Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الرسام الألماني جورج بازيليس ابتكر الفن المشهدي المصدع

معرضه الباريسي فرصة لاكتشاف جماليات تجربته الفريدة الطالعة من عمق المأساة

مشهد من المعرض (الخدمة الإعلامية)

أخيراً يحظى فنّ الألماني جورج بازيليس في باريس بالاهتمام الذي يستحقه من خلال المعرض الاستعادي الضخم الذي ينظّمه له حالياً "مركز بومبيدو". ونقول "أخيراً" لأن هذا الفنان الذي تمكن من ابتكار "صورية لم يكن لها أي وجود قبله"، عبر نبشه واستثماره ما رفضته الطلائع الفنية من الماضي، بقي خارج دائرة اهتمام المؤسسات الفنية الباريسية الكبرى، على الرغم من تهافت أبرز المتاحف الدولية خارج هذه المدينة على عرض أعماله منذ أكثر من أربعة عقود.

ولتبديد هذا الجور إذاً يأتي معرض بازيليس الحالي الذي تكمن أهميته في تسليطه الضوء على ستة عقود من إبداعه من خلال عشرات اللوحات والمحفورات والمنحوتات التي تحضر وفقاً لترتيب زمني وموضوعي يسمح باستخلاص المراحل الأكثر أهمية من مسيرته الفنية، بدءاً باللوحات التحريضية الأولى، مروراً ببيان "بانديمونيوم" مطلع الستينيات وسلسلة "أبطال" واللوحات المصدّعة ذات الصورية المقلوبة، وصولاً إلى السلاسل المتعاقبة التي اختبر فيها تقنيات رسامية جديدة. أعمال تتجلى فيها جماليات متنوّعة تعكس حسّاً ابتكارياً مدهشاً وفريداً، وفي الوقت نفسه، لجوء الفنان لبلورتها إلى مراجع فنية مختلفة، مثل إدوارد مونخ وأوتو ديكس وويليام دو دونينغ، كي لا نذكر غيرهم.

بين تصوير وتجريد

فنان يتعذّر تصنيفه لمراوحته بين تصوير وتجريد ومقاربة مفهومية، لعل أفضل تحديد لمسعى بازيليس الفني ما قاله بنفسه في أحد الحوارات معه: "وُلدتُ داخل نظام مدمَّر، في قلب مشهد وشعب ومجتمع في حالة خراب. ولأنني اختبرتُ ما يكفي مما يسمّى أنظمة، لم أتق إلى تأسيس نظام جديد، وكان عليّ التشكيك بكل شيء. كان عليّ أن أكون "ساذجاً" من جديد والبدء من الصفر. لا أملك حساسية الرسامين التكلّفيين (maniéristes) الإيطاليين أو ثقافتهم أو فلسفتهم، لكني تكلّفي بمعنى أنني أشوّه الأشياء. أنا عنيف، ساذج وغوطي".

وفعلاً، يكشف عمل بازيليس المرتبط كلياً بمُعيشه وخياله تساؤله الثابت لإمكانية تمثيل ذكرياته، للتقنيات المتنوعة والنماذج التقليدية لفن الرسم، للأشكال الجمالية المرسّخة داخل تاريخ الفن، وللشكلانيات (formalismes) التي أملتها وسيّرتها الأنظمة السياسية والجمالية المختلفة التي عرفها القرن العشرين؛ مبيّناً مدى تعقيد أن يكون المرء رساماً في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.

مواليد مقاطعة ساكسونيا عام 1938، تأثر بازيليس خلال طفولته بما شاهده من فظائع خلال الحقبة النازية والحرب التي أنجبتها. تأثّر بعد ذلك بعنف النظام الاستبدادي للجمهورية الديمقراطية الألمانية الذي نشأ في ظلّها وحظّر رسم لوحات تجريدية من شأنها أن تعبّر عن "الانحدار الرأسمالي". وحين التحق بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية في برلين الشرقية عام 1956، تعذّر عليه الالتزام بتوجيهات أستاذه، الرسام والتر ووماكا، الذي كان أحد أهم ممثّلي الواقعية الاشتراكية، مفضّلاً عمل بيكاسو، ما أدّى إلى طرده بحجة "افتقاده لنضج اجتماعي ثقافي"، فاستقرّ في برلين الغربية حيث التحق بكلية الفنون الجميلة واكتشف الحركات الفنية التي تبنّاها فنانو ألمانيا الغربية خلال الحرب الباردة، كالفن اللاشكلي القادم من فرنسا والتعبيرية المجرّدة الأميركية.

الوطن المقسوم

ولأنه قرر مذّاك عدم الإصغاء للعقائد السائدة والعثور عن وسيلة للتعبير عن غضبه الناتج من الوضع الاجتماعي لوطنه المقسوم، اهتم عن كثب بعمل فنانين غير امتثاليين، مثل مونخ وأرتو ولوتريامون وميخائيل فروبيل، وفنانين مصابين بأمراض عقلية، وتحديداً أولئك الذين تعمّق في دراستهم الطبيب والمنظّر هانز برينسورن، وعرض النازيون بعض أعمالهم في معرض "الفن المنحطّ" عام 1937. وفي كتاب برينسورن "تعبيرات الجنون" (1922)، اكتشف ذلك الرسم الذي أوحى له بالبورتريه الذاتي "رأس ج." (1960) الذي نجده في مدخل معرضه الحالي برفقة لوحة "ج. أنتونان" (1962) التي احتفى فيها بالعملاق أرتو.

عام 1961، وإثر قراءاته واكتشافاته، وضع بازيليس مع صديقه أوجين شونبرغ بيان "بانديمونيوم" الشهير الذي يستحضر عنوانه قصر إبليس في قصيدة ميلتون الملحمية "الفردوس المفقود" (1667). مكان خيالي اختاره الفنان كاستعارة لتصوير الجانب المأساوي لوطنه بعد الحرب. بيان استتبعه بسلسلة أولى من اللوحات أحدثت فضيحة لدى عرضها عام 1963 بسبب جانبها الإباحي، خصوصاً لوحتي "الليل الطويل منكوباً" و"الرجل العاري" اللتين صادرتهما السلطات؛ ثم بسلسلة ثانية حاكى فيها رسوم الرسام جيريكو التحضيرية للوحة "عوامة ميدوز"، وتحضر فيها مشاهد جزئية لأقدام معنّفة تعلوها جروح عميقة، وتتضمن أيضاً لوحة "أوبيرون" (1963) التي هي عبارة عن بورتريه هلسي لنفسه كملك الجان، وتستحضر رؤوسها المتعددة لوحة مونخ "الصرخة" (1893).

وعلى الرغم من طغيان فن "البوب" وتيارات جديدة نقدية على المشهد الفني في ألمانيا آنذاك، سعى بازيليس إلى ابتكار فن رسم جديد وتابع عمله حتى عام 1966 على سلسلة بعنوان تحريضي، "أبطال"، شخصياتها رسامون وشعراء وناجون من الحرب وجرحى تتميز أجسادهم الضخمة وغير المتناسقة بتشويهات تكلّفية، وتوحي صفاتهم الخاصة بسرديات تندرج ضمن التقليد الرسامي للقرون الوسطى. أعمال تمكن مشاهدة كل منها كبورتريه ذاتي وأيضاً كتأمّل تشكيلي في حدث أو شخصية تاريخية أو رسام كبير، كلوحتي "مرحبا سيد كوربيه" التي تشكّل تحية للرسام الفرنسي كوربيه، و"الأصدقاء الكبار" (1965) التي تعبّر عن مأساة ألمانيا من خلال معوّقين يعجز كل منهما عن مصافحة الآخر بسبب عاهته الجسدية، ويقفان بين الأنقاض قرب علم أحمر مرقّع وملقى على الأرض.

صور مصدعة

بعد ذلك، عمد بازيليس إلى تمزيق شخصياته وإرفاقها بكائنات أخرى ــ كلاب، أشجار... ــ كما في لوحة "ب. إلى لاري" (1967) التي تنتمي إلى سلسلة "صور مصدّعة"، وتفجّر داخلها شجرة ــ رمز أسطورة سموّ الروح الألمانية ــ جسد الشخصية المرسومة وفقاً لقوانين الفن القديم الذي بجّله النازيون. وهذه الأبحاث هي التي قادت الفنان إلى إنجاز لوحة "الرجل والشجرة" التي دشّن فيها منهج قلب شخصيات لوحاته رأساً على عقب الذي سيصبح ميزة رئيسية في عمله ويسمح له بمنح الأولوية لعملية التشكيل، على حساب الموضوع المعالج. وفعلاً، ما لبث الاختبار داخل المادة الرسامية أن تقدّم على سائر هواجسه، كما في اللوحات التي حاور فيها مونخ وإميل نولدي، وتعكس رغبته في العودة إلى التقليد الفني الشمالي الذي استبق زمن النازية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبموازاة الرسم، مارس بازيليس فن الحفر فاختبر مختلف تقنياته ونوّع نماذجه. وإثر انطلاقه في تجميع منحوتات أفريقية، أنجز منحوتته الأولى التي عُرضت في الجناح الألماني لـ "بينالي البندقية" عام 1980. عمل اختار له عنوان "نموذج لمنحوتة" للتدليل على جانبه غير المنجَز عمداً، وأدّت اليد المرفوعة لشخصيته على شكل تحية هتلرية إلى فضيحة في وطنه عزّزت صورته كمحرّض و"الطفل الرهيب" للفن الألماني. وبعد فترة قصيرة من سقوط جدار برلين، غاص مجدداً في ذكريات طفولته خلال الحرب داخل سلسلة منحوتات بعنوان "نساء دريسدن" حيّا فيها تلك النسوة اللواتي ساعدن في إعادة إعمار المدن الألمانية بعد الحرب.

وعام 1991، بدأ سلسلة "لوحة على أخرى" التي نضّد فيها نماذج أكثر فأكثر تجريدية وتلاعب بمبدأ التزيين، محافظاً على ملامح بعض الوجوه التي هجس بها. وبين 1998 و2005، عاد إلي مرحلة فتوته في ألمانيا الشرقية مع سلسلة "لوحات روسية" التي أعاد في واحدة منها تأويل لوحة "قلق" لأحد وجوه الواقعية الاشتراكية الروسية، غيلي كورييف. وانطلاقاً من عام 2005، بدأ سلسلة "ريميكس" التي حاور في بعضها لوحات سابقة له أو أعمال فنانين ألهموه، استتبعها عام 2014 بسلسلة تشكّل مرحلة جديدة في طريقة عمله، أي البورتريهات الذاتية الضخمة التي عنونها بشكل تحريضي "أفينيون"، في إشارة منه إلى لوحات بيكاسو التي عرضها عاميّ 1970 و1973 في "قصر البابوات" في أفينيون وتعرّضت آنذاك للانتقاد.

مذّاك، ومن خلال بورتريهات ذاتية أو مزدوجة مع زوجته، انخرط بازيليس في عملية تأمل تشكيلية في موضوعات وجودية، كانعدام الديمومة والتحولات الملازمة للشيخوخة وكيفية تمثيل عبور الزمن والذكريات، بموازاة إنجازه رسوماً بالقلم والحبر انطلاقاً من بورتريهات ذاتية لفنانين شغف بعملهم، مثل هنري روسو وأرنولد شونبرغ وكارل روتولف وفرانز مارك.

ولا يكتمل عرضنا لإنجازات بازيليس من دون الإشارة في النهاية إلى النصوص العديدة التي وضعها على طول مسيرته الفنية وأعاد فيها ابتكار كتابة البيانات الفنية، إلى جانب تقديمه داخلها معطيات ثمينة حول مصادر وحيه وتطلعاته الفية، مشاركاً بذلك في تشييد أسطورته الخاصة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة