Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مقالة في الهبة" دروس من المجتمعات التقليدية في خدمة العصور الحديثة

الفرنسي مارسيل موس يتعمق في درس التفاوت الاجتماعي عبر تحليل الهدايا

مارسيل موس (غيتي)

اثنان على الأقل من الباحثين السوسيولوجيين الفرنسيين المعاصرين عرفا كيف يركزان على واحد من أكثر كتب علم الإناسة طرافة وشعبية في بلدهم، كي يتوصلا من خلاله إلى تفسير ظاهرة لا تبدو ذات علاقة بذلك العلم على الإطلاق، ظاهرة الضمان الاجتماعي التي تبدو شكلياً على الأقل، من مبتكرات العصور الحديثة.

الباحثان هما بيار بورديو الذي عرف قبل رحيله لسنوات خلت بوصفه الأكثر مشاكسة وعناداً في تحليله الفقر والمهانة الاجتماعية في العصور الحديثة، وفلورانس فيبر الأستاذة المحاضرة في العلوم الاجتماعية والتي تولت كتابة مقدمة باتت شهيرة لواحدة من آخر الطبعات التي صدرت للكتاب الذي نحن في صدده هنا.

أما هذا الكتاب فما هو سوى "مقالة في الهبة" للباحث والعالم الفرنسي مارسيل موس (1872 – 1949).

من الهبة إلى الضمان الاجتماعي

حتى ولو كان الكتاب نفسه يحمل عنواناً ثانوياً تفسيرياً هو "أشكال التبادل في المجتمعات الأرخية وأسبابه"، فإن الباحثين المعاصرين عرفا كيف يتعمقان في درس الموضوع وصولاً إلى نوع من تطبيق معاصر له، يحتاج طبعاً إلى توسع يتجاوز ما يتطلبه الكتاب نفسه لتبيان تلك الاستمراية التي يقترحها الباحثان بين ما كان من شأن الشعوب التقليدية، "البدائية"، بالنسبة إلى مسألة الهبة، وما تتسم به المجتمعات الحديثة من توفير عون للعمال بعد تقاعدهم عن عملهم يكاد يشبه ما يطلق عليه موس اسمه الأكثر ملاءمة في كتابه "الهبة".

ولعل في إمكاننا الإشارة هنا، وفي ما يخص النمط المعاصر من تلك "الهبة" التي "تمنح للعمال بعد تقاعدهم من طريق الضمان الاجتماعي"، إلى أنه ينتمي إلى نمط ثان من تلك الهبة يطلق عليه موس اسم "الكولا" الذي يميزه عن الهبة ذات الاتجاه الواحد عادة والتي تقدم غالباً من دون أن يتوخى منها أن تكون تبادلية، ويسميها موس "بوتلاتش"، علما بأن هذه الأخيرة عادة ما تحمل في طياتها معاني وممارسات تكون أشد حدة من "الكولا" التي تكون من دون صراعات ومقاصد خفية، لا سيما بالنسبة إلى تفاعلها مع العلاقة القائمة، أو التي يجدر أن تقوم، بين من يهب ومن يوهب، كما سوف نفسر بعد سطور، وبالتحديد بعد أن نعود مع موس إلى التاريخ البدائي لمفهوم الهبة الذي يشكل جوهر هذا الكتاب.

أسئلة حاسمة

قبل ذلك، لا بد من فقرة تعريفية تخص "مقالة في الهبة"، فهذا الكتاب الذي صدر للمرة الأولى في العام 1925 يعتبر نصاً كلاسيكياً في مجاله بالنسبة إلى علم الاجتماع وعلم الإناسة الفرنسيين، ويعتبر منذ ذلك الحين ملهماً لعدد كبير من الدراسات التي تتناول ماهية الهبة وتنوعاتها وإشكالاتها في المجتمعات البدائية (التقليدية) في إجابة علمية عن أسئلة بالغة الأهمية في هذا المجال، مثل ما هي الهبة؟ وما معانيها الاجتماعية؟ ولماذا وجدت أصلاً؟ ومن يعطيها لمن؟ ولأي غاية؟... إلخ.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وثمة إشارة هنا، لا بد منها، تتعلق بالنقد الذي يوجهه المؤلف إلى نوع الهبة المسمى "بوتلاتش"، وهو النوع الذي يفترض به أن يكون هبة تعطى "من دون مقابل" يقدمها من يهب إلى من توهب إليه من دون أن يتوقع منه ردها، أو أي شيء في مقابلها، ويرى موس أن "البوتلاتش" تحمل في طياتها إهانة ومذلة لمن يتلقاها، خصوصاً أنها تعكس نوعاً من سيطرة القوي الذي يمكنه أن يهب، على الفقير المعوز الذي عليه أن يتلقى الهبة، وهو غير قادر على تقديم شيء في مقابلها، وذلك على عكس الهبة الأخرى، "الكولا"، التي تكون مقابل خدمة ما تجعل الواهب والموهوب ندّين حتى وإن لم يكونا متكافئين في الوضعية الاجتماعية.

سابقون ولاحقون

يعرّف موس دراسته "مقالة في الهبة" هذه بكونها "تنخرط في سياق سلسلة من الدراسات السابقة عليها" لموس، كما لعدد من سابقيه في السياق الدراسي نفسه، لا سيما منهم فرانز بواس وبرونيسلاف مالينوفسكي من الذين اشتغلوا قبله على درس ظاهرة "البوتلاش" لدى شعوب الساحل الغربي لأميركا الشمالية، وظاهرة "الكولا" في جزر التربريان في المحيط الأطلسي. ويحدد موس أن هذه الدراسة إنما هي "جزء من دراسات أكثر اتساعاً تطاول وفي آن معاً، منظومة الحق التعاقدي ومنظومة التقديمات الاقتصادية السائدة بين شتى المجموعات أو الشرائح المتفرعة عنها، والتي تتألف منها المجتمعات المعتبرة بدائية أو حتى تلك التي يمكننا تسميتها "آرخية".

ما بعد الفعل البدائي

غير أن من الواضح أن موس إنما يبني كتابه لغايات تتجاوز البعد الأركيولوجي للموضوع، وهكذا فهم الكتاب وخصوصاً من قبل باحثين تابعوه في منطقه ومنهم كلود ليفي ستروس الذي أعلن نفسه دائماً متأثراً بموس متابعاً البعد الاجتماعي في طروحاته، وبالتالي البعد الذي يسعى إلى عصرنة الموضوع برمته، لا سيما في المجال الأساس الذي يتناوله من حيث تركيزه على التفرقة الحاسمة في رأيه بين النوعين "البوتلاتش" و"الكولا" وربطهما بالمسألة الطبقية، بل حتى بالسياسة الاجتماعية التي تعطي لكل من النمطين دلالته الخاصة ومقدار العنف أو المسالمة التي ينم عنا، مما يكشف عن نزوع الهبة من نوع "الترولتش" إلى خلق سيطرة وتراتبية اجتماعيتين تصلان إلى خلق أنماط الحكم داخل المجتمع، فيما يبقى نمط "الكولا" منزهاً عن ذلك النزوع مرتبطاً بالرغبة في إقامة نوع من التصالح بين شتى الفئات.

مجموعة من العلوم

مهما يكن، لا بد من الإشارة إلى أن "مقالة في الهبة" تنقسم إلى أربعة فصول تحمل في الترجمة المميزة والمشبعة للكتاب التي قام بها الباحث والمترجم التونسي محمد الحاج سالم وصدرت في طبعة أنيقة عن "دار الكتاب الجديد"، العناوين التالية تباعاً: "الهدايا المتبادلة ووجوب ردها (بولينيزيا) - "امتداد هذا النظام: السخاء، الشرف، والنقود" - "الآثار الباقية لهذه المبادئ في التشريعات والاقتصادات القديمة" - وأخيراً "خلاصات" التي يجملها الكاتب في ثلاثة أقانيم متداخلة بعض الشيء: خلاصة في الأخلاق، خلاصات في الاجتماع الاقتصادي والاقتصاد السياسي وخلاصات في علم الاجتماع العام والأخلاق، ليختم الدراسة باستنتاج بالغ الأهمية يقول فيه: "هكذا نرى كيف يمكن أن ندرس في بعض الحالات السلوك البشري ككل والحياة الاجتماعية بأجمعها، كما نرى كيف يمكن أن تؤدي هذه الدراسة المحسوسة، لا نحو علم الأخلاق وحسب، أي علم اجتماعي جزئي، بل نحو استنتاجات أخلاقية أو بالأحرى، كي نستخدم لفظة قديمة، نحو "التأدب" ونحو المواطنة كما نقول اليوم، فمثل هذه الدراسات تمكن بالفعل من الرؤية والتدبر والموازنة بين مختلف الدوافع الجمالية والأخلاقية والدينية والاقتصادية، ومختلف العوامل المادية والديموغرافية التي تؤسس جميعها المجتمع وتنشئ العيش المشترك، والتي تمثل إدارتها الواعية أرقى الفنون، ألا وهي السياسة في معناها السقراطي".

لا فصل بين الجماعة والفرد

بقي أن نذكر أن موس هو ابن أخت الفيلسوف الفرنسي إميل دوركهايم الذي لم يكن يكبره بأكثر من 14 سنة وشاركه بحوثه منذ شبابه الباكر، لا سيما في اشتغال دوركهايم على بعض أهم كتبه ومنها "الانتحار" الذي كان ذا شأن في توجيه موس ناحية الدراسات التحليلية الاجتماعية، وموس كان ابن حاخام ولد ونشأ في مدينة إيبينال في الشرق الفرنسي ليخوض غمار العلم تيمناً بمسيرة خاله، فيعتبر لاحقاً المؤسس الحقيقي للإتنولوجيا الفرنسية، خصوصاً أنه بعد درسه الفلسفة في مرحلته الجامعية الأولى تمكن من تكوين الجيل الأول من  علماء الإتنولوجيا في هذا البلد.

ولقد أتت دراسته البالغة الأهمية "مقالة في الهبة" المنجزة خلال النصف الأول من عشرينيات القرن العشرين، لتخلق مصطلح "الفعل الاجتماعي الشامل" الذي يعني في الوقت نفسه، وبحسب الباحث باتريس مونيغلييه، أن "الحياة الاجتماعية الأرخية غير قابلة لأن تحلل عبر وضعيات متفرقة (اقتصادية، اجتماعية، دينية)، وبالتالي لا يمكن أن يكون ثمة فصل هنا بين الأفعال الجماعية والأفعال الفردية".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة