Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرب الإثيوبية بين الهدنة والاستجابة للدعوات الدولية للحوار

بدت قوات تيغراي فاقدة التوازن مع توجه آبي أحمد إلى الجبهة إلا أنها سرعان ما استعادت المبادرة بالسيطرة على بلدة لاليبيلا

ترتبط الأزمة التي تعيشها إثيوبيا بشكلٍ وثيق بجذور مسببةً للتمرد على الحكومة الفيدرالية (رويترز)

بعد عودة آبي أحمد من ميدان القتال متقدماً قواته، لتولي مهماته رئيساً لوزراء إثيوبيا، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من العملية العسكرية ضد قوات جبهة تحرير شعب تيغراي، التي سيطرت في يونيو (حزيران) الماضي على مدينة ميكيلي، عاصمة إقليم تيغراي بعد انسحاب القوات الإثيوبية وإعلان الحكومة وقف إطلاق النار من جانب واحد، وتقدمت نحو العاصمة أديس أبابا. ويشير ذلك إلى أن هناك مرحلة أخرى من الحرب، يصعب معها تسمية هذه الفترة بأنها "هدنة"، أم "حرب بين الحروب". ولكن آبي أحمد صدَّق في الوقت ذاته، على مشروع تشكيل هيئة الحوار الوطني كمؤسسة مستقلة عن السلطة التنفيذية، في ظل تمسك الطرفين بمواقفهما، وسعيهما إلى تحقيق انتصارات.

طبقية سياسية

وترتبط الأزمة التي تعيشها إثيوبيا بشكلٍ وثيق بجذور مسببةً للتمرد على الحكومة الفيدرالية من جانب إثنيات عدة على رأسها "جبهة تحرير شعب تيغراي"، والملفت أن الصراع الإثني القائم منذ عقود هو تداعٍ لمحركات سياسية واقتصادية، وأخرى أبعد غوراً تتعلق بتاريخ القوميات الإثيوبية من واقع طبقيتها السياسية.
بدا في مستهل أمر التحالف بين "جبهة تحرير تيغراي" و"جبهة تحرير أورومو" في الأقل، أن الرؤى لدى القوميتَين متفقة على المطالبة بالحكم الذاتي، ولكن بدوافع مختلفة، إذ يعتقد التيغراي أنهم من سلالة مملكة أكسوم، كما يزعم الأمهرة بدورهم أنهم ينتمون إلى المملكة السليمانية وأنهم من نسل النبي سليمان. أما دافع الأورومو فهو نابع من تعرضهم للاستغلال وعيشهم على هامش المناطق التاريخية للقوميتَين على الرغم من كثرتهم، واستمرار ذلك الوضع خلال التاريخ السياسي الحديث، إذ ظل حكم إثيوبيا في حالة تبادل بين الأمهرة والتيغراي. واستطاعت "جبهة تحرير تيغراي" السيطرة بتكوين تجمع تحت قيادتها باسم "الجبهة الديمقراطية الثورية لتحرير الشعب الإثيوبي" في العام 1989 يضم "جبهة تحرير الأورومو"، و"جبهة تحرير شعب إريتريا"، و"جبهة تحرير غرب الصومال". وفي عام 1991، تمكنت من السيطرة على العاصمة أديس أبابا، وأجبرت العقيد منغستو هيلا مريام على الفرار، وبذلك انتهى نظام ديرغ الذي حكم منذ إطاحة الإمبراطور هايلي سيلاسي 1974. وبينما كان تداول رئاسة الحكومة يتم بين الأمهرة والتيغراي على مدى ما يقارب العقود الثلاثة، فإن الأورومو كانوا يشكون من تغول وتوسع العاصمة أديس أبابا معقل الأمهرة على أراضيهم المستمر، وضم أقاليم جديدة منذ فتوحات الإمبراطور منليك الثاني في نهايات القرن التاسع عشر.

خطان متوازيان

وسارت إثيوبيا بعد إنهاء نظام منغستو الماركسي الديكتاتوري في طريق النمو الاقتصادي وتطوير البنية التحتية، بالإضافة إلى الإصلاح السياسي وتوسيع قاعدة الاستثمار، في بداية تولي آبي أحمد السلطة في أبريل (نيسان) 2018. هذا هو الخط الذي ربما اعتقد الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة أن إثيوبيا قد تحيد عنه، ولكن بعد انفجار الصراع الإثني تراجعت الولايات المتحدة عن اتخاذ إثيوبيا شريكاً استراتيجياً باعتبار أن خطاً موازياً قد برز إلى الوجود من تحت رماد الصراعات المكبوتة.
في خضم حالة العنف التي ألمَّت بإثيوبيا عقب حرب التيغراي، تمحورت مهمة آبي أحمد حول تعزيز الشعور بالوحدة الوطنية في مواجهة الانقسامات العرقية، ولكن احتفاءه بهذا التنوع أخفى كثيراً من كوامن النزاع ومسبباته، إذ يشعر عدد من الإثنيات بأنها تتعرض للتهميش السياسي والاقتصادي. كما أن الإصلاحات السريعة فُسرت بأنها تصفيات سياسية ضد إثنية التيغراي، إضافة إلى أن الحركة السياسية المتعلقة بإقامة الانتخابات وما صاحبها من أحداث تنزع نحو حكم الحزب الحاكم على حساب حكم القانون. وكشفت إدارة النزاع في الأشهر الأخيرة الماضية عن محاولات آبي أحمد تعزيز قدرات الجيش الفيدرالي مادياً ومعنوياً، وتتردد معلومات حول مدى رغبته في إعادة إثيوبيا إلى نظام الدولة المركزية، من واقع أن الفيدرالية تبنتها إثيوبيا في عام 1995، وهو نظام يبدو في ظاهره من أجل حلِّ مشكلة التنوع الإثني الواسع والحد من التوترات الإثنية في البلاد، ولكن الفيدرالية الإثنية على طريقة آبي أحمد هي التي مهدت لهذه النزاعات الإثنية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبالتالي، كان لا بد من الموازنة بين هذه الرغبة واستعادة ثقة الشعب الإثيوبي المتأرجِحة بين الإثنيات المختلفة. وهذا التحدي بالإضافة إلى الضغوط الدولية، اضطر آبي أحمد إلى إجراء مراجعة لخيار مواصلة الحرب. وتبدو ساحة المعركة حالياً متسعة بقدر ما تتيحه بؤر التوتر التي تجاوزت الجيش الفيدرالي وقوات تيغراي إلى قوات وميليشيات القوميات الأخرى.

الاتجاه نحو الحوار

وبالإضافة إلى دور الولايات المتحدة التي تتهمها الحكومة الإثيوبية بالانحياز إلى جبهة تحرير تيغراي، فإن الدعوة إلى الحوار جاءت أيضاً من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي، الذين دعوا رئيس الوزراء الإثيوبي إلى عقد حوار لإنهاء النزاع في بلاده. وهناك أيضاً جهود الوسطاء الأفارقة ومنهم الرئيس النيجيري السابق أولوسيغون أوباسانغو، والرئيس الكيني أوهورو كينياتا، ورئيس دولة جنوب السودان سلفا كير ميارديت وغيرهم.
أسباب عدة جعلت آبي أحمد يتجه نحو الحوار بعد تمسكه بمواصلة الحرب وجعلته يصادق على مشروع تشكيل هيئة الحوار الوطني، وهي أولاً، إثبات ما قاله آبي أحمد عن كون بلاده "عضواً مؤسساً لكل من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي"، فهي "من دعاة التعددية المتجذرة في احترام السيادة الوطنية"، وعليه فإن عدم تقدير مخاوف هذه المؤسسات الدولية والإقليمية سيضع إثيوبيا في مواجهة أخطار المجاعة، وأوضاع اللاجئين والنازحين بمفردها. ثانياً، بعد انسحاب القوات الإريترية، انكشف بعض الضعف في القوات الفيدرالية الإثيوبية، واضطر آبي أحمد إلى النزول إلى ميدان القتال مع قواته والاستعانة بسلاح الجو الإثيوبي الذي أعاد التوازن للجيش وعدل نتائج المعركة لصالحه. ثالثاً، تسبب نزاع التيغراي في زعزعة الاقتصاد الإثيوبي، ولم تعد إثيوبيا قبلَة الاستثمار أو تتمتع بالدعم المالي الدولي، بل تهدد اقتصادها العقوبات الدولية. ورابعاً، شلت الحرب حركة إثيوبيا الإقليمية وحدت من مشاركتها في حل مشاكل دول الجوار، باعتبارها حاضنة للاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيغاد (الهيئة الحكومية الدولية للتنمية)، ما أضعف نفوذها ودورها في إرساء الاستقرار الإقليمي. ولهذا توفر استجابة آبي أحمد لإجراء حوار مع قوات التيغراي، غطاءً دولياً لإعادة الدور الإثيوبي إلى سابق عهده. وستضغط القوى الدولية كي لا تتطور المواجهة بين الطرفين وتمتد إلى الإقليم وتهدد قواعدها العسكرية.

"حرب بين الحروب"

عندما أعلن آبي أحمد عن عودته إلى مزاولة مهماته رئيساً للوزراء، بعد عدد من الانتصارات التي حققها مقابل انتصارات قوات التيغراي، ظهرت صورة جبهة تحرير تيغراي وهي فاقدة السيطرة، لكن بعدما استولت قوات التيغراي مجدداً على بلدة لاليبيلا التاريخية بعد أقل من أسبوعين من سيطرة القوات الحكومية وحلفائها عليها، ظهر أن العملية في مجملها يمكن إدراجها تحت استراتيجية "الكر والفر" أو "الحرب بين الحروب". وإن كانت قوات التيغراي قد سعت إلى تثبيت قواعد هذه الاستراتيجية، فإنه ليس من مصلحتها فتح ما أغلقه آبي أحمد من فرص كانت ستجر إلى توسيع رقعة الحرب.

هذا النصر الذي حققته قوات التيغراي ربما يبدده رضوخ آبي أحمد للحوار، وإذا لم تستجب جبهة التيغراي، فسيكون بانتظار تجاوب المجتمع الدولي معه ومكافأته بما يمتلك من أدوات لتحقيق أهدافه القصيرة والطويلة المدى. ويرغب آبي أحمد في الحصول على المساعدة العسكرية، نسبةً إلى أهمية مكانة إثيوبيا في القرن الأفريقي، ومساهمتها في محاربة الإرهاب، وبالتالي فإنه حتى لو انحصر العون الدولي في المساعدات الإنسانية والأمنية، فسيتوفر له غطاء للضغط على جبهة التيغراي.
من ناحية أخرى، لا تزال الحكومة الإثيوبية تملك ورقة ضغط تتمثل في الاستغناء عن الغرب، وإن كان الاتحاد السوفياتي دعم أديس أبابا بمساعدات عسكرية بلغت 11 مليار دولار في حربها مع الصومال حول إقليم أوغادين في سبعينيات القرن الماضي، فإنه في حال اشتداد الضغط الغربي عليها، ربما تتجه إلى روسيا أو الصين مستغلةً المنافسة الدولية بين القوى البرى، للاستفادة منها بتزويدها بتكنولوجيا بديلة وتعاون عسكري، خصوصاً أن الصين ظلت ملجأ دول أفريقية عدة وغيرها في الالتفاف على العقوبات الأميركية.

المزيد من تحلیل