Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الرحالة" في العلا السعودية يسبرون أغوار تاريخها وإرثها الفني

مرة أخرى، تشكل العلا، المدينة السعودية التاريخية، مصدر إلهام وموطناً بالنسبة إلى فنانين وحرفيين ومستكشفين من مختلف المجالات، من بينهم رائدة فضاء آتية من القرن الخامس والعشرين

أندريا بوتشيلي يغني مع ابنته في العلا، أبريل2021 (الهيئة الملكية لمحافظة العلا)

توصف تجربة العلا بأنها "رحلة عبر الزمن". يبدو عسيراً الإشارة إلى نقطة انطلاق محددة بدأت عندها تلك الرحلة: ربما قبل 850 مليون سنة، إلى صخور "ما قبل الكمبري" التي تشكل "الدرع" الذي يتمركز عليه الجزء الغربي من شبه الجزيرة العربية.

 

وأبعد نقطة في المستقبل؟ القرن الخامس والعشرين. حينها تجيء رائدة فضاء [خيالية] تدعى "إليسيريا" من إبداع الفنانة ليتا البوكيرك. تراها تجلس في سلام بوضعية زهرة اللوتس، وإذ تتألق بشالها وبشرتها الزرقاوين، تروح تطيل النظر إلى التضاريس الطبيعية الصحراوية التي تملأ العلا.

تتسم العلا في جوهرها بالتعددية في التخصصات والتعاون (نورا الدبل - مديرة الفنون والتخطيط الإبداعي في الهيئة الملكية لمحافظة العلا)

ليتا، فنانة تركيب [إنستليشن آرت] تبتكر أعمالاً حديثة تنسجم مع البيئة الطبيعية، فضلاً عن أنها رسامة ونحاتة، تصف رائدة الفضاء "إليسيريا" بأنها "شخصية من صنع الخيال تزور هذا الكوكب كي تعلمنا دروساً عن علاقتنا بالكون". ظهر هذا العمل التركيبي للمرة الأولى في معرض "صحراء إكس العلا" Desert X AlUla  الذي أقيم في 2020. ربما تصير "إليسيريا"، بطريقتها الخاصة، جزءاً لا يتجزأ من المعالم الطبيعية في العلا شأن "مدفن لحيان بن كوز"Tomb of Lihyan son of Kuza [معروف أيضاً بـ"القلعة الوحيدة"].

ستنضم إلى "إليسيريا" شخصيات أخرى، ربما تكون خيالية مثلها تماماً، مع عودة "ديزرت إكس العلا" في 2022، بين 11 فبراير (شباط) و30 مارس (آذار). محور هذه التظاهرة الفنية الأخيرة لمتحف العلا الحي يتجسد في الكلمة العربية "سراب" Sarab (mirage بالإنكليزية). وستستكشف الأعمال التي كلف بها الفنانون حديثاً في المعرض المجاني معنى السراب وغواية الواحة.

إنها على الأرجح أكبر منطقة أثرية قيد الدراسة في العالم. يصنع ذلك مناخاً وبيئة ولوحة ملونة لم يسبق لها مثيل (آلان شوارتزمان - مستشار فني)

شأن الغلاف الصخري، والعصور الجيولوجية المختلفة التي تفترش أرض العلا، يقدم عدد من الفنانين المعاصرين أدلة جديدة على الابتكار والإبداع الإنسانيين، إلى جانب تراث الحضارة النبطية وغيرها من حضارات مبكرة.

في الواقع، "العلا منطقة صحراوية شاسعة غابرة في القدم تحتضن عجائب جيولوجية مميزة ترجع إلى ثلاثة عصور جيولوجية، ما يجعلها فريدة من نوعها ضمن نظيراتها من المساحات الصحراوية، ويضع في متناول أمناء المعارض والفنانين لدينا باقة من الخيارات الملهمة المتنوعة"، تقول نورا الدبل، مديرة الفنون والتخطيط الإبداعي في "آر سي يو"RCU  (الهيئة الملكية لمحافظة العلا).

 

جنيفر ستوكمان، الرئيسة السابقة لمجلس أمناء "مؤسسة سولومون آر غوغنهايم" Solomon R Guggenheim Foundation، تتحدث عن تجربتها من زيارة النسخة الأولى من معرض "ديزرت إكس العلا".

"كانت الأعمال كافة [في المعرض] من الفن المعاصر وقد توزعت على معالم أثرية ضاربة في القدم، محاطة بصخور شاهقة"، تقول ستوكمان مضيفة أن "بعض الأعمال اتسم بعبقرية أخاذة، في حين أن البعض الآخر لم يكن على الدرجة عينها من الإبهار: ولكن بالنسبة إلى "ديزرت إكس العلا" في دورته الأولى، كان عملاً رائعاً"، من دون شك.

أما الدورة الثانية من المعرض التي ستقام في 2022، فتعد بأن تذهب بمفهوم المتحف الحي الذي يعرض أعماله خارج الأبواب في الهواء الطلق إلى أبعد من تلك الحدود. ستعرض الأعمال الفنية في "وادي المعتدل" Al Mutadil valley، قرب جبل الفيل Jabal AlFil، أو "صخرة الفيل" Elephant Rock كما تسمى [بسبب شكلها الذي يشبه الفيل]، منحوتة من إبداع الطبيعة وليس البشر ترتفع نحو السماء 52 متراً.

أن تستقطب العروض الفنية والفنانين إلى العلا كأنك تطلب منهم أن يتنافسوا مع نصب "ستونهنج" [جنوب غربي إنجلترا] أو معبد "أنغكور وات" [في كمبوديا]، أو أن يتواجدوا إلى جانبهما على أقل تقدير، وقد شكل ذلك تحديداً عامل الجذب الذي شد المستشار الفني آلان شوارتزمان إلى المشروع.

"حقيقة أن الهيئة الملكية نظرت منذ البداية إلى الفن المعاصر باعتباره عنصراً محورياً [في المعرض] شكلت الصلة التي ربطتني بالمشروع"، يوضح آلان شوارتزمان مؤكداً أن المشروع "مسؤولية كبيرة بالنسبة إلى الفنانين، لكنه أيضاً فرصة فريدة أمامهم كي يعملوا في هذه البيئة ويصنعوا أعمالاً دائمة".

جغرافيا جديدة لعالم الفن

جنيفر ستوكمان الرئيسة السابقة لمجلس أمناء "مؤسسة سولومون آر غوغنهايم" قد شاركت عن كثب في الاستعدادات لافتتاح "متحف غوغنهايم" Guggenheim museum  المرتقب في أبوظبي، وتتولى إدارة هيئة المتاحف في المملكة العربية السعودية. وأشارت في المقابلة معها إلى أن منطقة الشرق الأوسط عموماً والعلا خصوصاً، تسهمان في إعادة تشكيل جغرافيا سوق الفن الدولي.

جواهر جديدة وطرق قديمة

ولكن على أي وجه يعمل جيل جديد من الفنانين والحرفيين المحليين جنباً إلى جنب مع فنانين عالميين وعلامات تجارية شهيرة، وإرث فني عريق؟.

يعتبر ازدهار الفنون الإبداعية في المملكة العربية السعودية جزءاً كبيراً من الخطة الطموحة "رؤية 2030" Vision 2030. على الرغم من كم التركيز المنصب على التنويع الاقتصادي والسياحة، في المستقبل، ربما يثبت الإرث الفني والمعماري من تلك الفترة في التاريخ السعودي أنه الأكثر قيمة.

لا ريب في أن معرض "ديزرت إكس العلا" ومشهد الفنون الجميلة المزدهر في الرياض وجدة وغيرهما يجذب الفنانين وأمناء المعارض والمستشارين الفنيين من مختلف أنحاء المعمورة. مثلاً، مشاريع من قبيل "منتزه المجسمات" في جدة، الذي يعرض منحوتات تحمل بصمة هنري مور، ومها الملوح، وألكسندر كالدر، وغيرهم، قد أسهمت في إحداث تحول في المشهد المادي والثقافي للمنطقة.

ولكن ماذا عن المواهب المحلية؟ في هذا البلد الشاب، كيف سيترك جيل جديد من الفنانين والحرفيين بصمته؟

في قلب هذا المركز الرئيس لهذا النشاط تقع "مدرسة الديرة"، مدرسة للفتيات في العلا، تعمل الآن مع مؤسسة "جبل الفيروز" Turquoise Mountain، منظمة غير حكومية أنشئت في 2006 بناء على مبادرة من صاحب السمو الملكي أمير ويلز [الأمير تشارلز] لإحياء المناطق التاريخية والحرف التقليدية. هدفها على المدى الطويل: توفير وظائف ومهارات وسوق جاهزة للفخار، وأعمال الخوص، والمنسوجات والجواهر التي تصنعها تلك الفتيات الموهوبات.

مرة أخرى، ترى بصمة الفن والتصميم المعاصر "يقولبان" الحجر الأساس الذي تقوم عليه المهارات المستقاة من حضارات سابقة. تلحظ ذلك على نحو ملموس في مسابقة "بياجيه للتصميم" Piaget Design، حيث عمل 12 من أهالي العلا جنباً إلى جنب مع خبير مرشد من" بياجيه" و20 طالباً من جنيف طوال أربعة أسابيع. صنع الطلاب قطعاً صغيرة من الحلي ومعلقات وجواهر مستوحاة من جمال العلا. والهدف، كما تقول دار صناعة الجواهر والساعات السويسرية الفاخرة، "إحياء مبادئ التصميم المتجذرة في التراث عبر توجيه المواهب المحلية وتعزيزها".

اللافت أن التصاميم الفائزة كافة كانت من إبداع فنانات.

وفق نورا الدبل، "كان من الرائع رؤية الشغف والاتقان اللذين حملتهما فتياتنا الشابات إلى هذا المشروع أثناء سعيهن إلى اتقان حرفة فتحت الأبواب أمامهن من أجل بناء مستقبل جديد، ثم المشاعر العميقة التي غمرت الفائزة إذ أثبت عملها الجاد مكانته عبر التقدير الذي لقيه من جانب زملائها الجدد الذين تفصلها عنهم مسافات بعيدة".

كذلك أطلقت العلا برنامجها الأول للإقامة الفنية. لقى ستة فنانين دعوة للعمل في المنطقة لمدة 11 أسبوعاً، لاستكشاف موضوع "إحياء الواحة".

تقول نورا الدبل إن برنامج "الإقامة الفنية في العلا يرمي إلى تعزيز الحوار والتبادل ليس فحسب بين فنانين ناشئين وآخرين راسخين ومجتمع من الخبراء العاملين على أرض الواقع، إنما أيضاً مع مبدعين محليين للأعمال الفنية وأفراد من المجتمع المحلي".

سنودون عن النهضة السعودية

يعتبر إيرل سنودون سفيراً للفنون والحرف ومبدعاً متمكناً جداً من الأعمال الفنية. كيف ستساعد العلا في الحفاظ على المهارات التي يعتز بها؟

يجمع مشروع العلا ما بين سوق الفنون الجميلة الدولي، وتثقيف السكان المحليين حول الحرف التقليدية والمعاصرة، والحرص على حفظ مهارات الماضي وتقنياته.

يبدو من الصعب التفكير في أي شخص أفضل من اللورد سنودون لإبداء تعليق على هذا المزيج من التطلعات.

سيكون سكان العلا في قلب هذا النشاط (نورا الدبال - مديرة الفنون والتخطيط الإبداعي في الهيئة الملكية لمحافظة العلا)

سنودون هو الرئيس الفخري في دار المزادات "كريستيز". وبهذه الصفة، كان له اهتمام متزايد بالشرق الأوسط: ليس فقط كمكان يسكن فيه جامعو الأعمال الفنية الأثرياء والمؤثرون، بل أيضاً كمنطقة يترك فيها الفنانون المحليون ضجة على المستوى الدولي.

كذلك لا ننسى تفانيه في العمل على استمرارية المهارات الحرفية المتوارثة عبر الأجيال والحفاظ عليها. إنه نائب رئيس مدرسة مؤسسة الأمير تشارلز للفنون التقليدية في لندن، التي أنشأها ابن عمه، صاحب السمو الملكي أمير ويلز، في سبيل تشجيع الوعي بالطبيعة الشمولية للفنان التقليدي، الذي يستمد إلهامه من أعلى المصادر، والذي يصنع بمهارته وتفانيه روائع يمكننا جميعاً التعرف إليها كجزء من تراث عالمنا.

وأخيراً وليس آخراً، سنودون نفسه فنان حرفي: شركته "لينلي"Linley  متخصصة في العمولات وقطع الأثاث المصنوعة حسب الطلب التي تعتمد بشكل كبير على مزج المهارات التقليدية مع الرؤية المعاصرة للتصميم.

سألناه التحدث عن المزيج المميز الذي نشهده في العلا من الفنون والحرف اليدوية، والتقاليد وما يقابلها من حداثة:

حول الفن المعاصر في السعودية:

يقول إيرل سنودون إن "مزاد كريستيز الخيري في البلد، الذي تضمن مجموعة أعمال "إيدج أوف أريبيا" (حافة الجزيرة العربية) [2019] أحد الالتزامات العديدة التي قطعناها على أنفسنا في ما يتصل بالمنطقة. نريد تشجيع هواة جمع القطع الفنية المستقبليين ونقل المواهب المحلية إلى السوق الدولية".

 

حول الحفاظ على المهارات التقليدية:

"رأيت تلك الأشياء [الحرف اليدوية التقليدية] كافة إذ راحت تنتشل من الهاوية. أجرينا تقييماً وسألنا، "ماذا سأترك ورائي؟ ما الذي سأقدمه؟ "إنه لأمر رائع أن نرى صعود الشباب الذين تملؤهم رغبة في تعلم تحديداً المهارات القديمة مرة أخرى"، يوضح سنودون.

حول الاختلاف بين الفنون الجميلة والحرف اليدوية:

"كنت أحاول أن أطمس خطوط الاختلاف تلك منذ أن بدأت. منذ ثلاث سنوات خلت، مثلاً، أنجزت مجموعة فنية مع فنان بارع يدعى جوناثان يو. أصبحت منغمساً في ذلك منذ أن أعطتني جدتي نسخة من كتاب "المهندسين المعماريين والحرفيين البريطانيين"British Architects and Craftsmen  بقلم ساتشفيريل ستويل. يحدونا أمل في أن نرى المزيد من ذلك في العلا"، على ما ذكر سنودون.

حول استخدام المواد المتاحة:

وفق سنودون، "بعض الألوان الحديثة التي كانوا يستخدمونها [في حرم العلا الحرفي في "مدرسة مؤسسة الأمير تشارلز للفنون التقليدية"] كانت متوهجة نوعاً ما. قال أحد المعلمين، "لماذا لا تستخدمون الألوان الموجودة هنا؟". في الواقع، لديهم ألوان رسم رائعة نتيجة الأحجار المتوافرة هناك".

نجوم تحت النجوم

فنانون دوليون ومحليون في مجالات الموسيقى والدراما والسينما يضيفون العلا إلى مسيراتهم الفنية. من المنصف القول إنهم لن يختبروا أي مكان آخر مثل هذه المدينة التاريخية.

لا بد من أن "هاليلويا" Hallelujah  للمغني وكاتب الأغاني الكندي ليونارد كوهين واحدة من أكثر الأغاني المسجلة والأكثر أداءً في تاريخ الموسيقى الشعبية. ولكنك تتساءل عما إذا كان أي عرض موسيقي قد فاق احتفالية 8 أبريل (نيسان) 2021 روعة؟

تولى الغناء التينور العالمي الشهير أندريا بوتشيلي وابنته فيرجينيا البالغة من العمر تسع سنوات. وكان المسرح مدينة "الحجر" القديمة قرب العلا، في عمق الصحراء العربية. صحيح أن "ساحر" كلمة مستهلكة جداً؛ ولكنك ستكافح للعثور على وصف أكثر ملاءمة يجمع بين الضوء والظل والفن الضارب في القدم والسكون والموسيقى الرائعة التي يختبرها جمهور صغير في تلك الليلة.

تحدث بوتشيلي، الذي فقد بصره في سن الثانية عشرة، عن التجربة لـ"اندبندنت" وإحساسه بالصحراء الشاسعة فقال إنه "مكان حيث في مقدور الإنسان أن يفكر بعمق أكبر".

كان بوتشيلي سبق أن غنى في العلا، في مكان مختلف تماماً إنما على القدر عينه من الدهشة والروعة: مسرح "مرايا" Maraya، الذي يجسد بنفسه لحناً معمارياً من الزجاج والفولاذ. من بين نجوم الموسيقى الآخرون الذين قدموا عروضاً تحت سماء التنوع الحقيقي في العلا، عازف البيانو الصيني لانغ لانغ، وصوت تينور ملحمي آخر، المغني الأوبرالي الأسباني خوسيه كاريراس.

فضلاً عن حفلات الفنانين الكبار، تطلق العلا سلسلة مهرجانات فنية من المقرر إقامتها خلال فصل الشتاء. والتزاماً بمساعدة الممثلين المحليين على مشاركة المسرح مع نظرائهم الدوليين، ستعرض سينما الحوش أعمالاً اختارها صانعو أفلام سعوديون.

مفترق طرق

الفنانون والمبدعون الذين يقصدون المنطقة في السنوات المقبلة لن يكونوا من روادها الأوائل: إنهم يسيرون على خطى بنائين وخطاطين ومعماريين وعمال خزف وفنانين من مختلف المجالات وجدوا الإلهام، وسوقاً جاهزة لعملهم، في العلا على مدى 200 ألف سنة تقريباً.

المنطقة "أشبه بمكتبة حية"، يقول المستشار الفني وعضو المجلس الاستشاري للعلا، آلان شوارتزمان، مضيفاً أن "تطور اللغة من الآرامية القديمة مباشرة إلى اللغة العربية الحديثة مكتوب في التكوينات الصخرية الطبيعية."

"شكلت العلا مفترق طرق رئيساً للحضارة والاقتصادات في تاريخ العالم. ورسمت جسراً لانتقال مهد الحضارات إلى الشرق"، يقول شوارتزمان.

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة