Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

3 نساء و3 أزمنة من حول فرجينيا وولف و"مسز دالاواي"

ماذا لو كان "الساعات" واحداً من أفضل الاقتباسات السينمائية عن عمل أدبي؟

مشهد من فيلم "الساعات" لستيفان دالدري (موقع الفيلم)

هل يمكن القول في نهاية الأمر إن الروايات الأكثر صعوبة في تاريخ الأدب من ناحية الأسلوب والبنية كما من ناحية اللغة واستخداماتها، قد وجدت أخيراً الطريقة المثلى كي تنتقل من صفحات الكتاب إلى شاشة السينما؟ حتى وإن كان هذا التأكيد المطروح هنا على شكل سؤال سيبدو مستغرباً بعض الشيء للوهلة الأولى، لا شك أن لطرحه مبررات عديدة: ففي نهاية الأمر من المعروف دائماً أنه على الرغم من اقتباس معظم الروايات في أفلام في سينمات العالم كله، وعلى الرغم من أن هذه الأفلام دائماً ما تكون متفوقة بل إن لبعضها مكانة الصدارة في تراتبية أفضل الأفلام، من المعروف دائماً أن السينما لا يمكنها أن تقتبس إلا الروايات الأقل صعوبة وتركيبية، بمعنى أن هناك روايات تبدو عصية على السينما لا يجرؤ كتاب سيناريو على الدنو منها، فإن دنوا كان عليهم أن يضحوا بالكثير من عناصر القوة فيها لكي لا يحتفظوا من الرواية في الفيلم إلا ببعض مظاهرها الخارجية أو الحدثية، فلا تنقل الرواية كما هي ولا ينتج الأمر سوى فيلم أقل شأناً من الرواية نفسها. لعل الدليل الأسطع على هذا القول، الإخفاق الذي كان من نصيب روايات كبيرة تمتد من "ثلاثية" نجيب محفوظ إلى "الجبل السحري" لتوماس مان مروراً بأعمال رئيسة لمارسيل بروست وجيمس جويس، من دون أن ننسى إخفاق كل الذين حاولوا حتى الآن الدنو من مشروع لأفلمة "سفر إلى آخر الليل" لسيلين أو لأفلمة "مئة يوم من العزلة" لماركيز.

السيدة التي نفدت بجلدها

والحقيقة أنه كان في إمكاننا أن نضم واحدة من روايات القرن العشرين الكبرى، "مسز دالاواي" لفرجينيا وولف، إلى هذه اللائحة، معتبرين أنها الأصعب واعتبار أفلمتها الأكثر استحالة لولا أنها قد قيّض لها مبدع ابتكر طريقة قد تكون مواربة لكنها يمكن أن تشكل المثال الأفضل على حسن "اقتباس" سينمائي لرواية مستحيلة. والحال أننا تعمدنا هنا أن نضع كلمة اقتباس بين معقوفتين، لأن حالة هذه الرواية تخرج عن الاقتباس لتصل إلى حدود ابتكار أسلوبي يتراوح بين التأليف السيناريستي والاقتباس. فالمخرج والكاتب الإنجليزي ستيفان دالدري عرف كيف يتحايل على الاستحالة التي كانت قد وقفت عقبة في وجه عشرات أُغروا بأفلمة هذه الرواية طوال عقود فاستسلموا في النهاية متخلين عن مشاريعهم، حتى أتى هو وأفلمها ولكن من دون أن يقتبسها حقاً، وذلك في فيلمه البديع "الساعات" الذي حققه قبل سنوات من بطولة ميريل ستريب ونيكول كيدمان وجوليان مور. ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن أول ما يتبادر هنا، سؤال بديهي: هل ثمة من بينهن في الفيلم من تلعب دور مسز دالاواي، الشخصية المحورية في رواية فرجينيا وولف؟ على الإطلاق. غير أن في كل واحدة منهن بالمقابل شيئاً من الشخصية، مع أن الوحيدة التي ستبدو الأقرب إليها من بينهن هي فرجينيا وولف (لعبت كيدمان دورها باقتدار استثنائي) نفسها التي تعيش حقاً في الزمن الذي تعيش فيه بطلة الرواية، أي ثلاثينيات القرن العشرين وبشكل أكثر تحديداً تعيش فترة ما قبل انتحار وولف نفسها، وهي منكبة بصعوبة شديدة على كتابة الرواية نفسها!

قارئة وناشرة من أزمنة مقبلة

غير أن ذلك الزمن وتلك المرأة الأساسية يشكلان فقط جزءاً من الفيلم، حيث إن ثمة امرأتين أخريين وزمنين آخرين: هناك ستينيات القرن مع امرأة سنتعرف عليها قارئة مولهة لـ"مسز دالاواي"، ناهيك بكونها ربة بيت وزوجة محبة وأماً لصبي سنعود إليه بعد عقود في زمن ثالث، وقد بات كاتباً يعيش أيامه الأخيرة مصاباً بالأيدز، لنشهد انتحاره أمام أعيننا وفي غفلة من صديقته الناشرة والمثقفة النيويوركية، التي تحمل اسم كلاريسا، وهو الاسم العلم لمسز دالاواي على أية حال. وهي المرأة الثالثة التي سيفتتح بها الفيلم كما تفتتح رواية "مسز دالاواي" وهي تتوجه صباحاً لشراء زهور لصديقها الكاتب المريض هذا احتفالاً بفوزه اليوم بجائزة، حيث تقيم في بيتها احتفالاً له تحاول إجباره على حضوره. وطبعاً هذا الكاتب هو الذي سينتحر لنتبين لاحقاً أنه الطفل الذي سبق أن رأيناه في سنوات الستين ابناً لقارئة الرواية. إذاً في هذا التشابك الزمني والحدثي وبين الشخصيات عرف ستيفان دالدري كيف يموضع فيلمه.

ترتيب زمني غائب

ولكي لا تبدو الأمور هنا كالكلمات المتقاطعة عصية على الإدراك بوضوح، سنحاول تبسيط ما سردناه أعلاه أو في الأقل قوله بطريقة أخرى: ففيلم "الساعات" وزع شخصية السيدة دالاواي على ثلاث سيدات تنتمي كل واحدة منهن إلى واحد من تلك الأزمنة الثلاثة، دون أن يضطر إلى إخراج السيدة نفسها من الرواية لوضعها في الفيلم. ولعب من أجل ذلك على مبدأ مرور الزمن وارتباط هذا مواربة بالرواية: فلدينا، بترتيب زمني لا وجود له في الفيلم: أولاً فرجينيا وولف وهي تكتب الرواية كتعبير في نهاية الأمر عن معاناتها والخواء الذي تجده في حياتها، وهو الخواء الذي يلتهم البطلة نفسها ولكن، لكي لا ينتهي بالبطلة إلى الانتحار تبدله الكاتبة بانتحارها الشخصي هي انتحاراً يتقاطع مع انتحار الكاتب في نهاية الفيلم، وتكتشفه كلاريسا إذ أتت لتنقله إلى حفل تكريمه الذي تقيمه في بيتها، لكنه يتقاطع أيضاً مع محاولة مجهضة للانتحار تقوم بها أم الفتى قارئة الرواية في الستينيات. وثانياً لدينا هذه الأخيرة طبعاً ومن بعدها كلاريسا التي تحيط بالأحداث كما كان ينبغي على كلاريسا الأولى، أي مسز دالاواي أن تفعل.

لعبة في عالم السيناريو

بهذه اللعبة السيناريستية عرف مخرج الفيلم وكاتبه كيف يحقق فيلماً "مثالياً" لنقل إنه مأخوذ عن رواية فرجينيا وولف أكثر بكثير مما هو مقتبس عنها. وبالتالي بات في مقدورنا أن ننظر إلى هذا الفيلم باعتباره أفضل تعامل سينمائي مع رواية كبيرة. فكان لفرجينيا وولف من الحظ ما جعل الفيلم وإن على طريقته الخاصة، يقول كل ما أرادت الرواية أن تقوله من دون أن يفوت الفيلم أن يبدو عملاً سينمائياً كبيراً وحتى من الناحية البصرية التي لم يضحِّ بها لصالح أية لغة أدبية يحدث لها كثيراً أن تكون لها الأولوية في العديد من الاقتباسات الناجحة عن أعمال ذات أصل أدبي. ويقيناً أن كثراً من مشاهدي الفيلم ممن يعرفون الرواية الأصلية حقاً، أحسوا بعد مشاهدة الفيلم أنهم باتوا يعرفون الرواية بشكل أفضل، بل باتوا، حتى أكثر توغلاً في شخصية ونفسية بطلتها من دون أن يروها ولو لحظة على الشاشة. فكان طيفها وحده حاضراً عليها في كل لحظة على أي حال.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بين بلومسبري وتيار الوعي

ولدت فرجينيا وولف باسم آدلين فرجينيا ستيفن عام 1882 في لندن، التي عاشت فيها معظم سنوات حياتها لتموت انتحاراً يوم 28 مارس (آذار) 1941، وهي في التاسعة والخمسين من عمرها. وهي عرفت دائماً كروائية وأديبة تعتبر من كبار الأدباء الطليعيين خلال النصف الأول من القرن العشرين، وتوضع في مكانة واحدة مع كبار أدباء تيار الوعي في الرواية الأوروبية إلى جانب مارسيل بروست وجيمس جويس وربما لويس فردينان سيلين. حيث إنها عرفت بتبنيها المبكر كل ما ينتمي إلى الحداثة، سواء في المجال الروائي أو السياسي. وهذا ما قادها إلى جماعة بلومسبري التي كانت من مؤسسيها فأسهمت في إطلاق حداثة أدبية وفكرية إنجليزية أشرقت على الحياة الثقافية البريطانية، وصولاً من ثم إلى كتابتها كل تلك الأعمال الأدبية الكبرى التي تعتبر بدورها مؤسسة للحداثة في القرن العشرين، مثل "نحو الفنار" و"أورلاندو" وصولاً إلى "غرفة يعقوب" وبالتالي إلى "مسز دالاوي"، إضافة إلى كتابتها العديد من الدراسات ولا سيما يومياتها التي تحسب في خانة أعمق اليوميات التي كتبها أديب في القرن العشرين.

المزيد من ثقافة