Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

زمن أميركا أولا

إجماع خاطئ يسود سياسة واشنطن الخارجية الجديدة

الرئيس جو بايدن يصافح مؤيدين تجمعوا في حديقة البيت الأبيض أثناء "يوم الشكر" أخيراً (أ ف ب)

كان من المفترض بدونالد ترمب أن يكون خروجاً عن القاعدة، بمعنى أنه رئيس له سياسته الخارجية الخاصة والمنفصلة تماماً، لكن مؤقتاً، عن المقاربة العالمية التي طبعت سبعة عقود من التفاعلات الأميركية مع العالم. إذ لم ير ترمب في التحالفات قيمة تذكر، إضافة إلى كونه من أشد الرافضين للمؤسسات الدولية متعددة الأطراف. لذا، حرص الرئيس الأميركي السابق على الانسحاب من الاتفاقات الدولية الموجودة كـ"اتفاق باريس للمناخ" و"الاتفاق النووي الإيراني" لسنة 2015، وتملص من اتفاقات جديدة أخرى على شاكلة "الشراكة عبر المحيط الهادئ"، وظل حتى آخر يوم في ولايته يلاطف الحكام المستبدين ويوجه سهام غضبه نحو شركاء الولايات المتحدة الديمقراطيين.

للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر كأن سياسة جو بايدن الخارجية تختلف كثيراً عن سياسة ترمب. أو ليس هو من يعترف بتقديره حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في أوروبا وآسيا، ويحتفي بالتعددية، ويشيد بالتزام إدارته بـ"نظام دولي مرتكز إلى القواعد"؟ أو ليس هو من يعتبر تغير المناخ تهديداً خطيراً وتحديد الأسلحة أداة أساسية؟ نعم إنه كذلك. ويضاف إلى ذلك أنه هو من صنف الحرب في زمننا الحالي حرباً بين الديمقراطية والاستبدادية، من هنا عزمه على عقد ما يسميه "قمة الديمقراطية" لإعادة ترسيخ القيادة الأميركية في القضية الديمقراطية وإعلانه بعد فترة وجيزة من توليه البيت الأبيض أن "أميركا عادت".

في المقابل، إن تلك الاختلافات، مهما جاءت محملة بالدلالات، فإنها تغفل حقيقة أشد عمقاً قوامها وجود استمرارية أكبر بكثير مما يعترف به عادة، بين السياسة الخارجية للرئيس الأميركي الحالي وتلك التي اتبعها سلفه. وقد برزت العناصر الحاسمة لهذه الاستمرارية أثناء إدارة باراك أوباما وقبل وصول ترمب إلى الحكم، في إشارة واضحة إلى حدوث تطور طويل الأجل، بمعنى أنه يشكل نقلة نوعية في النموذج الذي تتبعه الولايات المتحدة تجاه العالم. وتحت التقلبات الظاهرية، بدأت تظهر الخطوط العريضة لسياسة خارجية أميركية لما بعد "الحرب الباردة" [بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي].

لقد انبثق نموذج السياسة الخارجية القديم من الحرب العالمية الثانية و"الحرب الباردة"، ويرتكز على الاعتراف العام بأن الأمن القومي الأميركي يعتمد على أكثر من مجرد التعامل مع شواغل الولايات المتحدة الخاصة والمحددة في إطار ضيق. فمن أجل حماية مصالح العم سام المحلية والدولية والنهوض بها، لا بد من وجود راع يساعد على إرساء نظام دولي يكون قادراً على تعزيز أمن الولايات المتحدة وازدهارها على المدى الطويل، ثم رعاية استمراره، بغض النظر عما يعتريه من نقص. وعلى الرغم من خطوات خاطئة اتخذتها واشنطن (في طليعتها، المحاولة التي أسيئت قيادتها لإعادة توحيد شبه الجزيرة الكورية بالقوة والحرب في فيتنام)، فقد أكدت النتائج، إلى حد كبير، صحة تلك الافتراضات. وربما تكون الولايات المتحدة قد تفادت الدخول في حرب قوى عظمى مع الاتحاد السوفياتي، لكنها مع ذلك أنهت "الحرب الباردة" بشروط مواتية للغاية. ومنذ انقضاء الحرب العالمية الثانية، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة ثمانية أضعاف بالقيمة الحقيقية، وأكثر من 90 ضعفاً بالقيمة الاسمية.

يدحض النموذج الجديد المبدأ الأساسي للمقاربة المستندة على أن الولايات المتحدة لها مصلحة حيوية في نظام عالمي أوسع نطاقاً، نظام يفرض عليها أحياناً القيام بتدخلات عسكرية صعبة، أو وضع تفضيلاتها الوطنية المباشرة جانباً لمصلحة المبادئ والترتيبات التي ستعود عليها بفوائد طويلة الأمد. ولا يعبر الإجماع الجديد انعزالية شاملة. ففي النهاية، فإن النهج المتشدد تجاه الصين ليس انعزالياً. بالأحرى، يعبر النموذج الجديد عن رفض تام للمقاربة الدولية. وصحيح أن بايدن اليوم تعهد "المساعدة في توجيه دفة العالم نحو مستقبل أكثر سلاماً وازدهاراً لجميع الشعوب"، لكن الحقيقة تتمثل في أن الأميركيين يتوقون إلى الاستفادة من النظام الدولي من دون أن يبذلوا جهداً في بنائه والمحافظة عليه.

