Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الانفتاح وحرية المعلومات لم تعد لهما قيمة في بريطانيا

بلدان عدة تحترمهما أكثر منا داخل محاكمها ووزاراتها وسياساتها

لم يبد البريطانيون اهتماماً بقضية ترحيل جوليان أسانج إلى الولايات المتحدة (بيكساباي)

ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بردود الفعل على حكم المحكمة العليا الصادر في لندن الأسبوع الماضي، بإمكان تسليم جوليان أسانج إلى الولايات المتحدة. غير أن ترجيح كفة الأصوات الاحتجاجية لم يكن بفضل ما جاء من المملكة المتحدة التي دارت فيها المعركة القضائية حول القضية، وحيث قضى مؤسس موقع "ويكيليكس" الشطر الأعظم من السنوات الإحدى عشرة الأخيرة ، بل بسبب ما جاء من مجموعة من الدول، لا سيما في القارة الأوروبية.

   ربما تكون هناك أسباب شتى لذلك. وأياً كانت جوانب الخطأ والصواب في قضيته، فإن أسانج لم يدخل تماماً قلوب البريطانيين. ووجد أولئك الذين استضافوه أنه ضيف صعب، وكلف هروبه إلى سفارة الإكوادور من ضمنوا  سند الكفالة الخاص به ثمناً باهظاً، وجاءت فاتورة حراسة الشرطة ومراقبتها للسفارة كبيرة بالنسبة إلى دافعي الضرائب. وشجعت هذه المشاعر على غياب الغضب الشعبي الواضح من أن صحافياً مكافحاً من أجل حرية التعبير يكون قيد الاعتقال في أحد السجون البريطانية الأكثر تشدداً في الأمن.  

في المقابل، أتساءل إن لم يكن هناك سبب آخر، أكبر، أيضاً. إن عدداً كبيراً من المنشورات المناهضة لحكم المحكمة العليا على منصات الوسائط الاجتماعية جاءت من إسبانيا والبرتغال واليونان، وتلك دول رزحت تحت أحكام عرفية أو أنظمة ديكتاتورية في تجارب تعد جزءاً من ذاكرة عديد ممن لايزالون على قيد الحياة . في تلك الدول يدرك الناس، لا سيما الصحافيون والأكاديميون، وكذلك أبناؤهم البالغون، ماذا يعنيه حقاً الحرمان من حرية التعبير. وأتت منشورات أخرى معارضة للحكم من دول الكتلة الشرقية  السابقة، التي ينطبق على أبنائها الأمر نفسه. إن كل من تجاوز الأربعين من العمر في تلك الدول لايزال يحتفظ ببعض الذكريات عن كيفية عمل وسائل الإعلام قبل سقوط جدار برلين، هذا إن لم يخض شخصياً تجربة مباشرة معها.

 دعونا نجد وجوه الشبه والتناقض بين المملكة المتحدة [وبين تلك المجموعتين من الدول]. نحن نميل (أنا أشمل نفسي في ذلك) على المستوى الشعبي والرسمي إلى أن نكون لامبالين بشكل يبعث على العجب بخصوص قضايا حرية التعبير والمعلومات. وقد يكون هذا الرضى عن الذات الذي يصل إلى درجة التغاضي عن تلك القضايا، نابعاً من الافتراض العام بأن هذه البلاد التي تتمتع بوسائل إعلام مليئة بالحيوية من دون شك، مع أنها غالباً ما تعيش ظروفاً مالية صعبة، نموذج عن حرية التعبير، خصوصاً أن فيها هذه التقاليد الصحافية الساخرة والجدالية والاستقصائية التي تعود أصولها إلى قرون عدة، وبقيت حاضرة على الدوام ما خلا الرقابة (كانت حميدة نسبياً) أثناء سنوات الحرب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بالتالي، يمثل تفوق المملكة المتحدة المفترض في قضايا الإعلام، المفخرة التي شكلت الأساس لأول مؤتمر عالمي للحرية الإعلامية عقد في لندن سنة 2019 برعاية وزراة الخارجية. ووُصف ذلك الملتقى بأنه "جزء من حملة عالمية لتسليط الضوء على الحرية الإعلامية، وزيادة تكلفة مقاومتها بالنسبة إلى من يحاولون التضييق عليها". وقد اشتمل على جلسات لمناقشة الثقة بين وسائل الإعلام والحكومات، وسلامة الصحافيين، وكذلك بطبيعة الأمر، "مكافحة المعلومات المضللة"، ويحظى هذا الموضوع بالرواج حالياً. ولفتت قلة من أعضاء الوفود إلى أن هذا المهرجان الضخم في منطقة "دوكلاند" في لندن يجري على مقربة من "سجن بلمارش"، حيث كان أسانج، ولايزال، رهن الاحتجاز.

وقد يضاف إلى هذا أنه إذا وُجد ثمة اتجاه راهن للمعلومات في المملكة المتحدة، فيبدو أنه لا ينحو إلى التقليل من الرقابة، بل زيادتها، وفق ما نص عليه مشروع قانون السلامة على شبكة الإنترنت المطروح أمام البرلمان حالياً. في المقابل، قد يعود الأمر كله إلى المربع الأول بغية البدء في معالجته من جديد، ولا يشكل ذلك همي الكبير هنا. إذ يتمثل ما يهمني في أن أسلط الضوء على بعض الطرق التي تبدو فيها هذه البلاد، بوصفها النموذج المفترض لـ"الشفافية" [غلاسنوت، باللغة الروسية)، مقصرة في الحقيقة بشكل موجع [في شأن الشفافية].

فلنبدأ مع الحكم الصادر في حق أسانج. لقد أُبلغ الإشعار بقرب موعد النطق بالحكم ليس إلى الجمهور وحده، بل أيضاً إلى الأطراف صاحبة العلاقة، في الساعة الرابعة من بعد ظهر اليوم السابق. لم يكن هذا استثناءً. وغالباً ما يُفرج عن قوائم المحكمة [الأحكام عن قضايا] التي ستظهر في يوم معين، خلال فترة ما بعد الظهر في اليوم الذي يسبقه. وللحصول على أي إخطار أطول، عليك أن تكون على اتصال بمحام ودود أو أن تدفع اشتراكاً لشركة تجارية تتولى تجميع القوائم، وحتى حينها، يجري نشر الإشعار المعياري في فترة ما بعد ظهر اليوم السابق.

يعد ذلك الأمر سخيفاً، سواء في الوقت الحالي الذي تتوفر فيه المعلومات بشكل فوري، بل في أي وقت آخر. بالتالي، إن محاولة اكتشاف القضايا التي يجري الاستماع إليها ومتى، أو موعد إعلان الأحكام، يمكن أن تكون صراعاً فيه مضيعة للوقت ويبعث على الإحباط. في المقابل، إن تلك المعلومات مِلك للجمهور ويجب أن تكون متوفرة للجميع، إلى جانب [نصوص] الأحكام ومحاضر المحكمة أو تسجيلاتها (التي يمكن الحصول عليها اليوم لقاء رسوم عالية للغاية) بشكل بديهي، على غرار الحال في عدد من الدول الأخرى. وبطبيعة الحال، لابد أن يكون هناك غموض قبل توصل هيئة المحلفين إلى قرارها. لكن، بكل الطرق الأخرى، يؤدي الافتقار إلى الانفتاح إلى حصرية الحصول على المعلومات عن العملية القضائية، ضمن  مجموعة مختارة.

وإذ لا نزال في مجال العدالة المفتوحة، أو بالأحرى المغلقة، أود أن أضيف مؤسسة التحقيق العام التي ليست عامة بالمقدار الذي تظنونه.  لماذا أعيدت تسمية التحقيقات العامة في تسميم ألكسندر ليتفينينكو (جرى في 2016، بعد تسع سنوات من الحدث)، وفي تفجير "مانشستر أرينا" (ما زال مستمراً) ، وفي مصرع داون ستورجيس (التحقيق الوحيد الذي يلاحق عملية التسميم التي شهدتها "سالزبوري"، مع ملاحظة أن أبكر موعد لانطلاقه سيكون في 2023)؟ يتمثل السبب الأساسي في إبقاء قطاعات معينة من المعلومات خارج المجال العام.

بالتالي، يقصد مما سبق أن الأدلة كلها يجب أن يجري الاستماع إليها  في تحقيق ما، بصورة علنية (وبسرعة أيضاً). أما في التحقيق العام، يمكن الاستماع إلى الأدلة التي تعد حساسة وراء أبواب مغلقة بإحكام، وفي بعض الأحيان، من قبل القاضي رئيس المحكمة وحده. ماذا يقول ذلك عن استخدام كلمة "عام"، كما في عبارة "تحقيق عام"؟ كيف يمكن تحديد قيمة الاستنتاجات التي تخلُص إليها عملية لا يرى جزء كبير منها ضوء النهار على الإطلاق، على غرار التحقيق في حالة ليتفينينكو. ما مدى انفتاح العدالة البريطانية؟ ما مدى انفتاح المعلومات في المملكة المتحدة؟

