Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سكورسيزي يعود إلى الموسيقى من خلال أكثر "الخنافس" غموضاً

ألحان الشرق تنقذ المبدع من معاناة نتجت من فيلمه الأكثر تعقيداً وإيلاماً

جون هاريسون (غيتي)

لم يكن من المنطقي أن ندع العام 2021 يمر من دون أن نتذكر أنه عام الذكرى العشرين لرحيل واحد من أكثر أعضاء فريق "البيتلز" (الخنافس) الموسيقي الإنجليزي غموضاً: جورج هاريسون الذي يُنظر إليه عادة بوصفه "الأقل شهرة" بين الفنانين الأربعة الذين كان الفريق الأشهر في عالم الموسيقى يتألف منهم خلال تلك السنوات الذهبية في عالمي الموسيقى والغناء وعالم الشبيبة وانتفاضاتها ضد مجتمعات لم تكن لتعبأ بها. فهاريسون رحل عن عالمنا مبكراً في العام 2001 من دون أن يتنبه كثر لرحيله، على عكس ما كان من شأن رفيقه الأشهر في الفريق نفسه، جون لينون الذي حين قتل عام 1980 على يد معجب نكرة في نيويورك، أقام مقتله الدنيا ولم يقعدها. والحال أن التناقض بين هاريسون ولينون كان كبيراً وليس في مجال الشهرة وحدها. ولقد كان على معجبي الاثنين أن ينتظروا فيلماً حققه السينمائي الأميركي الكبير مارتن سكورسيزي عن هاريسون حتى يتمكنوا من تحديد ما يفرق حقاً بين هذين "الخنفسين".

دور فصيح للعناوين

فالمخرج الأميركي الذي عرف باهتمامه بالموسيقى بقدر اهتمامه بمدينته نيويورك وبالمافيا التي تحكمت بجزء من تاريخها، انتهز قبل عشر سنوات من الآن مناسبة مرور 10 سنوات على رحيل هاريسون ليعيد إليه اعتباراً يستحقه وذلك من خلال فيلم تسجيلي يمتد طوال أكثر من ثلاث ساعات ونيف بعنوان "جورج هاريسون: الحياة في عالم مادي". ولم يكن اختيار العنوان اعتباطياً بالتأكيد. ذلك أن صاحب "سائق التاكسي" و"عصابات نيويورك" وصولاً إلى واحدة من تحفه الأخيرة "الإيرلندي"، عُرف دائماً باختياراته العميقة والدقيقة والدالّة لعناوين أفلامه. ومن هنا يبدو لنا طوال مشاهدة الفيلم أن سكورسيزي يعني تحديداً ما يقول، وما يريد أن يقول هنا إن من سوء طالع هاريسون أنه عاش دائماً في عالم مادي لم يكن ليستسيغه على الإطلاق هو الذي تميز عن رفاقه الخنافس الآخرين بنزوعه الصوفي والبعد الروحاني الذي غالباً ما وسم شخصيته وتعامله مع الفن وصولاً إلى الاحتكاك المباشر بالفنون الشرقية ولا سيما الهندية منها بحثاً عن تلك الأبعاد الشرقية يمزجها في موسيقاه وفي حياته مزجاً يكاد يكون تاماً.

الموسيقى في السينما

من جديد، إذا عاد مارتن سكورسيزي في "جورج هاريسون: الحياة في عالم مادي" يغرد موسيقياً. معيداً إلى الواجهة ليس فقط فصلاً من فصول الموسيقى المعاصرة، بل كذلك فصلاً أساسياً من فصول تلك العلاقة الروحية التي رصدها بين الحسّ الغربي والحسّ الشرقي في أنواع عديدة من الإبداعات الموسيقية سادت في تلك "السنوات المباركة" ولكن ليس في أية موسيقى: بل في موسيقى البيتلز هذه المرة. وليس كل موسيقى البيتلز، وليس كل أفراد البيتلز. بل تحديداً موسيقى وحياة ذاك الذي كان يعتبر دائماً أكثر أعضاء فريق ليفربول الغنائي الأسطوري، غموضاً ونزعة روحية. إنه ذاك الذي على رغم عادية اسمه، وربما بسبب عادية اسمه، ننساه دائماً حين نتحدث عن الفريق، لأنه أبداً لم يكن على شهرة بول ماكارتني أو رنغو ستار، أو جون لينون. فجورج هاريسون كان، إلى حد ما، رجل الظل... الأكثر وسامة والأقل صخباً إعلامياً بين أفراد ذلك الفريق الذي ثوّر الموسيقى والغناء خلال النصف الثاني من القرن العشرين، منطلقاً من بدايات في ليفربول تحدّراً من الطبقات العاملة فيها، وصولاً إلى بداية الشهرة العالمية في أحد ملاهي هامبورغ... وها هو سكورسيزي، يعيد فريق البيتلز إلى الواجهة ولكن هذه المرة عبر العضو الرابع: جورج هاريسون. صحيح أن لينون، وكما يؤكد لنا سكورسيزي في الفيلم، كان بطل الفريق والأكثر تمرداً وتسيّساً بين أعضائه، والأكثر نجاحاً بمفرده بعدما فرط عقد البيتلز. من هنا حين قتل عام 1980، ضجّ العالم كله... فيما واصل رنغو حياته بعيداً من الأضواء ليحلق بول ماكارتني في عالم النجومية ويحظى بلقب "سير" من ملكة بريطانيا، ويصبح نجماً حتى في الحياة الاجتماعية ويحظى بالتالي بشيخوخة هادئة.

نوع من احتجاج هادئ

 ونعود طبعاً هنا إلى جورج هاريسون الذي أعطاه سكورسيزي مكانته في فيلمه ليذكر كيف أن من لم يكونوا يجهلون فنه ويعرفون اختياراته الحياتية سيفهمون بسرعة دلالة هذا العنوان وجدليته. فهو يأتي هنا، "احتجاج" على "اضطرار" هاريسون، إلى حد السفر إلى الهند باحثاً عن الحكمة والماوراء وكأن الفيلم يسعى وراء إلهام ينقذه من العيش في عالم المادة الذي لم يشأ أبداً أن يعيش فيه. والفيلم يحكي هذا الواقع... لكنه يحكيه على طريقة سكورسيزي، ما يجعله يبدو، كما رأى كثر من مشاهديه النخبويين على الأقل يوم عرض متأرجحاً كما حال مبدعه بين التوق الروحي والواقع المادي، معبراً عن ذلك في أفلام انطبعت بأبعاد دينية من أبرزها "الإغواء الأخير للسيد المسيح" و"الصمت"، وغيرها من شرائط تأرجحت على الدوام بين مادية الحياة وبعدها الروحي وتحديداً من خلال نظرة مبدع سينمائي. وطبعاً نعرف بالتالي أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يفعل فيها سكورسيزي شيئاً مثل هذا في سينماه، ولا سيما في سينماه الموسيقية... الخالصة، بدءاً من "الفالس الأخير" 1978 عن آخر حفل أقامه فريق "ذا باند"... وصولاً إلى هذا الفيلم الذي يحاول خلاله وصف حياة هاريسون تماماً كما سبق له في فيلمين مماثلين وصف حياة فريق الرولنغ ستون ثم حياة بوب ديلان.

ترياق للنفس آت من الشرق

كان العرض الجماهيري الأول لـ"جورج هاريسون: العيش في عالم مادي" ذات يوم أحد في ذكراه العاشرة في لندن ليتلوه بعد ثلاثة أيام عرض تلفزيوني قدمته الشبكة الأميركية "أتش بي أو" منتجة الفيلم. والفيلم مؤلف من عشرات المشاهد واللقاءات والوثائق التي اشتغل عليها سكورسيزي ومساعدوه بين 2008 و2009، حين كان منهمكاً في إنجاز فيلمه "شاتر آيلاند"... ولم يكن للفيلم أن ينجز لولا تعاون أرملة هاريسون أوليفيا. ولسوف يقول سكورسيزي لاحقاً إن الفيلم أتى أشبه بترياق له "أنقذني من المعاناة النفسية الهائلة التي كنت أعيشها تحديداً من جراء اشتغالي على فيلم "شاتر آيلند" الذي كان من أصعب وأقسى الأفلام التي اشتغلت عليها. بل أكاد أقول هنا إن هذا الفيلم – يقصد "شاتر آيلند" - الحافل بالغموض والأبعاد السيكولوجية قد أسلمني إلى نوع من اليأس من جراء سوداويته والقلبات المسرحية التي تملأه، ومن هنا أتى فيلمي عن هاريسون والأبعاد الروحية التي تملأه ليخفف عني تلك المعاناة إلى حد مدهش، بل إلى درجة كان يحدث لي معها، وأنا منكبّ على توليف الفيلم، علماً بأن القسم الأكبر من مشاهد هذا الفيلم إنما عولج في غرفة التوليف، كان يحدث لي أن أنسى "شاتر آيلند" تماماً وأغوص بكليتي في ألحان جورج هاريسون والأبعاد الشرقية الروحية التي اختار أن يسلك دربها، على الأقل خلال السنوات الأخيرة من حياته. فأشعر أن هناك أملاً في الوجود الذي نعيشه".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سكورسيزي و"ناس الغيوان"

وهنا قد يكون من المهم أن نذكر كيف أن سكورسيزي نفسه كان قد قال كلاماً يقرب من هذا الكلام بعدما انتهى من توليف فيلم سابق يغوص بدوره في عالم الروح والإيمان، "الإغواء الأخير للسيد المسيح" المقتبس عن رواية شهيرة للكاتب اليوناني نيكوس كازانتساكيس، وتحديداً بصدد استخدامه موسيقى شرقية من إبداع الفريق المغربي "ناس الغيوان" إلى جانب موسيقى بيتر غابريال التي تغوص بدورها في عوالم روحية. وقد لا نكون مضطرين هنا إلى الإسهاب في كون سكورسيزي سيضحى منذ ذلك الحين عاشقاً للموسيقى الشرقية وأنه حين وصل ذات يوم إلى مهرجان مراكش السينمائي ليلقي فيه درساً سينمائياً لا ينسى كان أول ما سأل عنه مضيفيه أن يزودوه بأسطوانات جديدة وقديمة تضم بعض تلك الألحان التي عشقها.

المزيد من ثقافة