الواضح أن ثمة تمسكاً شديداً بهذا النهج القومي الجديد إزاء العالم، ما ضمن له الاستمرارية على امتداد إدارات متباينة كتلك التي ترأسها أوباما وترمب وبايدن. في المقابل، هناك مسألة مختلفة تماماً تتمثل في السؤال عن إمكانية أن ينتج عن هذا النهج سياسة خارجية تعزز الأمن والازدهار والقيم الأميركية.

التبذير

على غرار ما يحدث عند أي نقلة نوعية في النموذج، فإن التبدل الذي يحدث الآن ما كان ليتحقق لولا الإخفاقات، الفعلية والمتصورة، التي حصلت خلال السنوات السابقة. لقد انتهت "الحرب الباردة" قبل 30 عاماً، بعدما دامت أربعة عقود، وخرجت الولايات المتحدة منها بقدر من التفوق لا يماثله سوى قلة من سوابق تاريخية، إن وجدت. ومذاك، أثبتت الولايات المتحدة أن لديها قوة هائلة بالقيمتين المطلقة والنسبية على حد سواء. وربما بولغ في التنويه بـ"لحظة القطب الأحادي"، لكن ليس إلى حد كبير.

إن ألقى المؤرخون نظرة استرجاعية على هذه العقود الثلاثة، لانتقدوا عن حق كثيراً مما فعلته أو لم تفعله الولايات المتحدة من موقعها كدولة عظمى. وهناك بعض الإنجازات المهمة كإعادة توحيد ألمانيا ضمن حلف "الناتو"، والتعامل المنضبط مع حرب الخليج 1990-1991، وقيادة الجهود الدبلوماسية والعسكرية نحو إنهاء الحرب والمذابح في يوغوسلافيا السابقة، وصياغة اتفاقات تجارية جديدة، وإنقاذ حياة الملايين بفضل "خطة الطوارئ الرئاسية للإغاثة من الإيدز" (بيبفار PDPFAR).

ولكن لا بد من موازنة هذه الإنجازات مع الخيبات التي هزت الولايات المتحدة خلال الفترة نفسها، سواء بقرار منها أو نتيجة إهمال. ففي تلك الفترة، لم تبذل واشنطن سوى أقل الجهد في بناء العلاقات والمؤسسات، إذ افتقرت إلى الإبداع والطموح اللذين ميزا السياسة الخارجية الأميركية في خضم الحرب العالمية الثانية. ولم تكن مبالغة ألا يتردد دين آتشيسون، الذي عمل وزيراً للخارجية خلال إدارة الرئيس ترومان [امتدت ولايته بين عامي 1945 و1953، وقاد أميركا خلال المراحل النهائية للحرب العالمية الثانية]، في عنونة مذكراته "كنت حاضراً وقت الخلق" Present at the Creation فيما لم يجرؤ أي وزير/ وزيرة للخارجية في الحقب الأخيرة، على إدراج كلمة "خلق" في مذكراته(ها). وعلى الرغم من قوة الولايات المتحدة التي لا تضاهى، فإنها لم تفعل شيئاً يذكر لرأب الفجوة المتسعة بين التحديات العالمية والمؤسسات التي أنيط بها مواجهة تلك التحديات.

إن قائمة العثرات الأميركية طويلة. هنالك فشل واشنطن إلى حد كبير في التكيف مع نهضة الصين. كذلك أفضى قرارها توسيع حلف "الناتو"، في انتهاك لمبدأ تشرشل "الشهامة في النصر"، إلى تأجيج العداء الروسي من دون تحديث ذلك الحلف أو تقويته بشكل كاف. ولم تعط أفريقيا وأميركا اللاتينية سوى اهتمام متقطع، بل محدود. إضافة إلى ذلك، هنالك الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق عقب حوادث 11 سبتمبر (أيلول)، وقد أخطأت في تصميمها وتنفيذها فنتجت عنها تجاوزات مكلفة، وبالتالي، فقد جاءت كجزء من تركيز أكبر على الشرق الأوسط الأوسع، لكنه تركيز يتحدى المنطق الاستراتيجي. لقد استثمرت إدارتا جورج دبليو بوش وأوباما حيزاً كبيراً من جهودهما وسياساتهما الخارجية في منطقة لا يتعدى سكانها الـ5 في المئة من سكان العالم، ولا تضم قوى عظمى وتعول اقتصاداتها بصورة خاصة على أصول الوقود الأحفوري الضائعة.

لدى تقييم السياسة الخارجية للولايات المتحدة بعد "الحرب الباردة"، يتبادر إلى الذهن كلمة "التبذير". لقد ضيعت الولايات المتحدة على نفسها فرصتها الأفضل في تحديث النظام الذي خاض "الحرب الباردة" بنجاح، ليتلاءم مع حقبة جديدة من التحديات والخصومات. وفي الموازاة، بفضل الحروب في أفغانستان والعراق، ثار الرأي العام الأميركي ثورةً عاتية على ما اعتبر سياسة خارجية فاشلة ومكلفة. وقد وصل الأمر بالأميركيين إلى حد تحميل قطاع التجارة مسؤولية انقراض الملايين من الوظائف الصناعية (مع أن التكنولوجيات الجديدة هي الملام الرئيس)، واستفحال اللامساواة تحت وطأة الأزمة المالية سنة 2008، ووباء كورونا المستجد، وموجة التشكيك الشعبوي بالنخبة. وفي مواجهة المشاكل الداخلية المتراكمة، من بنى تحتية متدهورة وتعليم رسمي متعثر، بات الأميركيون ينظرون إلى تدخل إداراتهم في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، باعتبارها إلهاء باهظ الكلفة. وقد مهد هذا التغيير الطريق أمام نهج جديد في السياسة الخارجية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الخصومة الحادة

يتمثل عامل الاستمرارية الأول والأبرز بين ترمب وبايدن في مركزية خصومة القوى العظمى، لا سيما مع الصين. إذ لم تشهد سياسة الولايات المتحدة إزاء العملاق الأصفر تغيراً يذكر مذ تولى بايدن مقاليد الحكم. وبحسب ماثيو بوتينجر، أحد كبار المسؤولين في مجلس الأمن القومي في عهد ترمب والمهندس الرئيسي للسياسة التي اعتمدتها تلك الإدارة تجاه الصين، وقد دونت في هذه الصفحات [مجلة فورين آفيرز]، "لقد حافظت إدارة بايدن بدرجة كبيرة على سياسة سابقتها". وتحدث الرئيس بايدن نفسه عن "الخصومة الشديدة" مع الصين فيما أعلن منسقه الخاص لشؤون المحيطين الهندي والهادي أن "الفترة التي وصفت على نطاق واسع بأنها فترة مشاركة، ولت إلى غير رجعة". ومن شأن هذا الوضع الجديد أن يعكس خيبة الأمل التي تعم أرجاء مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية في ظل الجهود المبذولة لدمج الصين ضمن الاقتصاد العالمي والنظام الدولي الأوسع، إضافة إلى القلق الشديد حيال كيفية استخدام بكين قوتها المتزايدة في الخارج والقمع في الداخل.

وكذلك يمكن لمس الاستمرارية بين الإدارتين في مقاربتهما حيال تايوان، باعتبارها بؤرة التوتر الأكثر احتمالاً بين الولايات المتحدة والصين. فبعيداً من إلغاء السياسة التي أصدرت في الأسابيع الأخيرة لإدارة ترمب وأزالت القيود المفروضة على التفاعلات الرسمية بين المسؤولين الأميركيين والتايوانيين، ارتأت إدارة بايدن تطبيق تلك السياسة بفاعلية، مع الترويج لاجتماعات رفيعة المستوى بين المسؤولين الأميركيين ونظرائهم التايوانيين. وفيما دأبت إدارة ترمب على تحسين العلاقات بين الولايات المتحدة وتايوان، شددت إدارة بايدن في مناسبات عدة دعمها "الصلب" لتايوان، وزرعت لغة تؤكد أهمية استقرار ضفتي المضيق، في بيانات مشتركة مع الهيئات العالمية على غرار "مجموعة الدول السبع"، والحلفاء الآسيويين كأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية.

ولا تتوقف الاستمرارية بين الإدارتين عند حدود المسألة التايوانية. لقد أبقت إدارة بايدن على التعريفات الجمركية والضوابط التصديرية التي اعتمدت في عهد ترمب، وثمة تقارير تفيد بأنها تعمل حالياً على إمكانية إطلاق تحقيق بشأن الإعانات الضخمة التي تقدمها الصين للصناعة فيها. كذلك، ضاعفت إدارة بايدن انتقادها لموقف الصين الرافض إجراء تحقيق مستقل في أصل وباء كورونا، وأضفت مصداقية على إمكانية تسرب ذلك الفيروس التاجي المستجد من مختبر في مدينة "ووهان" الصينية. وعلى خطى سابقتها، وصفت إدارة بايدن قمع بكين لمسلمي الإيغور في شينجيانغ بـ"الإبادة الجماعية"، ونددت أيضاً بانتهاكها مبدأ "دولة واحدة ونظامين" في هونغ كونغ. وفوق ذلك كله، كثفت إدارة بايدن جهودها من أجل الدفع قدماً بـ"الحوار الأمني الرباعي" (كواد Quad) الرامي إلى تعزيز التعاون بين أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة، وأطلقت مبادرة استراتيجية تكميلية مع أستراليا والمملكة المتحدة. وكذلك لم تتوقف عن استعمال مصطلح "المحيطين الهندي والهادي" الذي أدخلته إدارة ترمب في الاستخدام الرسمي الشائع.

ثمة استمرارية أكثر مما يعترف به عادة بأشواط، بين السياسة الخارجية لجو بايدن وتلك التي اتبعها دونالد ترمب

وفي مقابل هذه التشابهات، ثمة اختلافات أكيدة في كيفية مقاربة إدارة بايدن بعض المسائل المهمة والتعاطي معها، من قبيل التركيز على إيجاد طرق للتعاون في مجال تغير المناخ، وقرارها الامتناع عن ترديد دعوة وزير خارجية ترمب، مايك بومبيو، إلى تغيير النظام في بكين، إضافة إلى محاولة بناء موقف مشترك مع الحلفاء. وفي المقابل، لم تحل هذه الاختلافات دون انتشار وترسيخ الرأي القائل بأن الصين المنافس الرئيس، بل الخصم، للولايات المتحدة، ما يعني أن التشابهات بين الإدارتين تفوق بأشواط الفوارق المختلفة.

وينطبق الوصف نفسه تقريباً على سياسة واشنطن إزاء القوة الكبرى الأخرى المنافسة لها. فمنذ وصول بايدن إلى سدة الرئاسة، راوحت السياسة الأميركية الروسية مكانها، ولم تفقد من مرتكزاتها سوى الإعجاب غير المبرر الذي كنه ترمب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ولكن أياً كانت نظرة ترمب الشخصية للقيصر، فإنها لم تؤثر في مواقف إدارته من روسيا فظلت على قدر كبير من الحزم والصرامة. ونذكر من بين تلك المواقف التي لا يزال معمولاً بها في عهد بايدن، فرض [إدارة ترمب] عقوبات جديدة على موسكو، وإغلاق القنصليات الروسية في الولايات المتحدة وتوطيد الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا. يبدو أن الهدف الأول والأخير للإدارتين في ما يخص سياسة الولايات المتحدة تجاه روسيا، هو الحد من الأضرار، أو بالأحرى، منع التوترات، في أوروبا أو الفضاء الإلكتروني، من التدهور إلى مستوى أزمة. واستطراداً، وحتى رغبة بايدن في توسيع دائرة اتفاقات تحديد الأسلحة بين أميركا وروسيا وبدء محادثات "الاستقرار الاستراتيجي"، فإنها تهدف إلى الحيلولة دون وقوع مزيد من الأضرار، وليس إحراز مزيد من التقدم. من الواضح أن محاولات "إعادة ضبط" إيقاع العلاقة مع موسكو قد ولت منذ زمن بعيد.

القومية الأميركية

يترافق هذا التركيز على القوى العظمى مع احتضان مشترك للقومية الأميركية. إذ تبنت إدارة ترمب بشغف شعار وفكرة "أميركا أولاً" على الرغم من أصول تلك التسمية، ارتباطاً بخط انعزالي تلوح فيه مشاعر التعاطف مع ألمانيا النازية. في المقابل، فضلت إدارة بايدن التكتم على قوميتها لكن شعارها المتمثل في "سياسة خارجية للطبقة الوسطى" يعكس ميلاً مماثلاً بعض الشيء [لما لدى ترمب].

لقد ميزت نزعة "أميركا أولاً" بالفعل استجابة إدارة بايدن الأولية لوباء "كوفيد-19". وتشهد على ذلك محدودية الصادرات الأميركية من اللقاحات وتأخير عمليات التسليم على الرغم من تجاوز العرض المحلي للطلب، والجهود المتواضعة التي بذلت في سبيل توسيع القدرات التصنيعية المحلية بما يتيح زيادة الصادرات. ويتسم هذا التركيز المحلي بقصر النظر، إذ استطاعت متغيرات شديدة العدوى أن تظهر في مناطق أخرى من العالم قبل أن تصل إلى الولايات المتحدة وتلحق ضرراً جسيماً بها. وكذلك أطاح [التركيز المحلي] بفرصة واشنطن الذهبية لصقل النوايا الحسنة على الصعيد الدولي من خلال إظهار تفوق التكنولوجيا الأميركية وكرمها في مواجهة دبلوماسية اللقاحات الصينية والروسية.

ولأن صياغة السياسة التجارية الأميركية تجري عبر قوى مماثلة، يمكن اعتبارها دليلاً إضافياً على الاستمرارية بين ترمب وبايدن. لقد تجنب الأخير مغالاة الأول ومبالغته في مهاجمة الاتفاقات التجارية باستثناء تلك التي تفاوضت عليها إدارته. (ولا يهم إن جاءت اتفاقات إدارة ترمب في الغالب نسخاً محدثة من اتفاقات قائمة، على غرار "اتفاق الولايات المتحدة والمكسيك وكندا" الذي لا يختلف كثيراً عن "اتفاق التجارة الحرة لأميركا الشمالية" (نافتا) المُنَدَّد به [مِنْ ترمب]، وكذلك فإنه اقتبس مقاطع كثيرة من نص "اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ" المندد به بالمقدر نفسه [من التنديد باتفاق نافتا]، مع بعض التعديلات). واستطراداً، لم تظهر إدارة بايدن سوى قليل من الاهتمام، إن وجد، بإصلاح "منظمة التجارة العالمية" أو التفاوض على اتفاقات تجارية جديدة أو الانضمام إلى اتفاقات قائمة، من ضمنها "اتفاق الشراكة الشاملة والتدريجية عبر المحيط الهادي" وهو النسخة الموسعة لـ"اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادي"، على الرغم من وجود أسباب اقتصادية واستراتيجية هائلة تدفع إلى فعل ذلك. إذ يؤدي عدم مشاركة الولايات المتحدة في ذلك الاتفاق إلى تركها على هامش النظام الاقتصادي للمحيطين الهندي والهادي ويضيع عليها فرص الاستفادة من مجالات أخرى على غرار تحقيق أهداف المناخ العالمي عن طريق فرض ضريبة كربونية عبر الحدود أو استغلال الصفقة في توفير ثقل اقتصادي مقابل وزن الصين.

النهج الأميركي القومي المستجد تجاه العالم غير ملائم للولايات المتحدة على الإطلاق، وحافل بالتناقضات التي تحمل في طياتها بذور فنائها

الانسحاب بأي ثمن

ترتكز سياسة أميركا الخارجية الجديدة في جوهرها على الرغبة الجامحة في الانسحاب من الشرق الأوسط الأوسع، مرتع الحروب الأبدية التي أدت ولا تزال، دوراً كبيراً في تغذية التغير في نموذج السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وتعتبر أفغانستان أبرز مثل على ذلك الزخم المشترك [بين إدارتي ترمب وبايدن]. ففي فبراير (شباط) 2020، وقعت إدارة ترمب اتفاقاً مع طالبان يحدد 1 مايو (أيار) 2021 موعداً نهائياً لانسحاب القوات الأميركية من البلاد. لكن المفاوضات الخارجة من رحم ذلك الاتفاق تعثرت وأضعفت موقف الحكومة الأفغانية، كذلك فشل الاتفاق ذاته في دعوة عناصر "طالبان" إلى إلقاء أسلحتهم أو حتى الالتزام بوقف إطلاق نار. واستناداً إلى ذلك، لم يكن الاتفاق بين ترمب و"طالبان" اتفاق سلام بمقدار كونه معاهدة بشأن تسهيل الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان.

وحين تسلم بايدن زمام السلطة، بدا أن المقاربة الواسعة المدى التي تميزت بها استراتيجية الولايات المتحدة في أفغانستان، صارت مجرد شيء من الماضي. إذ انخفض عديد القوات الأميركية من 100 ألف في عهد أوباما إلى أقل من 3 آلاف [في عهد ترمب]، وانحسر دورها إلى مجرد تدريب القوات الأفغانية ودعمها وتقديم المشورة لها. وكذلك تراجعت حصيلة الوفيات الناجمة عن المعارك الأميركية مع انتهاء العمليات القتالية في 2014 (أي قبل سنوات من إبرام الاتفاق بين الولايات المتحدة و"طالبان"). ومذاك، شكل الوجود الأميركي المتواضع حزام أمان لحوالى 7 آلاف جندي من الدول المتحالفة (وعدد أكبر من المتعاقدين)، ودعماً نفسياً وعسكرياً للحكومة الأفغانية، باعتبار أن هذا الوجود يكفي لتجنب انهيار كابول، لكنه ليس كافياً لإحراز النصر أو السلام. على ما يبدو، لقد تمكنت الولايات المتحدة، أخيراً، بعد 20 سنة، من إيجاد مستوى من الالتزام في أفغانستان يتناسب مع المخاطر.

ومع ذلك، رفضت إدارة بايدن خياري إعادة التفاوض والإلغاء، واستبدلتهما بالحفاظ على الاتفاق الذي أبرمه ترمب بكل الطرق ما عدا واحدة تمثلت في تمديد الموعد النهائي للانسحاب العسكري الأميركي الكامل من أفغانستان بنحو 100 يوم، أي حتى 11 سبتمبر (أيلول) 2021 (لكن الإجلاء الفعلي انتهى قبل الموعد المحدد له). ومن وجهة نظر بايدن، لا يمكن ربط انسحاب القوات الأميركية بالظروف على أرض الواقع أو حدوث أفعال إضافية من قبل حركة "طالبان". وعلى غرار ترمب قبله، اعتبر بايدن الحرب في أفغانستان "حرباً أبدية"، وصمم على الخروج منها بأي ثمن. ولم يكتف بايدن بتنفيذ السياسة التي ورثها عن سلفه، بل فعلت إدارته ذلك بطريقة ترمبية، إذ حجمت مشاوراتها مع الآخرين وتركت حلفاء "الناتو" في صراع (أججته قرارات أخرى، من طراز استبدال المبيعات الفرنسية للغواصات إلى أستراليا أو التباطؤ في رفع القيود المتعلقة بفيروس كورونا عن القادمين إلى الولايات المتحدة من أوروبا). وقد أخلت التعددية المترافقة مع سياسة خارجية تعطي الأولوية للتحالفات، الطريق أمام الأحادية ووضع عبارة "أميركا أولاً" موضع التطبيق.

وفي سائر بلدان الشرق الأوسط الأوسع، أبقت إدارة بايدن على نهج ترمب في الحد من الوجود الأميركي فيه. إذ قاومت إغراءات زيادة انخراطها في سوريا أو ليبيا أو اليمن، وأعلنت عن نيتها الاحتفاظ بوحدة عسكرية صغيرة على الأراضي العراقية، واعترفت بـ"اتفاقات إبراهام" أثناء مشاركتها على مضض في الجهود الدبلوماسية لإنهاء القتال بين إسرائيل و"حماس"، وتحاشت إطلاق أي محاولة جديدة للتوصل إلى اتفاق سلام بين إسرائيل وفلسطين.

للوهلة الأولى، قد تبدو إيران كأنها استثناء صارخ من التشابه الأوسع نطاقاً. لقد كان ترمب ناقداً حاداً لـ"الاتفاق النووي الإيراني" (الذي جرى التفاوض بشأنه سنة 2015 حينما كان بايدن نائباً للرئيس)، وانسحب أحادياً منه سنة 2018. في المقابل، أعربت إدارة بايدن (التي تضم مسؤولين رفيعي المستوى ممن كان لهم دور أساسي في التفاوض على ذلك الاتفاق) عن رغبتها في إعادة إحياء الصفقة. لكن يبدو أن هذه الخطوة أسهل قولاً منه فعلاً، إذ لم تتمكن الحكومتان حتى الآن من الاتفاق على التزامات محددة أو تتابع زمني. ويضاف إلى ذلك أن الحكومة الإيرانية الجديدة المتشددة لم تبد أي اهتمام بتوقيع اتفاق من النوع "الأطول والأقوى" الذي تسعى إليه إدارة بايدن. وبالتالي، فقد تواجه هذه الأخيرة الخيارات نفسها التي واجهتها سابقتها، مع تعزيز إيران قدراتها النووية والصاروخية ونفوذها في جميع أنحاء المنطقة. وحتى لو وافقت إيران مرة أخرى على قيود محدودة المدة على نشاطاتها النووية، فلا يزال يتعين على الولايات المتحدة أن تقرر كيفية الرد على الاستفزازات الإيرانية الأخرى.

يتوق الأميركيون إلى الاستفادة من النظام الدولي من دون أن يبذلوا جهداً في بنائه والمحافظة عليه

مسألة القيم

حتى في ما يتعلق بالقضايا التي يختلف فيها خطاب بايدن كلياً عن خطاب ترمب، لم تكن التبدلات السياسية يوماً على قدر التوقعات. ويظهر ذلك جلياً في وجهات نظر الرئيسين حول دور القيم في السياسة الخارجية. لقد كان ترمب قائداً إدارياً بامتياز، لكنه اعتبر الديمقراطية عائقاً ولطالما سعى إلى إقامة علاقات شخصية وثيقة مع عديد من قادة العالم المستبدين. كان يهوى امتداح بوتين وتبادل "رسائل الحب" مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون. وأشاد دوماً بالرئيس الصيني شي جينبينغ والرئيس التركي رجب طيب أردوغان والمجري فيكتور أوربان، على عكس قادة حلفائه الديمقراطيين، وفي طليعتهم المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو. ولم يكف ترمب يوماً عن تشويه سمعة [أولئك الحلفاء] ولم يتردد حتى في فرض رسوم جمركية على كندا والاتحاد الأوروبي.

وفي المقابل، أعلن بايدن أن الولايات المتحدة في "صراع مع الحكام المستبدين"، كي يكشف بعدها عن خططه لعقد "قمة من أجل الديمقراطية" ويتعهد بإعطاء الأولوية لروابط بلاده مع الدول التي تقيم وزناً للقيم الأميركية. لكن هذه الالتزامات، على الرغم من صدقيتها، لم تجعل توطيد احترام حقوق الإنسان والديمقراطية جزءاً أكثر بروزاً في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. كذلك لم تؤد التعابير المبررة عن الغضب إلى تغييرات كبيرة في سلوك الآخرين، ذلك أن الذين استهدفهم هذا الغضب عموماً كانوا مستعدين وقادرين على استيعاب الانتقادات وحتى العقوبات الأميركية، بفضل تبلور مصادر دعم بديلة. ويمكن القول، إن ميانمار ما بعد الانقلاب العسكري خير مثل على ذلك. إذ فرضت الولايات المتحدة عقوبات على أعضاء النظام في ميانمار، لكن الهبات الصينية والدعم الدبلوماسي كانت لها بالمرصاد، وساعدت الجيش على الصمود. كذلك لم تفعل واشنطن سوى القليل في الرد على حوادث كرد الفعل الوحشي للحكومة الكوبية حيال الاحتجاجات الصيف الماضي، أو اغتيال رئيس هايتي.

واستطراداً، من المتعارف عليه أن الرؤساء المتعاقبين للولايات المتحدة سمحوا بتنحية الالتزامات المعلنة عن حقوق الإنسان والديمقراطية جانباً كلما برزت مصالح أو أولويات أخرى. وبسبب هذا التصرف، قلما كان "العالم الحر" خلال حقبة "الحرب الباردة" حراً بكل ما للكلمة من معنى. لكن وتيرة تلك المفاضلات وحدتها تزايد حاضراً مع هذه التبدلات الواسعة في السياسة الخارجية الأميركية اليوم، مع تشديدها على الخصومة بين القوى العظمى والأولويات المحلية قصيرة الأجل. ومثلاً، في المنطقة المحيطة بالصين، غضت إدارة بايدن الطرف عن الشواغل إزاء انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها رئيس الفيليبين رودريغو دوتيرتي تسهيلاً لعمل الجيش الأميركي في بلاده، وعززت علاقاتها مع فيتنام، وهي دولة أوتوقراطية أخرى يحكمها حزب شيوعي. ووقعت مع موسكو اتفاقاً كبيراً للحد من التسلح، متغاضيةً عن اعتقال السلطات الروسية زعيم المعارضة أليكسي نافالني. وإضافة إلى ذلك، تجاهلت إدارة بايدن إلى حد كبير صعود القومية الهندوسية في الهند لمصلحة روابط أكثر متانة قد تحقق لها التوازن المرجو مع الصين.

وعلى خلفية انسحابها من أفغانستان بطريقة سيئة للغاية وتخليها عن عديد من الأفغان المعرضين لخطر عمليات الانتقام من قبل "طالبان"، خسرت واشنطن اليد العليا. لقد تخلت الولايات المتحدة عن المشروع الذي لعب دوراً مهماً في تحسين حياة ملايين الأفغان، في مقدمتهم النساء والفتيات، على الرغم من كل نواقصه وعيوبه. وبالطبع، يضاف إلى تلك الخسارة الواقع المحزن لهشاشة وضع الديمقراطية في الداخل الأميركي، لا سيما في أعقاب تمرد السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، وتقويضه قدرة واشنطن على ترويج قيم الديمقراطية خارج حدودها.

ولا يعني أي من تلك المعطيات أنه لا توجد مجالات اختلاف مهمة بين إدارتي ترمب وبايدن بشأن السياسة الخارجية للولايات المتحدة. فلنفكر مثلاً في مسألة تغير المناخ. لقد أخلى الإنكار المناخي [في إدارة ترمب] الطريق أمام استثمارات جديدة في التكنولوجيا الخضراء والبنى التحتية، وتنظيم إنتاج الوقود الأحفوري واستخدامه، والمشاركة في عملية باريس حول التنقل والمناخ [في إدارة بايدن]. ولكن، نادراً ما حظيت تلك المجالات بالأولوية، في ظل وجود قضايا أخرى على المحك، يعبر كثير منها عن مزيد من الاستمرارية. إذ لم ترغب واشنطن يوماً في استخدام التجارة لتحقيق الأهداف المناخية، أو معاقبة البرازيل بسبب تدميرها غابات الأمازون، أو تقديم مساهمات مجدية لمساعدة أكثر البلدان فقراً في الانتقال إلى الطاقة الخضراء.

المشكلة مع الاستمرارية

من الناحية النظرية، يفترض بمزيد من الاستمرارية في السياسة الخارجية الأميركية أن يكون أمراً جيداً. ففي النهاية، لا يمكن لقوة عظمى أن تكون فاعلة إذا كانت سياستها الخارجية تترنح من إدارة إلى أخرى على نحو يثير ريبة الحلفاء ويتيح الفرص للخصوم ويربك الناخبين ويعرقل تنفيذ أي التزام طويل الأمد ببناء معايير ومؤسسات عالمية. وليست مشكلة النهج الأميركي الجديد تجاه العالم في انعدام الإجماع السياسي المحلي، بل على العكس من ذلك، فهناك قدر كبير من التوافق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة. بالأحرى، تكمن المشكلة في عدم كفاية الإجماع وعجزه عن تقدير مدى تأثير التطورات الحاصلة على بعد آلاف الأميال في ما يجري على أرض الوطن.

ناهيك عن ازدحام هذا الإجماع بالتناقضات التي تدمر نفسها بنفسها، لا سيما في الشأن الصيني. إذ يتطلب ردع الصين زيادة مطردة في الإنفاق العسكري ورغبة أكبر في استخدام القوة (نظراً إلى أن عملية الردع الناجحة لا تنحصر بالقدرة على التحرك، بل تتعداها لتشمل إرادة مدركة في إتمام هذا التحرك). لكن، يبدو أن كثيراً من الجمهوريين وقليلاً من الديمقراطيين يدعمون الأول [زيادة الإنفاق العسكري]، فيما قلة قليلة من الجانبين يتفقون على الثاني [رغبة أكبر في استخدام القوة]. إذ يفضل الحزبان الجمهوري والديمقراطي ارتقاءً رمزياً في العلاقات الأميركية التايوانية، مع أن الذهاب بعيداً جداً في هذا الاتجاه قد يفضي إلى صراع مكلف بين الولايات المتحدة والصين. وبمقدار ما تنظر الولايات المتحدة إلى الصين كخصم، لا تزال واشنطن بحاجة إلى دعم بكين إذا ما أرادت التصدي لمجموعة من التحديات الإقليمية والعالمية، بما في ذلك كوريا الشمالية وأفغانستان والصحة العالمية. وربما تكون إدارة بايدن قد تحدثت كثيراً عن دعمها التحالفات، لكن حلفاء الولايات المتحدة غير مستعدين، في حالات كثيرة، للمضي قدماً في ما تراه الإدارة الأميركية ضرورياً لمواجهة الصين. وبالفعل، عندما يتعلق الأمر بكل من الصين وروسيا، فإن غالبية حلفاء الولايات المتحدة تقاوم دعواتها إلى الحد من العلاقات التجارية والاستثمارية في القطاعات الحساسة [مع الصين وروسيا] بسبب دواع جيوسياسية. وفي النهاية، إن المواقف لا تصنع سياسة.

وصحيح أن التنافس مع الصين أمر ضروري، إلا أنه لا ينفع مبدأً تنظيمياً للسياسة الخارجية الأميركية في حقبة تحددها التحديات العالمية بشكل متزايد، وتشمل تغير المناخ والأوبئة والإرهاب والانتشار وتعطيل الإنترنت، وما يتأتى عنها من تكاليف بشرية واقتصادية هائلة. لنتخيل أن الولايات المتحدة نجحت في ردع الصين عن استعمال العدوانية ضد جيرانها، من تايوان إلى الهند فاليابان، وفي بحر الصين الجنوبي. وأفضل من ذلك، لنتخيل أن الصين توقفت عن سرقة الملكية الفكرية الأميركية وتجاوبت مع مخاوف الولايات المتحدة بشأن ممارساتها التجارية. فحتى آنذاك، سيظل بإمكان بكين إحباط جهود الولايات المتحدة في مواجهة التحديات العالمية من خلال دعم الطموحات النووية الإيرانية والكورية الشمالية، وشن هجمات سيبرانية عدوانية، وبناء مزيد من محطات الطاقة بالفحم، والاعتراض على إصلاح "منظمة الصحة العالمية" و"منظمة التجارة العالمية".

ولا تتوقف التناقضات في السياسة الخارجية الأميركية عند هذا الحد. وبعدما بينت الحرب في أفغانستان دعم الأميركيين المحدود لبناء الدول، لكن تعزيز قدرات الأصدقاء أمر أساسي في جزء كبير من أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط، إذا أرادت حكومات تلك الدول تطوير إمكاناتها في مواجهة التحديات الأمنية المحلية، كمتطلب أساسي كي تكون ديمقراطية وتخفف الحمل عن الولايات المتحدة. وكذلك فإن المشاركة في التكتلات التجارية ليست مرغوبة لأسباب اقتصادية فحسب، بل للمساعدة أيضاً في لجم ممارسات الصين التجارية المجحفة والتخفيف من آثار تغير المناخ. وفي ذلك الإطار، ترسي القومية الاقتصادية (خصوصاً بنود "اشتر المنتجات الأميركية")، سابقة مهمة من شأنها، إذا اتبعها الآخرون، أن تضعف التجارة العالمية، وتعمل أيضاً بالضد من المقاربات التعاونية في تطوير وإدخال تقنيات جديدة يمكنها أن تسهل المنافسة مع الصين. وفي الشرق الأوسط، على الرغم من كل التركيز على الحد من التدخل الأميركي، من غير الواضح بعد كيف يمكن لتخلي أميركا عن التزاماتها أن يقوض نية إيران تطوير قدراتها النووية والصاروخية وتوسيع نفوذها الإقليمي، سواء بشكل مباشر أو من خلال الوكلاء. واستطراداً، لا يمكن لنجاح الجهود الحالية الرامية إلى إحياء الاتفاق النووي لسنة 2015، أن يغير الواقع، نظراً إلى إغفال الاتفاق عن عدة نقاط مهمة، وانقضاء مدة الشروط بالنسبة إلى القيود النووية.

حدوث حالة فوضى عارمة عالمية ستزيد صعوبة تحقيق هدف "إعادة البناء على نحو أفضل"

أميركا وحدها

بصرف النظر عن إخفاقات نموذج السياسة الخارجية الجديد، لم يعد هناك مجال للتراجع عنه، إذ لا يقدم التاريخ فرصاً ثانية، كذلك لا ينبغي لواشنطن أن تعود إلى السياسة الخارجية التي منيت بفشل ذريع على مدى ثلاثة عقود من الزمن.

وبالتالي، لا بد من أن تتمثل نقطة الانطلاق بالنسبة إلى سياسة دولية جديدة، في الاعتراف الواضح والصريح بأن السياسة الخارجية تبدأ من الداخل لكنها لا تنتهي عنده. إذ تواجه الولايات المتحدة، بقطع النظر عن نفوذها المتضائل وانقساماتها الداخلية العميقة، عالماً ممتلئاً بالتهديدات الجيوسياسية التقليدية والتحديات الجديدة المرتبطة بالعولمة. كذلك يتوقع من رئيس أميركا أن يدأب على إيجاد حل لكل ما يؤرق داخلها من دون إهمال ما يحدث في الخارج. وكلما زادت حالة الفوضى في العالم، تفاقمت صعوبة تحقيق "إعادة البناء بشكل أفضل" أو أي شعار يجري اختياره للتجديد المحلي، هذا إن لم تصبح مستحيلة. ولقد أقر بايدن بأن "حقيقة القرن الحادي والعشرين الأساسية، مفادها أن نجاحنا يتوقف على نجاح الآخرين"، ويبقى السؤال عن مدى تمكن إدارته من ترسيخ هذه الحقيقة في سياستها الخارجية، صياغةً وتنفيذاً.

ولا يمكن للولايات المتحدة أن تنجح بمفردها. وحري بها أن تضع يدها بيد الآخرين، سواء عبر الوسائل الرسمية أو غير الرسمية، لإرساء القواعد والمعايير الدولية وتنظيم العمل الجماعي. إذ يستلزم التوصل إلى مثل هذا النهج مشاركة الحلفاء التقليديين في أوروبا وآسيا وشركاء الجدد من الدول التي قد تحتاج إلى مساعدة أميركية أو دولية في الداخل، ودول غير ديمقراطية. وكذلك يستلزم الأمر نفسه أيضاً استعمال جميع أدوات القوة لدى الولايات المتحدة، من دبلوماسية وتجارة ومساعدات واستخبارات وجيش. وفي هذه المرحلة، سوف يكون على واشنطن ألا تخاطر في ترك عدم القدرة على التنبؤ يؤثر في سمعتها. إذ ستعمل الدول الأخرى على تقرير إجراءاتها بنفسها، لا سيما حينما تتعلق الأمور بصنع توازن مع الصين أو استيعابها، وستفعل ذلك بالاستناد بشكل غير صغير، إلى مدى نشاط الإدارة الأميركية وإمكانية الاعتماد عليها كشريك.

وفي غياب نظرة دولية أميركية جديدة، من المرجح أن يكون العالم أقل حرية وأكثر عنفاً وأقل استعداداً أو قدرةً على مواجهة التحديات المشتركة. ومن المفارقة الساخرة والخطيرة أنه في الوقت الذي باتت فيه الولايات المتحدة أكثر تأثراً بالتطورات العالمية من أي وقت مضى، خفت رغبتها في صوغ سياسة خارجية ترسم معالم تلك التطورات.

 

*ريتشارد هاس هو رئيس مجلس العلاقات الخارجية ومؤلف كتاب "العالم: مقدمة موجزة" (The World: A Brief Introduction).

مترجم من فورين أفيرز، نوفمبر(تشرين الثاني)/ ديسمبر (كانون الأول) 2021

المزيد من آراء