Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مأساة الأندلس في مرايا "الملهاة الأخيرة" الإماراتية

حصدت المسرحية التاريخية جائزة السينوغرافيا في مهرجان القاهرة التجريبي

من المسرحية الإماراتية "الملهاة الأخيرة" (الخدمة الإعلامية)

في عرض "الملهاة الأخيرة"، الذي قدمته فرقة جمعية دبا الحصن الإماراتية ضمن عروض المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، في دورته الثامنة والعشرين، لسنا بصدد رواية تاريخية عن سقوط غرناطة، آخر ممالك المسلمين في الأندلس، ولسنا أيضاً بصدد عرض تقليدي، بكائي، كعادة العروض التي تتناول تلك القصة الموجعة.

العرض، الذي حصد جائزة أفضل سينوغرافيا لمخرجه ومعده كريم مهند، وحصل أحد ممثليه، أحمد أبو عرادة، على شهادة تقدير عن أدائه التمثيلي، استحق أن يكون ضمن عروض المسابقة الرسمية، ذلك أن صناعه كانوا واعين أن التجريب لا يعني نسف العلاقة تماماً- كما يحدث في عروض كثيرة- مع الجمهور. بل إنهم ورطوا الجمهور في الحدث، من خلال المرايا العاكسة التي استخدموها، خصوصاً في المشهد الختامي حين رأى الجمهور نفسه في هذه المرآيا. ولعلها رسالة إلى هذا الجمهور تقول انتبهوا فنحن جميعاً مشاركون في الأزمة، كما تم استخدام المرايا في كشف شخصيات العرض وتعريتها.

ولعل استدعاء قصة ضياع الأندلس لم يأت مجانياً باعتباره حدثاً تاريخياً وانتهى الأمر. فالاستدعاء هنا ليس أكثر من حيلة فنية للإسقاط على الحاضر، وطرح قضايا سياسية ودينية بجرأة شديدة. وحتى هذا الطرح لم يأت عبر الصراخ وإطلاق المقولات الرنانة، بل جاء عبر أداءات شديدة الرهافة، وربما شديدة الخبث، ليس هرباً من رقابة ما، بقدر ما هو استجابة لشروط الفن.

في السياسي ثمة إشارات إلى ضرورة الاعتصام بالرعية وعدم الانسياق وراء الحاشية، خصوصاً الفاسدين منها والساعين إلى تحقيق مآربهم الخاصة على حساب الدولة، أي دولة. وفي الديني نقد واضح للفهم الخطأ للدين. وهكذا مضى العرض في بث رسائله بوسائطه الفنية الذكية، التي أحدثت جروحاً كثيرة من دون أن تسيل قطرة دم واحدة كما يقولون.

تركة ثقيلة

العرض تناول حالة الضعف العامة التي اعترت دولة "أبو عبد الله الصغير" الذي اضطر لتسليم غرناطة إلى عدوه الإسباني، تحت زعم أن الضعف الذي اعترى الدولة إنما هو تركة مثقلة أورثه إياها أسلافه، لينتهي الأمر بمقامرة على لعبة شطرنج تجعل ملك إسبانيا يفك حصاره عن غرناطة في مقابل جزية يدفعها له أبو عبد الله الصغير، والاستعانة بجند إسبان لحمايته الشخصية. وهو ما يؤلب عليه العامة لتنتهي بذلك دول العرب في الأندلس بعد ثمانية قرون من الازدهار. وقد اعتمد المخرج على نصي "الحريق" لقاسم محمد، و"ثلاثية غرناطة" لوليد سيف، فضلاً عن بعض القصائد الصوفية، وأغنية "أنت عمري" لأم كلثوم، كخلفية لبعض الأحداث، وقصيدة نزار قباني "غرناطة" التي تأتي بعض أبياتها على لسان أبي عبد الله الصغير: "قالت هنا الحمراء زهو جدودنا...

هو هنا لا يقدم أحداثاً بحذافيرها استقاها من كتب المؤرخين، بل يقدم وجهة نظره في تلك الأحداث. فأبو عبد الله الصغير يفتتح العرض مخاطباً الجمهور بقوله: "قررت أن أروي الأحداث كما أراها أنا، لا كما ترونها أنتم، لأزيح الثقل عن كاهلي، لم أصنع هذا العجز بنفسي، لقد ورثته كابراً عن كابر، فلماذا أتحمل أخطاء الآخرين؟". وكأن العرض يطلب منا، منذ البداية، لا أن نتعاطف مع أبي عبد الله، ولكن أن ننظر بعمق في السياقات التي أوصلته إلى ما وصل إليه، إلى تاريخ الأجداد الذي لم يكن بأي حال من الأحوال، ناصعاً على طول الخط، تاريخ الصراعات والمؤامرات والخيانات والتواكل والقهر وإهمال الرعية، ما أدى في النهاية إلى ضياع الأندلس بكاملها.

أداء واع

ضم العرض أربعة ممثلين نبيل المازمي (أبو عبد الله الصغير)، أحمد أبو عرادة (البهلول والملك فيرناندو الأول)، ومحمد قاسم، وزين زهير (الخادمان). وحسناً فعل المخرج بإسناده دوري البهلول والملك فيرناندو الأول إلى ممثل واحد، فالأمر هنا لا يتعلق بندرة الممثلين، بقدر ما يتعلق بطبيعة الشخصيتين كما رآهما المخرج. فكلاهما يشبه الآخر، وكلاهما عدو للدولة، كل بطريقته، فهما شخصيتان متطابقتان شكلاً وموضوعاً. كأنه يقول، إن خطورة الحاشية الفاسدة، الخطورة الداخلية، لا تقل عن الخطورة الخارجية، خطورة العدو الواضح والصريح، وهي رؤية ذكية تماماً، أفصحت عن وعي المخرج بطبيعة هاتين الشخصيتين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لعب أحمد أبو عرادة الشخصيتين بتمكن واحترافية وفي أداء هادئ يناسب ما تتسم به الشخصيتان من مكر ودهاء. ورغم التطابق الشديد بينهما، فقد نجح أبو عرادة في الفصل بينهما بالحركة والإيماءة وطريقة النطق، وكأننا أمام ممثلين اثنين يلعب كل منهما إحدى الشخصيتين. ولذلك لم يكن غريباً حصوله على تقدير لجنة التحكيم.

أما الخادمان اللذان لم ينطقا بكلمة واحدة طوال العرض، الذي استغرق ساعة كاملة، فقد جاء أداؤهما الحركي المتقن والرشيق بمثابة المحرك للأحداث حيناً، أو المعادل الموضوعي لها حيناً آخر. وهذه أيضاً واحدة من علامات ذكاء المخرج ومنحاه التجريبي الذي وسم العرض وجعله يمزج بين الحوار والمونولوغ والأداء الحركي، بشكل يجعل كل عنصر يضيف إلى الآخر، ويدفع الدراما إلى الأمام بطريقة فيها قدر كبير من الاختزال والتكثيف. فلا شيء مجانياً في العرض، ولا شيء يشكل عبئاً على الدراما، أو يبعث على الملل.

ديكور بسيط

لم يستخدم المخرج في ديكوراته كتلاً ضخمة أو ينثر على الخشبة قطعاً تعيق حركة الممثلين. فالخشبة عارية تماماً، إلا من بانوهين يتم تحريكهما، على عجل، بواسطة الممثلين، وفقاً للأحداث، والبانوهان، أو الإطاران، يحتويان مرايا وألواحاً زجاجية. والفضاء كله مصوغ وكأنه مشهد لغروب الشمس، شمس الأندلس، وكأننا في حالة انهيار أو ضياع، في حالة برودة شديدة، توحي بها إضاءة عبد الله الهادي التي جاءت في أغلبها قاتمة وشبحية، ووظفت الظل والنور بإتقان واضح. وثمة أدخنة أو بقايا أدخنة تتصاعد كأننا بالفعل في الرمق الأخير، نلملم بقايا أشلائنا.

ميزة عرض "الملهاة الأخيرة"، الذي يفصح عن تطور الحركة المسرحية في دولة الإمارات، وقدرة المسرح الإماراتي على المنافسة في مهرجانات دولية، أن كل عنصر كان في مكانه الصحيح، وكل عنصر تم اختياره بدقة. ورغم مزج هذه العناصر معاً، وجعل بعضها يعمل بالتوازي مع غيره، لا بالتوالي، فقد اتسم العرض بقدر عال من السلاسة، ولم تحدث ارتباكات تخل بإيقاعه.

"الملهاة الأخيرة" عرض موجع في رسالته، بليغ في جمالياته، جريء في طرحه، واع في تجريبه، استحق حفاوة الجمهور به، واستحق ما ناله من تقدير لجنة تحكيم المهرجان.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة