Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قاس واستغلالي وجارح: الجانب المظلم من تشارلي تشابلن

صدور الفيلم الوثائقي الجديد "تشارلي تشابلن الحقيقي" ضمن "مهرجان لندن السينمائي" تزامن هذه السنة مع مئوية "الولد"، أول الأفلام الطويلة التي أخرجها تشابلن. جيوفري ماكناب يراجع حياة النجم الهزلي صاحب الشخصية المحيرة، لكن من دون أن ينفي عبقريته الخالدة

أوجه شبه غريبة بين تشابلن وهتلر، وهما مولودان بفاصل أيام قليلة، وتجمعهما ذائقة الشارب ذاته، وقد تحولا فيما بعد إلى غريمين لدودين (غيتي)

كان رجلاً ضئيل الجسم بقدمين كبيرتين وشارب صغير، أو على الأقل هكذا بدا على الشاشة الكبيرة. قبل مئة سنة، وبعد أن صنع أكثر من 60 فيلماً مختلفاً، أخرج تشارلي تشابلن فيلمه الطويل الأول "الولد" The Kid سنة 1921. وهو آنذاك كان سلفاً أحد أبرز الشخصيات المحبوبة في العالم. عن ذاك قال مفاخراً، "أنا معروف في أنحاء من العالم لم يسمع ناسها بيسوع المسيح".

تشابلن يعود الآن مرة أخرى إلى متن المشهد. فقد انطلقت ضمن "مهرجان لندن السينمائي" عروض الفيلم الروائي الوثائقي "تشارلي تشابلن الحقيقي" The Real Charlie Chaplin الذي أخرجه كل من بيتر ميدلتون وجايمس سبيني. إلى ذلك، فإن أعمال تشابلن لا تني تحظى بالاستعادة في دور السينما بجميع أنحاء العالم. وقد قامت شركتا التوزيع "بيسيس أوف ماجيك" Pieces of Magic و"أم كي 2" MK2، بإعادة إنتاج صيغ 4K محسنة من كلاسيكياته المعروفة، مثل "الولد" The Kid، و"الأزمنة الحديثة" (1936) Modern Times، و"حمى الذهب" (1925) The Gold Rush، و"الديكتاتور العظيم" (1940) The Great Dictator، على أن تطلق هذه الصيغ قريباً.

الأمر يمثل فرصة للأجيال الجديدة كي تكتشف تشابلن. لكن، من موقعنا اليوم، يمكن القول، إن هناك جوانب شائكة تتعلق بهذا الفنان الكوميدي صاحب قبعة الـ"بولر" الشهيرة. إذ إن حياته الخاصة خضعت لمراجعات سلبية عديدة. وقد بدا على نحو خاص ضمن هذه المراجعات أن علاقته بالنساء كانت سيئة، خصوصاً إذا ما تناولناها من منظور حركة "#أنا أيضاً". فالرجل كان مهووساً بالبنات الصغيرات.

ليليتا ماكموراي، التي عرفت معظم حياتها باسم ليتا غراي، كانت واحدة من أولئك الضحايا. وقد لعبت دور "الملاك اللعوب" الذي يتحرش بـتشابلن في فيلم "الولد" – وتلك كانت لحظة مقززة في واحد من أعظم أفلام تشابلن وأكثرها خلوداً على الإطلاق. وكانت ليتا حينها في عمر الـ12 سنة.

وفي مشهد متتابع غريب في نهاية الفيلم المذكور، يبدو تشابلن، المتشرد، منهكاً ومنهاراً عند مدخل بيت، فيغط في النوم ويدخل "أرض الأحلام". وتغدو الشوارع السكنية المعهودة حوله، فجأة، مزينة بالأزهار وتعج بالملائكة. حتى رجال الشرطة القساة والكلاب الشاردة ينبت لهم أجنحة. ويبدو المتشرد كأنه في فردوس، لكن، وفي تلك اللحظة "تتسلل الخطيئة". فيتم استدراجه من قبل حورية صغيرة، بريئة المظهر (ليتا غراي)، تحاول "إغواءه". وهو لا يتمكن من التوقف عن اللحاق بها، فتقع مشاجرة بينه وبين عشيقها.

النجم الكوميدي غدا مهجوساً بذاك الممثل الشاب. وهو في ذلك الوقت كان خارجاً للتو من طلاق شائك وقاس من زوجته الأولى، ميلدريد هاريس، التي كانت في سن الـ16 عندما تزوجا سنة 1918. وفي يوليو (تموز) 1919 أنجبا طفلاً توفي بعد ثلاثة أيام من ولادته. وفي دعوى الطلاق ذكرت هاريس متهمةً أن تشابلن كان "قاسياً عاطفياً".

 

فيما بعد تزوج النجم الكوميدي من ليتا غراي، سنة 1924، وقد اتهمته بدورها بالأمر ذاته "القسوة العاطفية" عندما انفصلا بعد ثلاثة أعوام من زواجهما. وفي منتصف الستينيات، كتبت غراي سيرة ذاتية مثيرة بعنوان "حياتي مع تشابلن؛ مذكرات حميمة" My Life with Chaplin: an intimate memoir. وذاك، كما اقترح العنوان، مثل "القصة التي لم يروها تشارلي!" و"قصة الزواج الصريحة والصادمة، التي غدت واحدة من أشهر الفضائح في كل الأزمنة".

ويصف الكتاب كيف غدا تشابلن مهووساً بـغراي خلال تصوير فيلم "الولد". وهي تذكره قائلاً لها "أنت طفلة بالغة الجمال، يا عزيزتي". كما قال لها أيضاً، إنها ذكرته بـ"رسم الفتاة في [زمن البراءة]" [رواية أميركية من سنة 1920] وأوصى بتنفيذ رسم ذاتي لها. "كنت أنظر إليك، يا عزيزتي، حين لم تكوني تنظرين إليّ. وأنا أزداد غرقاً أكثر فأكثر بعينيك الساحرتين ... فهما تجعلانك شديدة الغموض".

وأحست والدتها بالقلق إزاء تصرفاته، بيد أن تشابلن طمأنها بأنه "ليس من عادته إغواء فتيات في عمر الثانية عشرة". لكنه، بعد مرور ثلاث سنوات، وحين غدت في الخامسة عشرة من عمرها، قام بإغوائها (غراي). إذ إنها اختبرت للأداء بفيلم "حمى الذهب" ومنحت الدور الأساسي. ووفق ما يشير ديفيد روبينسون في سيرة تشابلن التي كتبها فإن "كل تقرير نشر في الصحف (آنذاك) قال إن ليتا في عمر الـ19". لكن في الواقع كانت لا تزال قاصراً. وذاك لم يوقف تشابلن عن الشروع بعلاقة معها. و(سرعان) ما غدت حاملاً. وقد أراد تشابلن منها أن تجري عملية إجهاض. وعرض عليها المال كي تتزوج شخصاً آخر. وفي النهاية، بعد تردد بالغ، جعل الكوميدي من غراي زوجته الثانية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سردية غراي عن زواجهما القصير بتشابلن كتبت بعد مرور سنوات من نهاية ذلك الزواج. والهدف من الكتاب كان الانتشار، والتسبب لتشابلن بأكبر قدر من الإحراج. لكن في كل الأحوال فإن تعامل تشابلن معها بدا قاسياً واستغلالياً، وكان يمكنه بسهولة أن يودي به إلى السجن. ويكتب روبينسون في سيرة حياة تشابلن أنه في كاليفورنيا بذلك الوقت "لو شرع رجل بعلاقة مع فتاة قاصر، فإن ذاك في الحقيقة كان سيعد اغتصاباً، ما يفرض عقوبة قد تبلغ 30 سنة في السجن".

ومن جهته يتناول وثائقي "تشارلي تشابلن الحقيقي"، بصدق وتفصيل مؤلم، علاقة تشابلن بـغراي. فالمخرجان عثرا على مقابلات تلفزيونية معها تحاول فيها جاهدة تقديم القصة من وجهة نظرها. بيد أن الجمهور كما ظهر لم يعر اهتماماً لمعاناتها، بل كان أكثر اهتماماً بالتفاصيل المالية لطلاقها اللاحق من تشابلن. وهي حين انفصلت عنه تلقت تعويضاً اعتبر رقماً قياسياً آنذاك.

وصور الإعلام غراي على أنها فتاة مراهقة مخادعة [لعوب] وماكرة، في حين أنها في الحقيقة كانت ضحية رجل ضار، يكبرها سناً. وذاك مثل فصلاً محزناً وبائساً في حياة تشابلن المهنية، غير أن شعبيته آنذاك لم تتأثر بذلك. ولم يحصل إلا بعد 20 سنة، في عام 1941، عندما أقام علاقة مع ممثلة شابة أخرى عمرها 22 سنة، هي جوان باري، أن تعرض النجم الكوميدي الذي كان في سن الـ52 لانتكاسة أسقطته من مجده. وقد بلغ الأمر ذلك الحد نظراً لاشتباه الـ"أف بي آي" في ميوله الشيوعية، هذا توازياً مع تأثير معاملته القاسية للنساء الشابات خلال حياته على صورته.

لكن، على الرغم من عنوانه، فإن الوثائقي الجديد "تشارلي تشابلن الحقيقي" لا يقترب إلى جوهر قصة الفنان أكثر مما فعلت مؤلفات السير والأفلام السابقة التي تناولته. إذ إن ابن الطبقة العاملة هذا، المتحدر من جنوب لندن، يبقى شخصية مفارقة وشديدة الغموض. ويصفه مخرجا الفيلم بأنه "لا أحد [نكرة لكنه] ينتمي للجميع". كما يرصد المخرجان أوجه الشبه الغريبة بين تشابلن وهتلر ("كلاهما مؤديان مذهلان")، وهما مولودان بفاصل أيام قليلة، وتجمعهما ذائقة الشارب ذاته، وقد تحولا فيما بعد إلى غريمين لدودين.

وقد كره النازيون تشابلن، وحظروا أفلامه، وسموه "لاعب خفة يهودي قذر". ورد تشابلن ساخراً من هتلر في فيلمه الأكثر جرأة "الديكتاتور العظيم" (1940)، الذي أدى فيه دوري الزعيم الفاشي "أدينويد هينكل"، وحلاق يهودي من الـ"غيتو".

في أفلامه الصامتة وبأدائه دور "المتشرد"، كان تشابلن مفهوماً وقريباً من كل ثقافة من ثقافات العالم. وكان شخصية متمردة ومحبوبة– يلقب بالبطل. وقد جاءت أفلامه رقيقة وحنونة، وبارعة، وبالغة الطرافة. فوقف في وجه السلطة على الشاشة، لكن خارج الشاشة كان بوسعه أن يكون سلطوياً. وهو غدا بالغ الغنى بفضل أدائه دور متشرد مفلس. أعماله الكوميدية ثارت ضد وحشية الشخصيات الرسمية – الشرطة، مديري العمل، القضاة – غير أن ذلك لم ينف تشدده، حيث قام أحياناً بمعاملة المتعاونين معه معاملة فظة.

ويروي الفيلم الوثائقي الجديد قصة الشهور الطويلة التي قضاها الفنان محاولاً تصوير مشهد متتابع أساسي في فيلمه "أضواء المدينة" City Lights سنة 1931، الذي يتناول قصة بائعة زهور عمياء تخلط بين المتشرد وشخص مليونير. وقد أذهل هوس تشابلن بالكمال خلال التصوير جميع العاملين معه.

ما الذي يعنيه تشابلن اليوم للجمهور والمشاهدين؟ صورة هذا الكوميدي راحت تتحول ببطء على مدى الـ20 والـ30 سنة المنصرمة. لقد كان مرة النجم السينمائي الأكثر شعبية في العالم، إلا أنه الآن بدأ يغدو رمزاً للثقافة النخبوية. فعندما تستعاد أفلامه، ثمة ميل لعرضها في قاعات حفلات الموسيقى الكبرى ترافقاً مع عزف أوركسترالي، أو في مهرجانات الأفلام المرموقة، مثل كان وبرلين. كما أن أفلامه تطلق من قبل موزعي دور الفنون (النخبوية)، وليس من قبل الأستوديوهات التجارية الكبرى. من جهتهم ثابر النقاد وصانعو الأفلام على الاعتراف بموقعه، بيد أن تشابلن راح يبتعد شيئاً فشيئاً من الجمهور العريض والعام. وأعماله لم تعد متوفرة بسهولة على الأقنية التلفزيونية كي يكتشفها الأولاد.

كذلك، مما لا شك فيه، فإن طريقة دمج هذا الفنان الكوميدي للضحك والعاطفة البالغة، لم ترق لجمهور السينما في المملكة المتحدة خلال الحقبة الثاتشرية في الثمانينيات والتسعينيات. في هذا السياق، وعن خروج أعمال تشابلن مما يماشي الموضة، قال الناقد السينمائي ديفيد روبينسون "لا أعرف شعباً في العالم أكثر سخرية من الإنجليز، وحين يكون المرء ساخراً لا يمكنه أن يحب تشارلي. إن كنت تهكمياً فهو في نظرك بائساً... ومجرد عاطفي لا يحتمل".

بيد أن السخرية، يمكن القول، شهدت انحساراً. فأبناء الجيل الجديد، الأكثر مثالية، باتوا يفكرون في قضايا اللامساواة البيئية والسياسية، وينبغي أن يكونوا أكثر مما كان أهلهم السئمون منذ 20 أو 30 سنة، منفتحين تجاه أعمال تشابلن. واليوم في حقبة الحرب، والهجرة الجماعية القسرية، واللامساواة والفقر، ينبغي أن يكون لأفلامه وقع جديد. لكن، على الرغم من ذلك كله، فإن ابن لامبيث هذا يرجح أن يواجه مراجعة بعد موته للطريقة التي عامل بها كل تلك النساء الشابات. إذ من الصعب الوصول إلى خلاصة أخرى غير حقيقة استغلاله وسوء معاملته لـغراي. ولو ضبط نجوم السينما وهم يتصرفون بهذه الطريقة في هذه الأيام، فإن حياتهم المهنية ستنهار على الفور، وسوف يتم "حذفهم" [إقصاؤهم] في الحال.

إلا أن تشابلن بدوره كان ضحية أيضاً: فهو شخص عانى الصدمات والطفولة البائسة. وقد فصل عن أمه غير المستقرة عقلياً بالطريقة الوحشية ذاتها التي واجهها الصبي الذي لعب دوره جاكي كوغان في فيلم "الولد". وقد تسول في الشوارع. وبعد سنوات، حتى إثر مراكمته ثروة كبيرة، بقي خائفاً من أن يجري أخذ كل شيء منه. لقد كان شخصية قلقة، عصبية المزاج، وصاحب حياة شخصية مضطربة.

كل تلك الأمور تتردد بسرعة في الخلفية حين يشاهد المرء أفلامه. بيد أن عبقريته تدوم. إذ لا أحد غيره في تاريخ السينما تمكن من إثارة الضحك وسيلان الدموع في آن واحد. وقد أظهر مقداراً من الإنسانية والمرح في أفلامه يجعل من فكرة قدرته على التصرف على هذا النحو المقيت، أكثر غموضاً وغرابة.

"تشارلي تشابلن الحقيقي" The Real Charlie Chaplin انطلق الجمعة 15 أكتوبر ضمن "مهرجان لندن السينمائي"

© The Independent

المزيد من سينما