 واستطراداً، فحيثما جرى توسيع نطاق الوصول إلى المعلومات في السنوات الاخيرة بهدف الوصول به تقريباً إلى المستوى الموجود فعلاً في دول أكثر انفتاحاً كألمانيا وهولندا ودول بحر البلطيق، تكون كل أشكال العقبات مستمرة في اعتراض طريقه، وبالتأكيد لاتوجد أي إرادة في تغيير تلك الأمور. في الواقع، سجل توني بلير الذي كان "قانون حرية المعلومات" سنة 2000 من بنات أفكاره، موقفاً رسمياً معلناً بعد عقد من الزمن أعرب فيه عن ندمه بمرارة لسن ذلك القانون، الذي فتح نافذة غير مرغوب فيها على المناقشات الحكومية، وبات يستعمل ليس من قبل "الناس"، بل، يا ويلاه، من جانب الصحافيين الذين حولوه سلاحاً في أيديهم. 

لذا، بطبيعة الحال، لقد بُذلت جهود من أجل مزيد من التكتم. إن الحيل  التي تستعملها الوزارات لتفادي الاجابة على طلبات الحصول على معلومات الموجهة اليها بموجب "قانون حرية المعلومات"، تشهد ازدياداً بمقدار الضعف سنوياً. وجاءت آخر تلك الحيل متمثلة في "بيت التصفية" الذي أنشأته رئاسة الوزراء من أجل تجميع الطلبات مركزياً والتأكد من أصحابها. واستكمالاً، تتمثل الحقيقة في أن المملكة المتحدة تتكتم على عدد من مجالات المعلومات، سواء مع "قانون حرية المعلومات" أو من دونه. وهذا ما تفعله مع مناقصات الأشغال العامة، والامتثال للتشريعات (على غرار قضية برج غرينفيل، ومن لايعرف عنه؟)، وأي شيء يعد متعلقاً بالأمن، ولقد بقيت تلك الأمور كلها غامضة بطرق متنوعة للغاية.

مع الوصول إلى هذه النقطة، فلننتقل إلى المبالغات الموسمية، وحفلة "داونينغ ستريت" [مقر رئاسة الوزراء] (وغيرها) أثناء الإغلاق العام لكورونا. أليس من الغريب أنه في بلاد ومدينة تتباهى بالخبطات الصحافية السياسية، استغرق ظهور أوهى الأدلة على حفلات فترة الإغلاق تلك، الشطر الأكبر من سنة كاملة؟ بالتالي، ألا يمكن أن تكون هذه الثغرة العظيمة في تنبه الجمهور إلى ما يجري، على صلة مع العلاقة الحميمة التي تربط بين أجزاء من الماكينة الحكومية وبين بعض الصحافيين، بما في ذلك "قانون الشرف" الذي يحكم المراسلين الذين يعملون في فريق الصحافيين المعتمدين في "ويستمنستر" [مقر البرلمان]؟

حينما اشتغلتُ في واشنطن، كان من المعروف جيداً أن خروج أي من مراسلي البيت الأبيض عن الحدود (من خلال طرح سؤال محرج أو تقديم عرض غير مرغوب فيه)، سوف يعني أنه قد جازف بالتعرض للإقصاء من تلك المجموعة المترابطة بشدة [الصحافيين المعتمدين في البيت الأبيض]،   بالتالي التحول إلى شخص ذي فائدة أقل بالنسبة إلى الشركة الإعلامية التي يمثلها. إذاً، مجدداً، كيف أمكن الاحتفاظ بهذا السر [حفلات فترة الإغلاق] على امتداد 11 شهراً، بل لا يزال العد مستمراً؟

في المحصلة، لقد تأخر الوقت أكثر مما يجب بكثير على  إيلاء الانفتاح وحرية المعلومات في المملكة المتحدة، القيمة الرفيعة التي يتمتعان بها في تلك الدول الأوروبية المتعددة التي شهدت مصادرتهما على مدار سنوات طويلة. قد يكون لدينا تاريخ طويل في الحريات والحقوق، لكن هناك حالياً عدداً من الدول، حيث المحاكم والوزارات والعمليات السياسية أكثر انفتاحاً بكثير من حالها عندنا. بالتالي، فمن شأن التخلي عن التباهي والاعتراف بأنواع الخلل التي نعاني منها، أن يكون الخطوة الأولى في اللحاق بالركب.

© The Independent

المزيد من آراء