يجري موفد الأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا السفير النرويجي غير بيدرسون مشاورات في مقر الأمم المتحدة في جنيف، مع دول الجوار السوري والدول المعنية والفاعلة في الوضع السوري، في محاولة منه للتوصل إلى خطة للتعاطي مع الأزمة السورية تقوم على مبدأ الخطوة مقابل خطوة، لإحداث تقدم في معالجة الأزمة في بلاد الشام.
وهذه المشاورات التي تحصل في شكل إفرادي مع كل دولة، تتوخى وضع منهجية جديدة للتعاطي مع تحول الوضع السوري إلى ساحة شديدة التعقيد والصعوبة جراء تشابك عوامل التدخل الخارجي مع الاستعصاءات الداخلية، وبعدما فشلت جهود إحداث تقدم في الحل السياسي عن طريق اجتماعات لجنة صياغة الدستور الجديد التي كانت موسكو من أكثر الدول المشجعة على إنجاحها فحصدت الخيبة على مدى ست جولات منذ زهاء سنتين، وتحولت اجتماعات اللجنة المصغرة المنبثقة عنها إلى منتدى لتبادل الاتهامات والمناورات، لا سيما من وفد النظام السوري في مناقشاته مع وفد المعارضة ووفد المجتمع المدني.
المشاورات مع الجوار والدول الفاعلة في سوريا
اجتمع بيدرسون وفريق عمله حتى تاريخه إلى دبلوماسيي دول معنية بالأزمة السورية من روسيا والاتحاد الأوروبي من الدول التي دعاها إلى هذه المشاورات، إضافة إلى الجامعة العربية ومصر، وتشمل دول الخليج العربي.
حيث كان آخر لقاءاته مع ممثلين عن دولة قطر في 16 الجاري، على أن يستكملها مع سائر الدول الخليجية المعنية ومع الولايات المتحدة وإيران وروسيا ودول الجوار السوري أي تركيا والعراق ولبنان والأردن، التي تمت دعوتها إليها. ولبنان معني بعودة النازحين إلى سوريا من ضمن إجراءات إعادة بناء الثقة التي على النظام أن يقدم على خطوات جدية في شأنها، بحيث تتم هذه العودة في شكل آمن وطوعي، على أن تكون قابلة للاستمرار والديمومة بتحديد المناطق القابلة لإتمامها، خصوصاً أن كبار المسؤولين اللبنانيين يركنون إلى معلومات مغلوطة عنها.
فالرئيس اللبناني العماد ميشال عون طلب من بيدرسون خلال زيارة الأخير له في 13 ديسمبر (كانون الأول)، أن تتم العودة إلى المناطق الريفية لأن معظمها لم يصبها الدمار كما أصاب المدن، ما يدل على نقص في المعلومات لدى الجانب اللبناني بأن هناك قرى في الريف السوري بين حماه وحمص وحلب وصولاً إلى الحدود مع لبنان قد سُويت بالأرض في شكل كامل، ويستحيل عودة الذين هُجّروا منها إليها.
لا حماس في دمشق المقتنعة بالانتصار
كما دعا إليها بطبيعة الحال، حكومة النظام السوري خلال زيارته الأخيرة إلى دمشق في 12 ديسمبر، حيث التقى وزير الخارجية فيصل المقداد، على أن تحدد كل دولة التاريخ الذي يناسبها لإيفاد من يمثلها إلى جنيف. وتتم هذه المشاورات قبل اجتماعات مجموعة أستانا، بين الدبلوماسيين الروس والأتراك والإيرانيين، في 21 و22 الجاري، وتستمر بعدها.
وعلمت "اندبندت عربية" أن الجانب السوري لم يكن متحمساً للمشاركة في هذه المشاورات، إذ أبلغ بيدرسون أنه لم يلمس أي خطوات حسن نية من سائر الفرقاء الخصوم للنظام، من دون أن يكون له موقف جازم بأنه لن يحضر.
فالمنطق الذي يتحكم بموقفه هو قناعته أنه المنتصر في الحرب التي دارت في سوريا، على الرغم من أن أحد موجبات دعوة بيدرسون إلى المشاورات في جنيف، التقارير التي يتلقاها وفريقه عن التدهور المأساوي للأوضاع الاقتصادية والمعيشية للسوريين الذين تصاعد الفقر في صفوفهم، بحيث ترتفع أرقام الهجرة المقنعة والنزوح القسري وغير الشرعي، الذي ظهرت صوره في أوروبا وبيلاروس، أو بالانتقال خلسة إلى لبنان ومنه إلى دول أخرى عبر شبكات التهريب، وكذلك إلى تركيا. هذا فضلاً عن النزوح الشرعي، حيث يستقل كثير من الشباب السوري الطائرات إلى مصر ودول أوروبية طلباً للقمة العيش والعمل في ظروف صعبة. وبموازاة ذلك فإن بعض المدن والمناطق لا تتمتع بالتغذية الكهربائية أكثر من ساعة في الأسبوع (بعض مناطق حمص).
ماذا تتوقعون وماذا تعطون؟
تقوم هذه المشاورات على سؤال رئيس، هو ما هي الخطوات التي يمكن أن تقدموا عليها مقابل خطوات من الفريق الآخر سواء من النظام أو من حلفائه، إذا جرى اعتماد أسلوب الخطوة مقابل خطوة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعبارة أخرى، ماذا تتوقعون من النظام وماذا تعطون في المقابل؟ فمقابل الخطوات المطلوبة من النظام في الإصلاح السياسي، وتعديل الدستور وإشراك المعارضة في السلطة ورفع سطوة الأجهزة الأمنية وإطلاق المعتقلين وإعادة النازحين وخروج إيران من بلاد الشام، فإن الدول التي تعارضه تمتلك أوراق إعادة الإعمار، وخفض العقوبات التي تحول دون الاستثمارات، والانفتاح عليه دبلوماسياً، وعودته إلى الجامعة العربية غير الميسرة، كما كانت دمشق تعتقد نتيجة تشدد الموقفين المصري والسعودي.
ويبدو أن النظام السوري أبلغ بيدرسون أن لا روسيا ولا إيران يمكن أن تضغط عليه لتغيير مواقفه من مسائل ثابتة لديه، (من خلال مشاركتهما في المشاورات في جنيف) وأن الدولتين حليفتان، لكن موقفه مستقل في أي مفاوضات على الأزمة. حتى أن بعض الجهات المطلعة على محادثات بيدرسون في العاصمة السورية لم تلمس استعداداً لدى النظام لتسهيل عمل اللجنة الدستورية في حال دعا بيدرسون إلى جولة سادسة لاجتماعها، على الرغم من أجواء التفاؤل التي أشيعت بعد زيارته دمشق بإمكان تحديد موعد جديد لالتئامها في جنيف. فالوزير المقداد، كما وزعت وكالة "سانا" السورية الرسمية للأنباء اتهم في لقائه مع بيدرسون "النظام التركي بالدعم المستمر للمجموعات الإرهابية ومحاولاته اليائسة لإعاقة توطيد الاستقرار في سوريا".
كما تحدث المقداد مع المبعوث الدولي عن "أهمية تجنب أي تدخل خارجي في عمل اللجنة، وأن يكون الحوار سورياً- سورياً يعبر عن تطلعات السوريين، وليس خدمة أجندات الدول المعادية لسوريا".
واتهم المقداد تركيا بإعطاء تعليمات لوفد المعارضة في اللجنة الدستورية برفض طروحات دمشق حول أولوية محاربة الإرهاب... وواصلت أروقة وزارة الخارجية في موسكو من جهتها اتهامها النظام السوري بعرقلة تقدم أعمال اللجنة الدستورية، معتبرة أن نظام الأسد لا يريد حلاً سياسياً يقوم على مبدأ الانتقال السياسي المستند إلى قرار مجلس الأمن 2254 .
تناقض بين موقف وممارسة دول أوروبية
ويميل الدبلوماسيون الروس إلى الاستنتاج بأن النظام يتكل على دعم إيران له اقتصادياً كي يصمد، أما الأزمة الحادة التي تمر فيها سوريا، في وقت يعجز عن محاربة الفساد، لا سيما بعد أن تشكلت طبقة من أثرياء الحرب حوله.
كما تنطلق مشاورات بيدرسون من واقع أن أياً من الدول الكبرى، وبعض الدول العربية في الإقليم لم تعد يرفع مطلب رحيل رئيس النظام السوري بشار الأسد.
بل إن بعض الدول الأوروبية مثلاً، وعلى الرغم من تشدد الاتحاد الأوروبي في العقوبات على النظام، ومن تطبيق قرارات محاصرته عبر عقوبات قانون قيصر الأميركي على التعامل معه، وغيره من العقوبات على رجالات النظام، أبقت على صلتها بالنظام واستحوذت على مشاريع اقتصادية مهمة، مثل إيطاليا التي تنفذ مشاريع بناء محطات كهرباء، فيما تسعى شركات دول كبرى للحصول على عقود في إطار إعادة الإعمار في شكل إفرادي وتجري اتصالات بعيدة من الأضواء مع النظام، وآخرها كان مجيء وفد فرنسي رسمي لكن بصفة غير رسمية إلى العاصمة السورية، لاستكشاف الوضع من الزاوية المخابراتية، ومن الناحية الاقتصادية أيضاً.
وهي أمثلة عن تناقض المواقف الغربية وغياب القرار الموحد، فبعض هذه الدول يتشدد ضد النظام، ويعلن أن لا مساعدات ولا أموال لإعادة الإعمار، لكنه في السر يجري اتصالات ويفاوض على أمور محددة.
تفادي تشتيت القرارات الدولية
من الأسباب التي يبرر بعض المطلعين على المشاورات التي يجريها بيدرسون تحركه لإجرائها، إضافة إلى حاجة الأخير إلى إنجاز ما في الملف السوري بعدما أمضى زهاء ثلاث سنوات في منصبه من دون أي تقدم يذكر، أن تناقض مواقف بعض الدول السلبية حيال النظام مع ما تقوم به على الأرض السورية من انفتاح، أدى إلى تشتيت القرارات الدولية المعنية بسوريا، وإلى تفتيت التحرك الدولي من أجل الحل السياسي. ومن الأمثلة على ذلك، أنه في وقت يطالب معظم الدول بالإفراج عن المعتقلين في سجون النظام (وهو ما تطالب به المعارضة على الدوام)، فإن هناك أموراً تحصل في هذا الشأن في شكل متفرق وبعيد من الأضواء.
وآخر الخطوات على هذا الصعيد، إشراف الأمم المتحدة بحضور نائبة بيدرسون خولة مطر، في 16 الجاري، على تبادل 5 معتقلين لدى النظام مع 5 جنود وضباط من الجيش السوري كانوا محتجزين لدى "هيئة تحرير الشام" في منطقة إدلب، بوساطة قطبي مجموعة أستانا، روسيا وتركيا.
وسبق أن جرت عمليات تبادل متفرقة من هذا النوع، لكن أعداد الذين يفرج عنهم في عمليات تبادل من هذا النوع تكون عادة قليلة، بينما يمكن إيجاد وسيلة لحصول عمليات تبادل المعتقلين على نطاق واسع في حال جرى ذلك من ضمن خطة لإعادة بناء الثقة، وفي إطار الخطوة مقابل خطوة، التي يسعى إليها بيدرسون حالياً، لا سيما أن الجانب الروسي يبدي استعداداً لخطوات من هذا النوع، ويؤمن حضوراً فاعلاً وكبيراً في عمليات كهذه.
باختصار، هل تنجح مشاورات بيدرسون في التوصل إلى أفكار تنتشل الدور الأممي من الاكتفاء بإدارة المأساة السورية في شكل يومي وظرفي أو بالتفرج عليها، من أجل وضع استراتيجية جديدة للتعاطي معها؟