Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"كرسي الرئاسة" لكارلوس فوينتيس تعيد الاعتبار إلى أدب الرسائل

الرواية تطرح أسئلة الكاتب الشائكة حول جدوى الديمقراطية في مجتمعات متخلفة

كارلوس فوينتيس: أسئلة شائكة حول السياسة والديمقراطية (غيتي)

قد يحدث كثيراً للواحد منا في أيامنا هذه أن يسأل نفسه بدهشة عما يفعله هذا الشخص، وهو يرى ساعي البريد لا يزال قادراً على التجوال في حيه وهو يوزع الرسائل على بعض البيوت التي لا تزال مصرة على تلقيها، على الرغم من كل التكنولوجيات التي تكاد تجعل هذا النوع من التواصل المكتوب بين البشر أثراً من الماضي. فالرسائل صارت أكثر اختصاراً بكثير من ذي قبل في وجود الحاسوب وبريده الإلكتروني، ومن بعده الهاتف الخليوي ورسائله السريعة وما شابه ذلك. ويقيناً أن هذا الموت المعلن للرسائل الورقية، في خضم التغيرات الهائلة التي تعيشها مجتمعات العالم وأفراده، تعلن في الوقت نفسه موت نوع أدبي كان يُحتضر على أية حال منذ زمن بعيد. بل منذ ما لا يقل عن قرن من الزمن، وهو بالتحديد هنا الأدب الروائي الذي يقوم على أساس تبادل الرسائل. ونعرف أن هذا الأدب قد خبا بريقه بعدما عرف أزمنة مجيدة في القرن التاسع عشر عبر أعمال حملت تواقيع الفرنسي ديدرو، أو مواطنه مونتيسكيو، والألماني غوته، والإنجليزي ريتشاردسون، ولاكلو في كتابه المثير "العلاقات الخطرة" كي لا نذكر سوى الأشهر بين تحف ذلك النوع الأدبي. فإذا كان الوضع كذلك كيف يمكن لكاتب معاصر يعيش فورة التقنيات الحديثة أن يكتب رواية من هذا النوع دون أن يبدو وكأنه يعيش خارج الزمن؟

قطيعة أميركية

هذا السؤال أجاب عنه بصورة عملية عند بدايات الألفية الجديدة الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتيس، حين أصدر واحدة من أكثر رواياته جرأة وتسيساً تحت عنوان "كرسي الرئاسة" (مع أن العنوان يترجم حرفياً بـ"كرسي النسر" وهو الاسم الرسمي لمركز الرئاسة الأولى في البلد المعني). ولقد كانت تلك واحدة من آخر الروايات التي أصدرها الكاتب الملقب "بلزاك المكسيك" انطلاقاً من غوصه في أدب واقعي غالباً ما أتى مسيساً، ولكن أيضاً انطلاقاً من حذوه حذو ذلك الكاتب الفرنسي الواقعي الكبير في جمعه رواياته تحت عنوان واحد ضمها جميعا هو "عمر الزمن" تيمناً بما فعله بلزاك في "الكوميديا الإنسانية". بيد أن التماثل بين الكاتبين يتوقف هنا. فكيف كانت استجابة فوينتيس للتحدي التكنولوجي؟ ببساطة جعل صراعاً على النفوذ والنفط يندلع في عام 2020 بين واشنطن التي تحكمها الآن (أي في زمن مستقبلي بالنسبة إلى عام إنجاز الرواية وصدورها، 2005) كوندوليزا رايس، وبين المكسيك التي يحكمها كالعادة في تلك المنطقة من العالم، رئيس وطغمة فاسدان، وتتهيأ الآن لانتخابات رئاسية جديدة تثير غيظ الأميركيين، فيقطعون عنها كل وسائل التواصل التقني، ما يعيدها إلى زمن الرسائل المكتوبة المتبادلة. وبهذا يستعيد فوينتيس زمن البريد المعتاد في وقت يضع قارئه في قلب الصراع الشمالي – الجنوبي في القارة الأميركية. غير أن هذا ليس هو المهم هنا.

حكاية متعددة السمات

المهم هو تلك الحكاية السياسية الجنسية العاطفية الاجتماعية التي تروي لنا في سبعين رسالة متبادلة بين الأطراف العديدة التي تبدو عشية الحملة الانتخابية الرئاسية، معنية باللعبة السياسية في بلد لا يتوانى الكاتب عن تصوير الفساد والتطلعات والمؤامرات التي تحاك فيه وتبرز من خلال الرسائل التي قد نجد بين كتابها ومتبادليها من يصورهم الكاتب أقل فساداً من آخرين، لكننا سرعان ما سندرك أن أولئك الفاسدين كانوا قبل وصولهم إلى السلطة في أزمنة سابقة أقل فساداً من الفاسدين، ما يضعنا أمام حقيقة لا يتردد الكاتب دون التعبير عنها، وهي أن الفساد في مثل هذه البلدان جزء من أخلاقيات عامة، وأن اللعبة السياسية نفسها تفترض وجوده بصرف النظر عن أخلاقيات خائضيها. ومع ذلك ليس من السهل الاستنتاج هنا بأن السياسة في منتهى أمرها تعني الفساد والوقوع في فخه. فمقاومة ذلك السقوط لا تغيب بالطبع، ولكن ليس بالقدر الذي ينقذ السياسة من ذلك الإنحطاط الموعود. وهنا لا بد من أن نفتح هلالين أيضاً لنؤكد أن فوينتيس إذ ينطلق من التشديد على وقوف واشنطن ضد السلطة الحاكمة "الآن" في المكسيك، لا يجب أن يعني أن الولايات المتحدة تقف ضد الفساد هناك، بل فقط ضد الحكام الفاسدين وقد بدأو يفلتون من سلطتها للمجيء بمن يمكنهم أن يكونوا في حاجة إلى دعمها. وتلك هي كما يؤكد لنا فوينتيس في هذه الرواية، كما في عدد كبير من نصوصه السابقة، الروائية وغير الروائية، لعبة الأمم التي تُلعب في نهاية الأمر خارج الأبعاد الأخلاقية.

لعبة جماعية

هو أمر يقوله لنا فوينتيس هنا على لسان الأشخاص الذين يلعبون أدوارهم في المعمعة سواء كانوا من علية القوم، من الرؤساء السابقين أو الوزراء الحاليين أو رجال الأعمال المستفيدين او المتطلعين إلى تغييرات تفيدهم، ولكن أيضاً من أدنى السلم الاجتماعي من بسطاء ومتوسطي الحال. واللافت هنا أن الدور المحوري في تلك الرسائل إنما يسنده الكاتب إلى شخص يتخيله وسيطاً بين المستويين، شاب من العامة يوصله طموحه وذكاؤه إلى مكان شديد القرب من قمة السلطة في القصر الجمهوري، حيث سدة الرئاسة، كما إلى ارتباط سيبدو بالتدريج شديد الالتباس بالرئيس السابق الذي قد يبدو لنا أقل سوءاً من زميله الحاكم الآن، الذي إذ لم يعد يحق له أن يترشح، يتدخل في اللعبة كي يتمكن من الحفاظ على مكاسبه. ومن خلال الرسائل المتبادلة بين أفراد هم داخل اللعبة تماماً ويلجأون إلى البوح في مراسلاتهم كي يدلي كل واحد منهم بما عنده، ما يشكل المجموع نوعاً من لعبة كلمات متقاطعة لا تتخذ معانيها الحقيقية إلا في مجموعها. ولئن كان ذلك الشاب الوسط بين العالمين وهو المستشار نيكولاس بالديبيا يقدم لنا منذ الرسالة الأولى التي تبعث بها إليه الفاتنة ماريا ديل روزاليو غاليان، لاعباً أساسياً في ذلك المعترك، فإن ماريا هذه تكاد تكون مساوية له في الأهمية، هي التي تمارس اللعبة السياسية بشكل مدهش مستخدمة في ذلك كل ما لديها من نفوذ وحيلة يستندان إلى سحرها الأنثوي، ولكن كذلك إلى علاقاتها غير المحدودة. ومن هنا سنجد إن أحصينا الرسائل وصنفناها أن أكثريتها هي من وإلى نيكولاس ومن وإلى ماريا، كما حال الرسالة الأولى التي تضعنا في قلب اللعبة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الغائب الكبير

غير أن هناك عدداً من لاعبين آخرين يتبادلون الرسائل في ما بينهم ويخبرونا بالتالي بما يحدث. ويتبادلون الرسائل مع ماريا ونيكولاس سعياً وراء دعم هم واثقون من أنهم لن يحققوا مآربهم إن لم يتوفر لهم. فاللعبة تلعب هنا في النهاية، في العلاقات وضروب الإقناع والوعود. وفي خضم ذلك كله ينسينا الكاتب بمهارته وعمق إدراكه لمجريات اللعبة السياسية في بلده، أن ثمة هنا غائباً أكبر، قد لا يبدو أكثر من طيف يحوّم في فضاءات الرواية، ولكن خارج القصر الجمهوري ومكاتب الصحف ومجلس النواب والوزارات وحتى خارج الدارات الكبيرة الفخمة. وهذا الغائب الذي لن نتذكره إلا بعد أن نطوي الصفحات الأخيرة من الرواية ليس في حقيقته سوى ذلك الشعب الذي يكمن وجوده كطيف محلق فوق كل التوقعات والقرارات والاستنتاجات، في كون هو، بعد كل شيء من تقوم مهمته فيه على صنع المطر أو الطقس الصحو، إنه الشعب الذي يفترض أنه من سيصوت في النهاية وسيختار اللاعبين الفائزين واللاعبين الخاسرين. ومع ذلك من الواضح أن ليس ثمة في سياق الرسائل، وفي المواقف والتشابكات التي توصف في الرسائل، من يعبأ به حقاً أو يهتم لأمره. فاللاعبون هنا يتحركون ويتكاتبون، وكأن اللعبة تدور في عوالمهم فقط. ومن الواضح أن كارلوس فوينتيس بتركيزه على هذا الواقع إنما يطرح ذلك السؤال الذي لم يتوقف عن طرحه في رواياته ومواقفه حول ما إذا كان علينا أن نؤمن حقاً بالديمقراطية وجدواها في مناطق من العالم يسود فيها الجهل والأمية والفقر. وذلك هو بيت القصيد في رأيه!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة