أظهرت الأرقام الرسمية الصادرة الاثنين في تركيا ارتفاعاً لمعدل التضخم بشكل صاروخي الشهر الماضي، لم يسبق له مثيل منذ نحو عقدين. وحسب بيانات معهد الإحصاء الوطني التركي وصل معدل التضخم في تركيا في ديسمبر (كانون الأول) 2021 إلى نسبة 36 في المئة. وجاء الارتفاع في الأسعار أعلى بكثير من توقعات السوق، حيث كان مسح لوكالة "رويترز" الأسبوع الماضي توقع أن يرتفع معدل التضخم في الشهر الأخير من العام إلى نسبة 30 في المئة. يذكر أن معدل التضخم، حسب البيانات الرسمية التركية، في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) كان عند نسبة 21 في المئة.
ولم تشهد تركيا ارتفاعاً في الأسعار بهذا الشكل منذ عام 2002، حيث كان اقتصادها في حالة تدهور، وكان أحد الأسباب لفوز حزب الرئيس رجب طيب أردوغان في الانتخابات وقتها ليبدأ عقدين من الحكم في تركيا.
وبدأت العملة التركية، الليرة، تداول أول أيام العام الجديد منخفضة بنسبة تقارب 5 في المئة، ليقترب سعرها من نحو 14 ليرة للدولار. ذلك بعدما هوت الليرة بنحو 45 في المئة خلال عام 2021، وبهبوط يوم الاثنين تكون فقدت نحو نصف قيمتها تقريباً منذ مطلع العام الماضي.
ويرجع ذلك في الأساس إلى السياسة النقدية التركية التي يضغط الرئيس أردوغان على البنك المركزي لاتباعها، والتي تتعارض مع كل القواعد الاقتصادية التقليدية. فعلى الرغم من أن الإجراء المنطقي لخفض معدلات التضخم هو رفع سعر الفائدة، إلا أن البنك المركزي التركي يواصل خفضها بطلب من الرئيس. وخفض البنك نسبة الفائدة بمقدار خمس نقاط مئوية منذ سبتمبر (أيلول) الماضي من 19 في المئة إلى 14 في المئة الشهر الماضي.
زيادة تكاليف المعيشة
وفي تصريحات لزعماء المعارضة السياسة في تركيا الاثنين، واجه الرئيس أردوغان وحزبه الحاكم "العدالة والتنمية" انتقادات لاذعة واتهامات بأن سياسة الحكومة هي السبب في الارتفاع الصاروخي في تكاليف المعيشة ومعاناة ملايين الأتراك. وقدر علي باباكان، الحليف السابق لأردوغان الذي انشق عن حزبه وأسس حزب "ديفا"، أن معدلات التضخم الحقيقية أعلى بكثير مما أعلن الاثنين. واتهم باباكان معهد الإحصاء الوطني بأنه "يزرو" الأرقام، مضيفاً أن ما أعلن "لا يقترب حتى من رفع أسعار الطاقة الذي أعلن عنه رسمياً بداية العام، حيث تم رفع أسعار الكهرباء للمنشآت التجارية بنسبة 125 في المئة، وللبيوت بنسبة 50 في المئة".
وحسب البيانات الرسمية، فإن المكونات الأساسية لارتفاع معدلات التضخم بهذا الشكل هي ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء. وارتفعت تكاليف النقل في تركيا الشهر الماضي بنسبة 54 في المئة، بينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 44 في المئة.
ونتيجة الانهيار المستمر في سعر صرف الليرة، تعاني قطاعات الصناعة في تركيا من ارتفاع كلفة الإنتاج. وهذا ما جعل مؤشر أسعار المنتجين يرتفع بأعلى وتيرة له خلال العام الماضي، ليصل إلى نسبة 80 في المئة. ويضيف المنتجون تلك الكلفة على أسعار السلع للمستهلك النهائي ما يضاعف من معاناة الأتراك.
ذلك في الوقت الذي يطالب فيه الرئيس أردوغان بحشد الدعم الشعبي لسياساته الاقتصادية، متعهدا بأن تلك السياسة ستحقق أهدافها، واصفاً ما يجري بأنه "مؤامرة" على بلاده. وكان الرئيس طرح الشهر الماضي خططاً لحاية ودائع الأتراك بالليرة التركية إذا تخلوا عن الادخار بالدولار أو الذهب، لكن تلك الدعوة لم تحقق نتائج ملموسة حسب تقديرات المراقبين والمحللين في القطاع المالي والمصرفي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتنقل "الفاينانشيال تايمز" عن محافظ البنك المركزي التركي السابق دورموس يلماظ تأكيده على أن ارتفاع معدلات التضخم "هو السبب الأساسي" لكل مشكلات تركيا الاقتصادية. ودعا يلماظ إلى ضرورة البدء الفوري في "برنامج لاستقرار الاقتصاد" باعتباره أمراً عاجلاً وملحاً.
استمرار التدهور
يتوقع المحللون استمرار ارتفاع معدلات التضخم وانهيار سعر صرف الليرة في الأشهر المقبلة، ما لم تغير حكومة الرئيس أردوغان سياساتها. لكنهم يشككون في احتمالات تغيير السياسة النقدية التركية في ظل الحكومة الحالية. ويقول إبراهيم أكصوي، من بنك "إتش أس بي سي" في إسطنبول لـ"لفاينانشيال تايمز" الاثنين، إن معدلات التضخم سترتفع أكثر في الأشهر المقبلة، متوقعاً أن يصل معدل التضخم في تركيا إلى نسبة 42 في المئة في أبريل (نيسان) المقبل.
وفي مقابلة مع "بي بي سي" الإنجليزية، توقعت أوزليم دريشي سنغول مؤسسة شركة "سبين كونسلتنغ" في إسطنبول أن يصل معدل التضخم إلى نسبة 50 في المئة بحلول الربيع المقبل، ما لم تغير الحكومة سياستها. وأضافت، "يتعين البدء في رفع سعر الفائدة بشكل قوي وكبير على الفور فذلك أمر طارئ وملح". لكنها لا تتوقع أن تقدم حكومة الرئيس أردوغان على تغيير سياستها النقدية.
ويؤدي استمرار التدهور في سعر الليرة وارتفاع معدلات التضخم إلى عزوف مزيد من مؤيدي حزب العدالة والتنمية عن دعم الحكومة وسياساتها. وتشير استطلاعات الرأي في الآونة الأخيرة إلى تراجع حظوظ الحزب الحاكم بين الناخبين، لكن ذلك لا ينعكس في ارتفاع حظوظ أي من أحزاب المعارضة بالقدر الذي يجعلها قادرة على تحقيق فوز حاسم في الانتخابات إذا أجريت الآن. ومن المتوقع إجراء الانتخابات العامة في تركيا في منتصف العام المقبل 2023.