Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"من الغريب إلى الجزار" 17 عاما سجنا لبريتنباخ مقابل قصيدة

الأبيض المعادي للعنصرية يمنع من دخول الوطن لزواجه من امرأة "ملونة"

بريتن بريتنباخ في مرسمه في باريس (غيتي)

لسنا ندري ما إذا كان هذا يحدث في أيامنا هذه وقد باتت عيون العالم أكثر تحديقاً والتمييز العنصري أخف وطأة مما كان عليه عند نهايات القرن العشرين، بل نكاد نقول إنه يلفظ أنفاسه الأخيرة في بعض معاقل كان لا يزال صامداً فيها إلى سنوات قليلة. ولا سيما في دولة جنوب أفريقيا التي أعاد نيلسون مانديلا تأسيسها بعد أن تحول من "أقدم سجين سياسي في العالم" إلى أول رئيس أسود. صحيح أن في الإمكان اليوم التحدث عن مثالب تشوب بعض الممارسات السياسية هناك، بل حتى عن "عنصرية – مضادة" تُحدث الكثير من خيبات الأمل لدى كثر من شتى الطوائف والأعراق. لكن الأمور تبدلت إلى الأفضل في مجالات عديدة. وتبدلت على الرغم من أن كثراً من الذين ناضلوا إلى جانب مانديلا طوال سنوات كفاحه وسجنه واستقبلوه فاتحين أذرعهم يوم تحرر من سجنه وشرع يبني دولة أرادها أكثر عدلاً، ثم بكوه بمرارة حين رحل... كثراً من هؤلاء يتساءلون عما إذا لم يكن عليهم أن يستعيدوا روح النضال ليصلحوا الأمور؟

أسئلة المستقبل الشائكة

من هؤلاء عدد من كتاب ومثقفين بيض وقفوا إلى جانب نضالات مانديلا ودفعوا الثمن غالياً، ولا سيما الآن، إذ يشعرون ولو بصورة غامضة أن جزءاً من حماسهم ونضالهم قد هدر وضاع هباء. ناهيك بشعور بالمرارة المتواصلة يعيشونه منذ رحيل مانديلا من جراء غياب عن الساحة العالمية يحسون معه أن أحداً في "العالم الخارجي" لم يعد مهتماً بهم. ومن هؤلاء على سبيل المثال نادين غورديمر التي كتبت نصوصاً حول هذا الأمر قبل رحيلها، ولكن أكثر منها الكاتب الأفريكاني الأبيض بدوره بريتن بريتنباخ الذي نعرف أنه خلال النصف الثاني من القرن العشرين كان الأكثر حدة بين مناهضي النظام العنصري، في كتاباته كما في حياته. وهو بقدر ما أوصلته شجاعته في قول الحق عبر شعر وأدب رفيعين إلى عالمية بات واحداً من نجومها الكبار ذات يوم، أوصله روح التحدي والتمسك بالعدالة الإنسانية إلى أن يسجنه النظام العنصري 17 سنة أمضى معظمها وهو يسعى إلى إرسال صوته من داخل زنزانته، ليس فقط دفاعاً عن حقه في الحرية إذ سجن لذنب قد يبدو اليوم مضحكاً، بل كمواصلة لدفاعه عن أصحاب البلاد الشرعيين في التخلص من النظام العنصري الذي استبد بهم طويلاً، أي السود من أبناء الأغلبية الساحقة في وطنهم الأفريقي.

ذنب "لا يغتفر"

لكن ما ذلك الذنب الذي اقترفه بريتنباخ فحوكم وسجن بسببه؟ النضال بالكلمة وبالشعر ضد العنصريين وكتابته العديد من القصائد "الجريئة" ومنها قصيدته "رسالة الغريب إلى الجزار" التي نالت من الشهرة قدراً كبيراً حين صدرت ضمن مجموعته "نار سوداء"، وستكون هي الدافع الفعلي لاعتقاله والحكم عليه حتى ولو تذرعت الحكومة العنصرية التي اعتقلته في جوهانسبرغ يومها بأنه متهم بالإرهاب وبمساعدة "متمردي" حزب المؤتمر بزعامة مانديلا المسجون، موفراً لهم أسلحة ودعماً عملياً. صحيح أن بريتنباخ وخلال محاكمته الأولى قدم اعتذاره عن كتابته تلك القصيدة بناء على طلب محاميه الذين نصحوه بذلك كي ينسفوا الحجة المفتعلة للتخلص منه ويكشفوا أمام العالم حقيقة النظام، لكن اعتذاره لم يبدل شيئاً فكان لا بد له من أن يدخل السجن ولكن بـ"تهمة جديدة" هذه المرة تتعلق بزواجه وهو الأبيض من امرأة فرنسية من أصل فيتنامي هي يولاند، والدخول خلسة إلى البلاد بعدما عاش وتزوج في فرنسا التي نال جنسيتها. وكان مثل هذا الزواج يتنافى مع القوانين العنصرية الصادرة في جنوب أفريقيا منذ أواخر سنوات الأربعين التي تحاكم مرتكب مثل تلك "الجريمة" وتسجنه لسنوات طويلة. ومهما يكن من أمر هنا لا بد من العودة إلى القصيدة نفسها التي يقول بريتنباخ في واحد من مقاطعها "الأكثر حدة" كلاماً بدا موجهاً إلى رئيس الحكومة العنصرية فورستر اعتبر "خطيراً" إلى أبعد حدود الخطر.

ليل الجزار ويداه

يقول بريتنباخ موجهًا كلامه إلى جلاد لم يسمّه على أية حال: "وأنت، أيها الجزار، أنت المكلف بحماية أمن الدولة. بم تراك تفكر ليلاً حين يعم الظلام بادئاً بإظهار هيكله العظمي/ وحين ينطلق من حنجرة السجين كما حين ولادته ذلك الصراخ الثرثار لسوائل المخاض؟/ هل تراك تحس بشيء من التواضع لحظتذاك في حضرة ذلك الشيء المدمى العامر بالتدفقات البشرية وقد أحاطت يداك بنفَس الموت المتقطّع؟/ في تلك اللحظة التي يقسو فيها قلبك عالقاً في زلعومك فيما تلتقط تلك الأطراف المنطفئة بنفس يديك اللتين سوف تداعب بهما بعد قليل أسرار امرأتك الخفية؟...". صدقوا أو لا تصدقوا أن تلك هي الكلمات التي جرَّمت وأودت بكاتبها إلى السجن الذي سيقبع فيه سنوات طويلة على الرغم من أنها كلمات اعتذر الشاعر عن كتابتها! صدقوا أن هذا الأمر حدث خلال الربع الأخير من القرن العشرين من دون أن تكون له سوابق حتى في عصور محاكم التفتيش المظلمة يوم كان المبدع يحاكم علناً لتهم معلنة ويعدم أحياناً حتى وإن اعتذر عنها، لكن أياً منها لم تكن على خفة تلك التهمة التي اعتذر عنها بريتنباخ فأصر محاكموه على خطورتها وعلى خطورة صاحبها.

تنبيه من المطبات المقبلة

على أية حال لم يمضِ بريتنباخ من الـ17 عشر عاماً التي حُكم بها عليه، سوى تسعة أعوام وذلك بفضل الضغط الدولي الذي راح يتصاعد شهراً بعد شهر مكبلاً عنق النظام العنصري الحاكم، ولا سيما في فرنسا التي كان الشاعر يحمل جنسيتها ويعيش فيها أطفاله، وهو الذي ما إن أطلق سراحه حتى استأنف من فوره مع وصوله إلى باريس والاستقبال الحاشد الذي أقيم له هناك، نضاله بالشكل الذي يتقنه: الكتابة والرسم إلى جانبها ليعتبر واحداً من أكثر المثقفين البيض حماسة لتحرير جنوب أفريقيا من العنصرية، وهو ما تحدث مانديلا عنه من داخل سجنه ثم حين انتقل من السجن إلى سدة الرئاسة. وهو انتقال كان بريتنباخ من أوائل الذين أثنوا عليه في الوقت نفسه الذي كان يحذر فيه من "المطبات التي تنتظر بلادنا هذه خلال المراحل المقبلة". فعلى الرغم من أن بريتنباخ كان قد عاش في فرنسا 12 عاماً قبل قضائه سنوات السجن في بريتوريا، ثم سيعيش سنوات طويلة في فرنسا نفسها بعد خروجه من السجن، فإنه ظل يعتبر نفسه أفريكانياً من جنوب أفريقيا، ولكن ليس بوصفه "مواطناً أبيض له حقوق هناك" بل بوصفه مواطناً خاض النضال في سبيل تحرير تلك البقعة من الأرض من "لعنة العنصرية". ومن هنا حين كان يتحدث عنها بوصفها "بلادنا" كان ينطلق في حديثه من بعد إنساني لا أكثر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

شعر أفريكاني ونثر إنجليزي

ينتمي بريتن بريتنباخ بالولادة إلى عائلة من أصل أفريكاني – وهي التسمية التي تطلق على جزء من المستوطنين البيض من أصول هولندية وأوروبية شمالية من الذين كانوا على الرغم من كونهم أقلية، يتحكمون بالبلاد والعباد ويشكلون قاعدة الطبقات المؤيدة للتمييز العنصري. لكن عدداً كبيراً من مثقفيهم ومنهم بريتنباخ وقفوا باكراً ضد تلك الأوضاع وناضلوا ضد أبناء جلدتهم ودفع غالبيتهم الثمن غالياً، حيث إن العنصريين كانوا يرونهم، لثقافتهم وانتشار أفكارهم في العالم، أكثر خطراً عليهم من السود أنفسهم. وقد ولد بريتن عام 1939 في بلدة بونيفال الواقعة على بعد 180 كلم إلى الجنوب من مدينة كيب تاون عند أقصى الطرف الحنوبي للقارة الأفريقية. وهو انصرف بعد دراسة جامعية في كيب تاون ثم في جوهانسبرغ إلى الكتابة والرسم بغزارة، مع ملاحظة لا بد منها وهو أنه كتب أشعاره التي أربت على الخمسين مجموعة باللغة الأفريكانية فيما كتب دراساته وقصصه وبعض المسرحيات باللغة الإنجليزية. ومن كتبه الأكثر شهرة في العالم، إلى جانب مجموعة "نار باردة" الشعرية: "يجب على البقرة الحديدية أن تتعرق" و"بيت الأصم" و"موسم في الفردوس" وهو عبارة عن كتاب باهر في أدب الرحلات يصف فيه مشاهداته خلال رحلة قام بها مع زوجته يولاند في جنوب أفريقيا بعدما سمحت لهما السلطات بذلك!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة