يعد القرن التاسع عشر بالنسبة إلى العالم مرحلة مفصلية في تاريخ التطور البشري، نظراً إلى بلوغ الثورة الصناعية ذروتها في أوروبا وتمددها إلى العالم. كانت المملكة المتحدة في قلب هذه الثورة، ولدى كثير من المؤرخين انطلاقة لها فيما يعرف بـ"عصر ما بعد عصر النهضة"، لتشكل ذروة المجد للإمبراطورية البريطانية في العالم.
وعلى طريقة البريطانيين في السعي نحو تصنيف الدوائر الزمنية والحركات العلمية والثقافية في حقب، أطلق على هذه الفترة اسم "العصر الفيكتوري" نسبة إلى الملكة فيكتوريا التي حكمت بين 1837–1901، وتزامنت هذه النهضة مع 64 عاماً قضتها الملكة التاريخية على سدة العرش في لندن.
القدر الكبير من الابتكارات التي أثبتت قوة بريطانيا العظمى وازدهارها لم تتوقف في الجانب العلمي والتقني والصناعي، بل تجاوزت ذلك لتضع لمستها على طراز معماري لا يزال قائماً حتى الوقت الحالي يشير إلى إنجازات تلك الفترة المادية، في مقدمتها المعمار.
نجحت هذه الفترة في تقديم هوية معمارية فريدة لحضارة المملكة المتحدة، انتقت من أساليب البناء والمعمار التاريخية المحلية ما يمكن أن يتصالح مع بريطانيا العالمية، لتصنع مزيجاً بين نمط معماري تاريخي يشبه بريطانيا الأوروبية، ويتضمن لمسة شرق أوسطية وأخرى آسيوية يليق بريطانيا العالمية.
هذه الأشكال لم تكن ابتكاراً خالصاً لـ"العصر الفيكتوري"، لكن النموذج الذي أنتجه الهجين لا يزال عامداً لمن يتجول في شوارع الأرخبيل الأوروبي إلى اليوم، بين قصر وستمنستر وقاعة ألبرت الملكية وملعب الكريكت البيضاوي في لندن، ومبنى الطوب الأحمر في جامعة ليفربول، وقاعة المدينة في مانشستر، وغيرها من المباني التي تجاوز حدود المملكة المتحدة إلى كندا وأستراليا والولايات المتحدة الأميركية، فيما بات يعرف بـ"العمارة الفيكتورية".
تجارب على امتداد الخريطة
لم تكن النهضة الحضارية حكراً على البريطانيين، إذ تملك حضارات العالم ومناطقها المختلفة تجاربها المعمارية الفريدة، إلا أن لا أحد مثل الإنجليز في التصنيف والتوثيق.
إذ يملك التاريخ القريب أو المزامن للتجربة الفيكتورية حالات مثل اليعقوبية والإغريقية، والعمارة الرومانسكية والجورجية، وغيرها التي تعد جزءاً من التراكم الفني المعماري وصولاً إلى العمارة الحديثة، ولأن المعرفة بكل أشكالها عملية تراكمية فهي تحتاج إلى التوثيق، لذا كان حرياً بالمدن الشرق أوسطية التي لم تعش على هامش التاريخ أن توثق تجاربها، فقررت الرياض أن توثّق تجربتها النهضوية في الجانب المعماري خلال السنوات الخمسين الماضية.
نصف القرن الماضي بالتحديد كان يستحق الاستعراض، فهي الفترة التي قرر فيها بناؤو الرياض الحديثة أنهم بحاجة إلى عاصمة أكثر حداثة تليق بمكانة الدولة الصاعدة على أكتاف تدفق الذهب الأسود منتصف القرن الماضي، مع تسارع صعود دورها ومكانتها في محيطها الإقليمي والعربي وحتى على الصعيد الدولي، لتتحول بقعة جغرافية طينية وسط الصحراء إلى مدينة تفوق في مساحتها مدناً ضاربة في القدم كلندن وباريس مجتمعتين، ببنية تحتية متقدمة ومبانٍ وأسواق عصرية، وفي ذات الوقت امتلكت بصمة معمارية محلية راعت فيها دور الرياض العالمي الجديد مع رغبتها بالحفاظ على لونها الطيني العريق.
يصف عبد العزيز بن محمد بن عياف، الذي شغل منصب أمين منطقة الرياض بين 1997-2012، هذه التجربة في مقال نشر في 2017 بـ"الطراز السلماني"، ويعود سبب التسمية إلى تزامنها مع فترة حكم الأمير سلمان (الملك حالياً) للعاصمة الرياض وإشرافه على مشروع التنمية فيها.
الطراز السلماني كما يسميه الأمين السابق، الذي تبنته الجهات الرسمية في أكثر من تناول، وهو مزيج بين صورة العمارة الطينية النجدية والهوية العالمية المعاصرة. وتبدو نماذج مثل هذه العمارة ماثلة في تصميم الحي الدبلوماسي في الرياض الذي بني أواخر القرن الماضي ليضم البعثات الدبلوماسية، بالإضافة إلى مركز العاصمة الذي يتوسطه قصر الحكم وجامع الإمام تركي بن عبد الله، ومطار الملك خالد، ومبنى وزارة الخارجية والمحكمة العامة وغيرها.
وبحسب هيئة فنون العمارة والتصميم السعودية، فإن بداية نمط الرياض العصري في المعمار بدأ في 1974 بعد أن اتخذ الملك سلمان حاكم الرياض في حينها قراراً بوقف عمليات البناء في العاصمة، استناداً إلى مخططات المعماري الإيطالي ماركو ألبيني، وهو الذي تسلم عدداً من المشاريع الرئيسة في المدينة خلال ورشة التنمية التي شهدتها حينها، ويعود ذلك إلى أن المخططات التي قدمها لتطوير قصر الحكم التاريخي لم تتضمن مكونات معمارية محلية كانت ضرورية للحفاظ على هوية المركز التاريخي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذلك القرار عدّه العاملون معه نموذجاً لترسية مشاريع التطوير، وتبنت إدارة المدينة خطاً رفيعاً بين المعاصرة والأصالة صُبغ على المشاريع الحكومية الرئيسة والبارزة التي شيدت في تلك الفترة.
ميثاق الملك سلمان العمراني
حاجة هذه التجربة إلى التوثيق والتفصيل دفعت وزارة الثقافة السعودية إلى إطلاق ما سمته "ميثاق الملك سلمان العمراني"، لتقدم "تعاريف لملامح الهوية العمرانية لكل أبعاد النمط ودلالاته الثقافية والاجتماعية".
وتضمن الميثاق كتاباً بحثياً يقدم تفاصيل الطراز مع أمثلة لتطبيقاته في المدينة تتضمن مخططات ودلالات تصميم، لكن مع تصفحه يظهر الطابع النجدي طاغياً بشكل كامل، وهو ما ردت عليه سميّة السلمان، الرئيس التنفيذي لهيئة فنون العمارة والتصميم في السعودية قائلة "هذا صحيح، لكن ميثاق الملك سلمان هو وثيقة حية، يتضمن الآن طابعاً نجدياً فقط لأننا بدأنا بتجربة الرياض لكونها تملك تجربة واضحة، فقررنا وضعها في إطار علمي يستطيع أي شخص العودة له للاسترشاد، وهذه دعوة للمدن والمعماريين لخلق هويات مكانية لكل مكان على حدة"، مضيفة "دورنا وضع الإطار الفكري لهذا الجانب، الآن الدور على أصحاب المهنة والجهات التي تسهم في صنع المكان أن يتبنوا الفكرة".
وحول تأثير هذا الإعلان في الطابع المعماري بعده، تضيف السلمان "الميثاق في المجتمع المعماري هو دعوة للمعماريين لتبني الطراز، هي وثيقة فيها جوانب إرشادية تدعو المؤمنين بالقيم المضمنة فيه إلى تطبيقه، لكنه ليس كود بناء، ربما تستلهم جهة ما كود بناء من الميثاق، وهذا أحد أدواره، لكنه ليس كوداً إلزامياً بذاته". وتستطرد "نحن نعتبرها استراتيجية وطنية لتغيير نظرتنا للعمارة، التطوير العقاري اليوم تحدده موضات السوق، الميثاق يجب أن يسهم في صنع قيم ثابتة ترتبط بالمكان وتتعايش مع الزمان وملائمة للعيش والاستدامة، مثل ما يبدو الحال في موقع الحفل الحالي (قصر طويق) الذي بني في الثمانينيات ولا يزال يبدو معاصراً".
وتتلخص قيم الميثاق في ستة عوامل، هي: الأصالة، وملاءمة العيش، والابتكار، وقدرته على الاستمرارية مع مرور الزمن، وأن تكون تجربة الإنسان محوراً فيه، ومستداماً متصالحاً مع بيئته.