على الرغم من أنه لم يتبق سوى أسبوع واحد على حلول السنة الجديدة، لكن تداعيات المشهد السياسي في السودان ألقت بظلالها على ميزانية عام 2022، إذ لا تزال في حكم المجهول والمصير نظراً لغياب حكومة تنفيذية نحو شهرين، وتحديداً منذ 25 أكتوبر (تشرين الأول) عندما أعلن قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان حالة الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء بسبب خلافات بين المكونين العسكري والمدني اللذين يحكمان البلاد في إطار شراكة بموجب وثيقة دستورية وقع عليها الجانبان في 17 أغسطس (آب) 2019.
فما التوقعات بشأن هذه الميزانية والتحديات التي ستواجهها في ظل تعقيدات الوضع السياسي، وما مصادر إيراداتها الحقيقية نظراً لتوقف المساعدات الدولية بسبب الإجراءات الأخيرة التي اتخذها البرهان باعتبارها انقلاباً على الشرعية الدستورية في البلاد؟
تساؤلات وسيناريوهات
يشير أستاذ الاقتصاد في الجامعات السودانية عبد العظيم المهل، إلى أن "ما يحدث الآن من ضبابية وعدم استقرار في المشهد السياسي بالبلاد ينعكس سلباً على الجانب الاقتصادي وعلى وجه الخصوص على الميزانية المقبلة، وبلا شك ستكون ميزانية مضطربة وغير واضحة المعالم والأهداف، فضلاً عن عدم وضوح مواردها الحقيقية، بالتالي ليس أمام المعنيين بها خيار غير وضع ميزانية قائمة على سيناريوهات محددة، فهذه الميزانية كان من المفترض البدء في إعدادها في وقت مبكر تحديداً منذ سبتمبر (أيلول) الماضي، لكن للأسف لم يحدث ذلك، إذ لم يتم تشكيل الوزارة الجديدة حتى هذه اللحظة على الرغم من الاتفاق الذي أبرم في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) بين رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وهي الجهة المعنية بوضع الأسس والموجهات العامة لميزانية العام المقبل، بيد أنه لا يمكن لوزير المالية الحالي الذي لم يتم إعفاؤه من منصبه بموجب قرارات البرهان الأخيرة توجيه هذه الميزانية وإذا فعل ذلك ستكون ميزانية منحازة تماماً".
وأضاف، "هناك تساؤلات عدة تحتاج إلى إجابة قبل إعداد هذه الميزانية، وهي أين ذهبت أموال رفع الدعم الخاص بالسلع التي تم تحريرها بخاصة الوقود وكم كان حجمها، وأين صرفت، وما واجبات هذه الميزانية؟ ففي الحقيقة هذه الميزانية جاءت في ظل ظروف ووقت بالغي التعقيد، كما أن ميزانية العام السابق شهدت تعديلاً أكثر من مرة، ولم تصدر أي بيانات توضح مسارها، بالتالي هناك شح في المعلومات عن الوضع الاقتصادي بشكل عام، في وقت أن الميزانية تعتمد في الأساس عند بنائها وإعدادها على المعلومات الصحيحة والحقيقية، وهذا غير متوافر".
فجوة غذائية
ورأى المنهل، "أن الموارد الذاتية فقط غير كافية لتسيير دولاب الدولة، فالسودان يحتاج إلى دعم خارجي لكي ينهض اقتصادياً، ناهيك عن أن تقارير الأمم المتحدة تشير إلى أن 14.3 مليون سوداني من أصل 47.9 مليون يمثلون حوالى 30 في المئة من سكان البلاد سيحتاجون لمساعدات غذائية خلال عام 2022 بزيادة 800 ألف عن العام الحالي، كما لم يعلن حتى الآن السعر التركيزي للقمح، لذلك ستكون الفترة المقبلة عصيبة، كذلك من الصعب الاعتماد على الموارد الذاتية في ظل مطالبة موظفي الدولة بزيادة رواتبهم لأنها لا تتناغم مع مستوى الدخل والمعيشة، فهناك فارق كبير بينهما، إذ يصل الحد الأدنى للأخيرة إلى 200 ألف جنيه (400 دولار) في الشهر، مما يصعب تعويض هذا المبلغ، بالتالي ستكون هناك ضغوط كبيرة على الميزانية الجديدة منها أيضاً ضغوط سكان الأقاليم بخاصة شرق السودان، إلى جانب احتياجات عملية السلام التي كان يفترض تمويلها من المساعدات الخارجية".
وخلص أستاذ الاقتصاد، إلى "أن الوضع الاقتصادي في البلاد من دون عودة الدعم والمساعدات الدولية سيكون صعباً للغاية، بل قد يشهد انهياراً حقيقياً في ظل وضع ديمقراطي يشهد توترات متواصلة من ناحية الاحتجاجات والتظاهرات، فضلاً عن كشف مفارقات الأجور بين المؤسسات الحكومية".
صدمة جديدة
في السياق، يوضح المحلل الاقتصادي محمد الناير أن "الوضع الاقتصادي في السودان متأزم للغاية بسبب عدم الاستقرار السياسي وما تشهده البلاد من اضطرابات، لذلك تأتي الميزانية الجديدة في ظروف بالغة التعقيد، فالمشهد الآن غير واضح من قبل الدولة، حيث لم تعلن حتى الآن وزارة المالية الميزانية المقترحة لعام 2022، التي يجب أن تكون خلال هذه الفترة عرضت على وسائل الإعلام وعلى الجهات ذات الصلة مثل اتحاد أصحاب العمل واتحاد المصارف وغيرها، حتى يكون هناك نوع من المشورة حول السياسات التي تتضمنها هذه الميزانية، إذ صدر فقط تصريح من وزير المالية يشير إلى أن هناك بشرى بزيادة الأجور لموظفي الدولة من دون توضيح حجمها، لكن في نظري أن أي زيادة حتى لو بلغت نسبة 100 في المئة لن تكون مجدية إذا لم تكن قائمة على دراسة واقعية وحقيقية للوضع الاقتصادي والمعيشي في البلاد، لأن غالبية شرائح المجتمع تعاني الانعكاسات التي سببتها سياسات صندوق النقد الدولي برفع الدعم عن بعض السلع، وكذلك زيادة سعر الدولار الجمركي".
وأوضح "أن هناك أخباراً رشحت بأن الدولة تتجه إلى رفع الدعم عن الخبز والكهرباء وسيشكل هذا الإجراء، إن صح، صدمة جديدة للمواطن السوداني، فهو لا يستطيع أن يتحمل أي أعباء أخرى مثلما تحمل خلال العامين الماضيين، إضافة إلى ذلك نجد أنه خلال هذا العام لم نشهد تقديم أي تقارير عن أداء ميزانية 2021، كما هو متعارف عليه بأن تكون هناك تقارير ربع سنوية حتى يطمئن عامة الناس على سير الأداء من ناحية الإيرادات وضبط الإنفاق، وهل كان هناك انحراف أم التزام بالمواجهات التي تم وضعها خصوصاً في جانب المصروفات؟". لافتاً إلى "أن التحديات الأخرى المتمثلة في تنفيذ اتفاقية جوبا للسلام بخاصة مسألة الترتيبات الأمنية وما يصاحبها من عملية اندماج قوات الحركات المسلحة في المؤسسة العسكرية من أجل تكوين جيش قومي واحد، فضلاً عن تردي الخدمات الضرورية أمام المواطنين، وارتفاع فاتورة الخدمات الصحية والتعليمية والمياه التي أصبحت عصية على السواد الأعظم من المواطنين في ظل عدم جودتها بالشكل المطلوب مقابل تكاليفها".
عدم شفافية
وتابع الناير، "ما يؤسف أيضاً أنه تم خلال هذا العام تعديل موازنة عام 2021، لكن لم تعلن أي أرقام، ولا أي تقرير عن سير أدائها ومسارها وما جرى حولها، ما يؤكد عدم الشفافية. وهو المطلوب حالياً في ظل هذا الوضع المعقد، خصوصاً أننا شارفنا على دخول السنة الجديدة ولم تشكل الوزارة الجديدة بعد، وكان من المفترض أن تكون الميزانية الجديدة جاهزة من كل النواحي ليتم إجازتها فقط، بالتالي فإن هذا التأخير سيربك المشهد العام، وبلا شك ستواجه الحكومة مشكلة حقيقية، إضافة إلى تحديات المجتمع الدولي ومتى ستكون عودته".
ونوه المحلل الاقتصادي، إلى "أنه من الممكن الاعتماد على الموارد الذاتية في الميزانية الجديدة، لكن هذا يتطلب تفعيل الجانب الضريبي من خلال إدخال كل فئات المجتمع المتهربة من هذا النشاط في المنظومة الضريبية ورفع عملية التحصيل الضريبي، فضلاً عن سرعة إنشاء بورصة الذهب التي من شأنها تنظيم هذا القطاع الحيوي والحد من عمليات التهريب، إضافة إلى الاهتمام بشريحة المغتربين واستقطاب تحويلاتهم من خلال مخاطبة قضاياهم والتعرف على احتياجاتهم وتلبيتها بالسرعة المطلوبة وفق آليات مرضية".
اختلال الميزان
في المقابل، قال الباحث الاقتصادي هيثم محمد فتحي، "بات الاختلال أمراً واقعياً وطبيعياً في الاقتصاد السوداني ولم يعد عارضاً مخالفاً للعادة، بل أصبحت العادة أن يكون هناك خلل، إذ تظهر مشاکل هذا الاقتصاد عبر الميزان التجاري فهو أصدق مؤشر على حالة الاقتصاد، فكلما انخفض الاختلال فيه زادت الثقة في الاقتصاد وانتعشت الصناعة وقلة البطالة، وجاءت الاستثمارات، وارتفع الدخل، وثقلت العملة، وانخفض التضخم، وارتاح المواطن، وكلما ارتفع الاختلال حدث العكس تماماً".
وزاد، "نعيش الآن في السودان العكس تماماً فالصناعة تنحدر، والبطالة ترتفع، والاستثمارات تهرب، والتضخم يشتعل، والعملة عند أدنى مستوى في تاريخها، والأسعار أعلى ما يكون، والمعاناة تطال الجميع، ويرجع كل ذلك ببساطة لأن الميزان مختل، فالميزان التجاري لدينا يعاني عجزاً يتفاقم يوماً بعد يوم، حيث تواصل الصادرات هبوطها الحاد، بينما تحلق الواردات بعيداً، والمواطن يدفع الفاتورة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار فتحي إلى "أهمية أن يكون الدعم الحكومي مرحلة انتقالية يتم خلالها رفع الدعم تدريجياً بما يتناسب مع التحسن في مستوى الأجور من خلال سياسة إصلاح اقتصادي شامل توفر شبكة ضمان اجتماعي لحماية الفئات الفقيرة مع تحميل الفئات القادرة ضرائب تناسب مستوى دخولهم"، مشدداً "أن قرار رفع الدعم المتوقع عن الخبز سيكون له آثار تضخمية كبيرة، وتوقع أن يرتفع سعر الخبز ما بين ضعف إلى ثلاثة أضعاف".
حلول عاجلة
وأضاف الباحث الاقتصادي، "إذا استقر الاقتصاد استقرت الأوضاع السياسية والعكس تماماً، والآن نعاني ارتباك المشهد السياسي والاقتصادي معاً، ومن ثم انعكاس ذلك على كافة أوجه الحياة وقد يزيد المشهد خطورة إذا لم تكن هناك حلول عاجلة بعيدة عن الوعود التي لم نجن منها شيئاً، وبعيدة كذلك عن رفع دعم ما تبقى من السلع".
وأوضح، "أن السودان يحصل سنوياً على مساعدات ومنح خارجية سخية كان من المفترض استغلالها في تعزيز إصلاح الاقتصاد والإدارات الحكومية. غير أن واقع الحال بخاصة مع تبدل الحكومة كل سنة فوت فرص الإصلاح الاقتصادي والإداري، الأمر الذي أضعف كفاءة مؤسسات الدولة وترك الفساد والمحسوبيات والبيروقراطية تنخر أكثر فأكثر في بنيانها". محدداً مشاكل الاقتصاد السوداني "في البطالة التي تجاوزت نسبتها 24 في المئة، والعجز المالي الإجمالي، والمديونية الإجمالية من الناتج المحلي، وتراجع النمو الاقتصادي ودخوله في مرحلة الانكماش".
ومن التحديات التي تواجه القطاع المالي تراجع التحويلات الخارجية، سواء من العاملين بالخارج، أو الصادرات أو الاستثمار الأجنبي، وهو تحد يتطلب سياسات وإجراءات حقيقية لمعالجة آثاره، واسترداد عافيته. كما تسببت الأزمات الاقتصادية وحالة التراجع المستمر التي انتابت المؤشرات الاقتصادية، في تراجع مستمر لمستويات المعيشة بالسودان. وتشير بيانات منظمة الأمم المتحدة إلى أن نحو 46.5 في المئة من السكان يعيشون دون خط الفقر الوطني، وأن نحو 52.4 في المئة منهم يعيشون في فقر متعدد الأبعاد.
ولفت فتحي، إلى "أن أولويات الحكومة تختلف عن المواطن حيث تركز جهدها على قضايا السلام والأمن والحركات المسلحة، والرضا السياسي ويتم الصرف على هذه البنود بشكل أعلى من الصرف على الخدمات"، موضحاً "أن الحكومة الانتقالية في حاجة لمساعدات كبيرة وعاجلة من العالم الخارجي، سواء من منظمات اقتصادية دولية، كصندوق النقد والبنك الدوليين، أو من الدول الأخرى، حيث ليس من المتوقع أن تتمكن من إنجاز مهامها الثقيلة تلك من دون ذلك".
زيادة الأجور
وفي وقت سابق أعلن وزير المالية والتخطيط الاقتصادي السوداني جبريل إبراهيم عن زيادة في الأجور للعاملين بالدولة خلال الموازنة المقبلة، مؤكداً أن "الزيادة ستكون حقيقية لن تبلعها السوق، والوزارة لن تلجأ إلى الاستدانة من البنك المركزي أو طباعة الورق كما كان يحدث في عهد النظام السابق، مما أضر بالاقتصاد الوطني".
ودعا الشعب السوداني إلى "ربط الأحزمة على البطون والاعتماد على الجهد والإنتاج"، وأوضح، "أن الإيرادات الحالية تفي بالأجور وتسيير دولاب الدولة وما فاض سيذهب إلى التنمية. فيما أعرب عن أمله أن يكون العجز في الميزان التجاري صغيراً لا يتجاوز 1.5 في المئة على أكثر الحالات".
ووصف إبراهيم الموازنة الجديدة بالواقعية من خلال اعتمادها على الموارد الذاتية، وفي حال وصول أي دعم خارجي سيتم توجيهه نحو المشروعات التنموية. متوقعاً "أن يكون الصادر أكبر بكثير عن العام الماضي بخاصة في محاصيل القطن والفول السوداني والسمسم، حيث تشير التوقعات إلى إنتاج وفير من شأنه مساعدة الاقتصاد السوداني لخلق توازن في الميزان التجاري وخفض ميزان المدفوعات والمحافظة على استقرار سعر الصرف".
وأشار إلى "أن واشنطن قامت بقطع 700 مليون دولار من المساعدات الطارئة، بينما لم تصل أبداً 500 مليون دولار من الدعم المباشر للميزانية الذي كان متوقعاً وصولها أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) من وكالات التنمية، كما لم يتم الحصول على 150 مليون دولار أخرى مما يسمى حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي".
وأضاف وزير المالية السوداني، "ليس لدينا ضمانات حتى هذه اللحظة بأن المجتمع الدولي سيدعم المرحلة الانتقالية في السودان، وقد نحاول التحدث معه لكننا نتطلع إلى الأمام ومتفائلون للغاية بالحصول على بعض الدعم من الخليج". مؤكداً "أن تشكيل حكومة جديدة، قد يساعد في تمهيد الطريق أمام السودان لاستئناف المحادثات مع البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي ومانحين آخرين لاستئناف المساعدات".