خطاب بثه تلفزيون السودان مساء الأحد احتجاجاً على ما وصفه بحالة التشرذم بين القوى السياسية السودانية، وعجزه عن إنجاز التوافق السياسي الوطني، الذي ظل ينادي به من خلال مبادرات عدة طرحها خلال توليه رئاسة الوزراء، لكنها لم تجد آذاناً مصغية، فضلاً عن الوتيرة المتسارعة للانقسام بين الشريكين، ما أثر في فعالية وأداء الدولة، لتدخل الأزمة السودانية منعطفاً جديداً ربما أكثر حدة لم يشهده السودان منذ استقلاله قبل 66 عاماً.