Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أنسيلم كيفر يحاكي ليل الشاعر بول تسيلان تشكيلياً

لوحاته المعروضة في باريس تسترجع قصائد المبدع الذي ألقى بنفسه في نهر السين

شعر بول تسيلان كما رسمه أنسليم كيفر (الخدمة الإعلامية للمعرض)

لطالما أثارت كتابات الشاعر الروماني الجرمانوفوني الكبير بول تسيلان (1920 ــ 1970) اهتمام الفنانين في أوروبا، وألمانيا خصوصاً. اهتمام اتّخذ مع الفنان الألماني أنسيلم كيفر طابع الحوار منذ اكتشافه في سنّ المراهقة قصيدة "فوغا الموت" (Fugue de mort). حوار خصب ومثير تكثّف خلال السنوات الأخيرة، وخصوصاً عام 2020، إثر العزلة التي فرضها وباء كورونا وسمحت له بإنجاز 19 لوحة كبيرة وعدد مهم من المنحوتات والتجهيزات تحاكي جميعها شعر تسيلان القلِق. أعمال تشكّل نواة معرضه الحالي "إلى بول تسيلان" الذي يستضيفه حالياً "قصر العابر" في باريس ويشكّل فرصة للتوقف عند القراءة العميقة والفريدة التي يقترحها لنصوص شاعره المفضّل، وللشعر عموماً.

في دفتر اليوميات الذي خطّ كيفر داخله تأملاته أثناء إنجازه هذه الأعمال، نقرأ: "لم يكتف تسيلان بالتأمّل في العدم، بل اختبره، عاشه وعبره". ويضيف: "لغة تسيلان تأتينا من بعيد جداً، من عالم آخر لم نواجهه بعد، كما لو أنها لغة كائن من خارج كوكبنا. نجد صعوبة في فهمها. نلتقط شذرات منها ونتشبّث بها، من دون أن نتمكن من محاصرة كل دلالاتها. لقد حاولت ذلك بكل تواضع على مدى ستين عاماً".

ولمن يجهل كيفر، نشير أولاً أن عمله، منذ انطلاقته، هو استكشاف عميق وجريء للهوية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية ولذاكرة مواطنيه الجماعية، خصوصاً تلك التي تتعلق بالحقبة النازية، بغية كسر الصمت المفروض عليها. وفي هذا السياق يندرج أداؤه الشهير "مِهَن" (1969) الذي لفت فيه انتباه النقاد بسخريته من التحية الهتلرية مرتدياً زيّ والده العسكري. عمل على الذاكرة ما لبث أن تطوّر إلى بحث روحي ووجودي تغذى من مراجع أدبية وفلسفية وأسطورية مختلفة، وأفضى إلى أعمال فنية شرّك فيها الرسم والتصوير الفوتوغرافي والكتابة والنحت ضمن سيرورة إبداع تقوم على التنضيد والتقطيع والحرق والإتلاف بواسطة الطبيعة والعوامل الجوية.

ذكريات شخصية

أما المواد التي يختارها كيفر لإنجاز أعماله فتتحلى بوظيفة رمزية ترتبط بذكريات شخصية، بالتاريخ، بالأدب أو بتقاليد خيميائية وصوفية. مواد بكماء لكن غير صامتة لكونها تروي أصلاً أو تحوّلاً. مواد تتحكّم بها عملية استقلاب (métabolisme) خاصة، ولا يعمد الفنان إلى إتلافها بقدر ما يسهّل سيرورة تحوّلها. فبالنسبة إليه، "المادة غلاف يحتوي الروح التي يتوجب اكتشافها". ومن هذا المنطلق، يستحضر نبات السرخس الحاضر في بعض أعماله الغابة الغالية على قلب الشعراء الرومنطيقيين وأيضاً النبات الأولي، بالتالي يضعنا في علاقة مع الأزمنة الجيولوجية، وحتى الكونية. أما الرصاص فيستحضر بحث الخيميائيين لتحويل المعدن الفقير إلى ذهب. باختصار، يتعلق الأمر مع كيفر بعدم إعاقة انبثاق الروح من المادة، فالنور الأصلي يكمن في كل شيء بطريقة مجزّأة، قبل أن يتوحّد من جديد.

وحول تسيلان، صرّح كيفر مراراً أنه لا يغادره أبداً، بل يعيش برفقته ويسعى منذ 1981، بطريقة شبه طقوسية، إلى كتابة نصوصه أو شذرات منها أو فقط عنوانها على سطح لوحاته، كما لو أن حضوره في الحقل اللغوي للشاعر يكفيه. وأحياناً، يعمد إلى تجسيده مادّياً صورة من قصيدة، أو إلى نشر موادها بطريقة نرى فيها غباراً ورماداً وزهوراً وحجارة ورصاصاً وشظايا زجاج. مواد يسمّيها "أنقاض لغة تسيلان".

سؤال الشعر والرسم

ويطرح عمل كيفر التشكيلي سؤال العلاقة بين فنّي الشعر والرسم التي لم تكن دائماً سلمية، بل اتّسمت على مر التاريخ بتوتر حاد، علماً أنهما طوّرا رابط صداقة طويلاً احتفى به الكتّاب الإغريق والرومان. فالشاعر الإغريقي سيمونيدوس لاحظ أن "الرسم شعر صامت، والشعر رسم ناطق. وفي خطابه الشهير عن النهج، دعا الشاعر اللاتيني هوراس إلى تصوّر كل من الشعر والرسم من منظور الآخر. لكن ثمة حدوداً للتماثل المتبادل بينهما، فالرسم قادر على التعبير عن أشياء لا يستطيع الشعر أبداً التعبير عنها، والعكس صحيح. وهذه المسافة بينهما ذات طابع مادي، فالعلامات المستخدمة في الفنيّن غير قادرة على تمثيل الحقائق نفسها، إذ يُسقِط الرسم أشكالاً وألواناً داخل الفضاء، بينما يستخدم الشعر أصواتاً ممفصلة يُسقِطها داخل الزمن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي ضوء هذه الخلفية فقط يمكننا قياس أهمية ما أنجزه كيفر وطبيعته الثورية. فلوحات "إلى بول سيلان" لا تقتصر على إعادة تأسيس علاقات حسن الجوار القديمة بين الرسم والشعر، كما أنها لا تنخرط في محاولة ابتكار علاقة محاكاة بينهما. فالشعر لا يملي فقط محتوى ما هو موجود في فضاء اللوحة، ويبقى هو خارج إطارها، بل يجتاح كلياً هذا الفضاء ويصير مادة اللوحة، واقعها، جسدها.

ويؤدي ذلك إلى لوحة هجينة تبدو أحياناً وكأنها تعيد استنساخ على قماش منطق مخطوطات القرون الوسطى المزخرفة بالرسوم. لكن لا عودة إلى توازن تلك العصور بين كتابة ورسم، لأن فعل تحوّل اللوحة إلى كتاب مع كيفر يجعل أي علاقة تقليد بين الوسيطين مستحيلة أو عديمة الفائدة، ويصبح كل من الرسم والشعر تأويلاً للآخر، علماً أنه يقع على عاتق اللوحة تحديد فضاء هذه المقابلة. اللوحة التي لا تقتصر وظيفتها على أن تصير صورة باهتة للقصيدة، بل على استقبالها داخل جسدها الخاص، وتحوّلها بالتالي إلى فضاء القصيدة الحيوي ووسيط كشفها. وبقيامها بذلك، تخضع لتحوّل غريب، إذ تصبح الكلمات فيها ذات طابع مكاني، من مادة وجلد، مثل سائر عناصر اللوحة، وتصير هذه الأخيرة مزدوجة، حاضرة في الصورة والكلمة، لوحة وقصيدة على حد سواء.

الواقع الممكن

أما لماذا هذا الاهتمام الخاص بالشعر لدى فنان تشكيلي، فلأنه في نظر كيفر "الواقع الممكن الوحيد، وما تبقّى مجرّد وهم صاف"، ولأنه التاريخ بمعناه المكثّف. ولذلك، لا يسع الرسم سوى معانقته بكل قواه كي يبقى حياً ومرتبطاً بالواقع. وحول نصوص تسيلان تحديداً: "إنها مثل عوّامات في عرض البحر، أسبح من واحدة إلى أخرى، ومن دونها أتوه. إنها نقاط رسو في الامتداد اللامتناهي حيث يتراكم شيءٌ ما من غبار النجوم، قليل من المادة في هوة اللامادة".

رهان اقتران الرسم بالشعر كوني ووجودي إذاً، أكثر منه جمالي، بالنسبة إلى كيفر، ليس فقط لأن الحداثة دفعت بالرسم إلى هاوية الفراغ واللامادة، وفقط بترسّخه في الشعر يمكنه إنقاذ نفسه، بل لأنها أيضاً "اختصرت التاريخ بمجرّد حضور على شكل صوت غنائي رنان، بـ "كلمة بنفسجية تغنّى فوق الشوكة" (تسيلان) التي لم تعد ملك أحد": "لا أحد يعيد تشكيلنا من تراب وطين/ لا أحد يناقش غبارنا/ لا أحد: طوبى لك، يا لا أحد" (تسيلان). بالتالي، إدراج قصيدة أو شذرة منها داخل لوحة، كما يفعل كيفر، غايته خصوصاً منح جسد جديد للتاريخ والذهاب به أبعد من التخيير بين الذاكرة المستحيلة والنسيان. ووحدها اللوحة تسمح للتاريخ، وللشعر خصوصاً، بحضور أبعد من الخيار المزيّف بين "خشخاش وذاكرة" (عنوان أحد دواوين تسيلان).

من هنا تشكيل كيفر لوحاته من تلك المواد الأرضية، شبه الجيولوجية، التي يمكن للكلمات فيها أن تحفر وترى، وهو ما دعا تسيلان إليه بقوله: "أن نذهب عميقاً في الرؤية". من هنا أيضاً طلاؤه إياها أحياناً بصباغ أسوَد، ورشّها بماء رمادية وسخة، وردّها إلى الطبيعة عبر تعريضها للعوامل الجوية. توجُّه لا يعود الرسم فيه مجرّد خطّ أشياء تشبه ما هو موجود خارج اللوحة، بل يصبح فعلاً خيميائياً بامتياز، ويصير الرسام ذلك القادر، بغوصه في مادة الكون وتلاعبه بها، على كشف أسراره وسبر ظلماته.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة