يأتي صدور رواية الكاتبة السنغالية الفرنكوفونية الشابة دياري سو "إني راحلة" (دار روبير لافون) بعد هبوب عاصفة إعلامية في موطنها الأصلي السنغال بسبب اختفائها الطوعي في يناير (كانون الثاني) الماضي في باريس، حيث تدرس، حتى إن الرئيس السنغالي ماكي سال، أصدر تعليمات حينها بالعثور على الطالبة المختفية.
لا يبدو عنوان "إني راحلة" الذي اختارته سو لروايتها الثانية، مجرد عنوان ينسجم مع الأحداث التي تضمنها النص، بقدر ما يعبر عن حالة الكاتبة نفسها التي اختارت الفرار بشكل دراماتيكي، ثم العودة معلنة عن رغبتها في الرد ومعاقبة كل من سخر منها عبر روايتها الجديدة.
قررت سو في لحظة اضطراب وقعت فيها "أسيرة فكرة الهوية ونظرة الآخرين"، كما أوضحت في عدة لقاءات، أن تغادر باريس من دون أن تخبر أحداً، عادت إلى بلدها، واختبأت في منتجع ساحلي في منطقة" مبور" التي تبعد ثمانين كيلومتراً عن العاصمة داكار.
الشابة الهاربة
لا تبتعد سو في روايتها عن قصتها الشخصية، فالرواية أيضاً عن شابة تهرب من أجل الرد على الانتقادات التي طاولتها واستعادة حياتها، لكن فرار دياري سو لم يكن في صالحها، إذ اعتبرت النخبة الثقافية للجالية السنغالية في فرنسا تصرف الطالبة المتفوقة التي حصلت على منحة للدراسة في فرنسا تصرفا طائشا وغير مسؤول. جاء قرار سو بالفرار سراً بعد نشر روايتها الأولى "خلف وجه الملاك"، التي لم تحظَ بالنجاح الذي حلمت به. أما رواياتها الثانية فقد كتبتها بمثابة إعادة اعتبار أو تبرير لما قامت به. لقد قارن البعض بين تصرفها الانهزامي الذي يتعمد لفت الأنظار، وما وصل إليه مواطنها الكاتب محمد موبغار سار، في حصوله على جائزة الغونكور لهذا العام، وعبر الشاعر أحمدو لامين سال عن موقفه قائلاً: "لو تعمل بجد واجتهاد ربما تصبح كاتبة مهمة خلال الأعوام القادمة".
بطلة رواية "إني راحلة"، تدعى كورا، وهي شابة فرنسية من أصل سنغالي، تستيقظ في أحد الصباحات الشتائية، وتقرر أن تمضي بعيداً متجهة إلى أمستردام لتبحث عن نفسها، تاركة أسرتها وأصدقاءها في باريس، ماضية تبحث عما ضاع منها في حمى الضغوط النفسية التي تعرضت لها، لكن دوراً تعمل في عرض الأزياء وغيابها يظهر سريعاً، ويبدأ البحث عنها. يشكل الخلط بين الواقع والخيال نقطة جوهرية في هذه الرواية بسبب مرور الكاتبة بتجربة مشابهة إلا أنها تنكر هذا الأمر قائلة: "كورا ليست أنا، وأنا لست هي، لقد ألهمتني تجربتي كثيراً لإعطاء نبض حقيقي للشخصية".
ومن ضمن الفروق بين الكاتبة وبطلتها أن دياري سو، عاشت طفولة متواضعة على الساحل السنغالي الصغير، حيث ولدت قبل 21 عاماً. على عكس بطلتها التي نشأت ثرية، وحظيت الروائية السنغالية بوالد محب توفي العام الماضي، تصفه قائلة: "طلب مني رفع صوتي عالياً لأعبر عما أريد بدلاً من التنمر عليه".
انصهار في الثقافة الغربية
لم تكن ردود الفعل إيجابية في السنغال على تصرف سو، فقد اعتبرها جمهور السوشيال ميديا فتاة تتنكر لثقافتها وجذورها، وانصهرت بسرعة في الثقافة الغربية. وتراجعت كثيراً النظرة التقديرية لها بأنها الشابة المتفوقة التي تمثل بلادها، بينما قارن البعض بينها وبين محمد موبغار سار، من جهة أن كليهما سنغالي، حصل على لقب "أفضل تلميذ" في السنغال ومنحة للدراسة في فرنسا، ولأن كليهما أصدر كتاباً عند دار نشر فرنسية، لكن المقارنة تتوقف عند هذا الحد فقط، وتأتي بقية التفاصيل ضد دياري سو، من جهة اعتبارها شابة متهورة، لم تصبر على نضج موهبتها الأدبية، بينما حاز "موبغار سار" على الغونكور مع روايته الرابعة " ذاكرة الرجال الأكثر سرية". لا يرى السنغاليون أن دياري سو تمثلهم حقاً، ويعتبرون أن سلوكها الأرعن في اختيارها الفرار والاختباء ثم العودة مع رواية لتبرر فيها ما حدث، مجرد لفت للأنظار نحوها ككاتبة، وهي بأسلوبها الأدبي المراهق وكتابتها المتعجلة، لا يتوقع لها الوصول إلى جائزة أدبية مرموقة.
لا تبدو وجهة النظر هذه متحاملة على سو، بقدر ما أنها تكشف عن أمرين على مستوى بالغ من الأهمية، سواء بالنسبة للكتاب الأفارقة الشباب في علاقتهم مع فرنسا، وفي رؤية الوسط الثقافي الفرنسي لهم، ككتاب جدد يحكون عن عالم غريب عن القارئ الفرنسي، سواء في سردهم مآلات الاستعمار وما تركه تاريخياً ونفسياً عند هذه الشعوب كما في كتابة ديفيد ديوب وموبغار سار مثلاً، أو في محاولة اكتشاف ما يدور في دواخل الجيل الأحدث، وما هي المعاناة التي من الممكن أن يحكوا عنها، كما هي الحال مع دياري سو، إذ من المعروف مدى صعوبة الوصول إلى دار نشر فرنسية بالنسبة لكاتب أفريقي شاب وغير معروف.
هذا الاستنتاج لا يبتعد عن المقارنة بين دياري سو، ومحمد موبغار سار، الذي يعبر، في روايته الفائزة، على لسان بطله الكاتب الشاب "ديجان"، عن قلقه وخوفه من عدم اعتراف أقرانه الغربيين بموهبته الأدبية، لكن سار قلب المعادلة في اقتناصه الغونكور من أسماء أدبية مكرسة. في المقابل، تتابع دياري سو الشابة العشرينية نجاح مواطنها الذي يكبرها بعشرة أعوام، وتنظر إلى الخطوات السريعة التي جعلته يقف على أرض أدبية صلبة، لذا يبدو بوضوح أن سو لو أصدرت روايتها "إني ذاهبة"، من دون حدث الاختفاء والعودة الذي أثار الضجة حولها، ربما ما كانت روايتها لتحظى بالاهتمام ولفت النظر إليها وإلى كتابتها. وهذا يتضح في معظم اللقاءات الإعلامية التي أجرتها المؤلفة الشابة، بحيث تدور حول فكرة الهروب والدلالات النفسية للحدث، وأثر هذا على روايتها، بالتالي العلاقة بين الكاتبة وبطلتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خلف وجه الملاك
في روايتها الأولى "خلف وجه الملاك" التي صدرت عام 2020 تقول بطلتها ألين، "أريد عبور كل المحظورات، التفكير خارج الصندوق، رفض كل القواعد المتفق عليها لأنها لا تغير شيئاً أبداً. أريد أن أعيش بلا قيود".
تناولت دياري سو في هذه الرواية قصة فتاة شابة تدعى "ألين" لديها طموح كبير، وتعطش لا يخمد إلى الحرية، تبدو غامضة أنانية ومتلاعبة، وفي الوقت نفسه محبة وهشة ومتعاونة تبحث باستمرار عن السعادة، لذا فهي على استعداد للرحيل من مكان إلى آخر، من بلدتها البعيدة إلى دكار، ثم إلى فرنسا سعياً خلف أحلامها. تربت ألين في كنف خالتها القاسية، التي أذاقتها ألواناً مختلفة من العذاب، فما إن يشتد عودها حتى تقرر الهرب، تركب القطار سراً، وتغادر البلدة كي تبتعد عن جلاديها، وفي كل محطة يتوقف فيها القطار تتمنى أن يمشي بسرعة كي لا يكتشف أمرها.
لا تكف ألين أبداً عن البحث عن ذاتها العميقة مهما كلفها الأمر، لذا تحطم قيود الحب والالتزام، وتترك ماضيها خلفها وتبتعد. تحاكي ألين، كما يبدو شخصية دياري سو، وتطرح الكاتبة من خلال بطلاتها ما تود هي قوله. تقول ألين: "بالنسبة لي، في الحقيقة ليس هناك شفقة، لا رضا، ولا ندم. لقد فعلت ما ينبغي فعله للبقاء على قيد الحياة. لكل إنسان الحق الأساسي في الحفاظ على حياته، مهما كان الثمن الذي ينبغي دفعه... أريد أن آخذ سعادتي الآن، ليس هناك ما يضمن لي العثور عليها في غضون عامين أو ثلاثة أو عشرين عاماً، لا يهم كم انقضى من الزمن مع سعادة مؤجلة، المهم إدراكي أن طبيعتي تتطلب كل شيء، وتتطلب مني اكتشاف الوسيلة لتحقيق ما أريده".