كانت الخطوات التي اتخذتها حكومة الشراكة الانتقالية برئاسة عبدالله حمدوك في العامين الأولين من عمرها عقب الإطاحة بنظام عمر البشير، عام 2019، قاسية على الصعيد الاجتماعي، إذ اتخذت إجراءات وقرارات اقتصادية مؤلمة وقاسية، تحمّلها السواد الأعظم من الشعب السوداني من محدودي الدخل.
وتسبب رفع الدعم عن المحروقات وعن سلع أخرى إلى جانب تحرير سعر الصرف، بارتفاع معدلات التضخم وتجاوزه نسبة 400 في المئة، ما أدى بدوره إلى ارتفاع نسبة الفقر، في وقت أكد مختصون اقتصاديون أن استمرار الواقع الراهن بتجميد المعونات الدولية يستدعي ميزانية تقشفية يترتب عليها المزيد من الأعباء والمعاناة على الناس.
صدمة الفقراء
وصدم كثير من الأسر السودانية محدودة الدخل، من نبأ تجميد نشاط برنامج "ثمرات"، للدعم المباشر للأسر السودانية بوصفه أهم الآليات الأساسية وركائز الحماية الاجتماعية لتخفيف صدمة السياسات الاقتصادية، وكان بدأ بالفعل في تقديم الدعم المادي المباشر للأسر الفقيرة بواقع خمسة دولارات شهرياً لمدة 12 شهراً قابلة للتمديد، وينفذ بالمشاركة مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمات دولية أخرى، ودول مانحة.
وأعلنت إدارة البرنامج الذي يشكل بديلاً للدعم السلعي الذي تم رفعه، عن توقف الأنشطة الخاصة بعمليات التسجيل والدفع النقدي المباشر للمواطنين بصورة مؤقتة حتى إشعار آخر، وعزت الإدارة في بيان توضيحي، توقف عملياتها إلى تعليق البنك الدولي، كأحد الممولين الرئيسين للبرنامج، أنشطته مؤقتاً في السودان، ونوه البيان إلى مشاورات تجرى حالياً مع البنك الدولي وبرنامج الغذاء العالمي والجهات ذات الصلة بغرض التوصل إلى الصيغة المثلى لاستئناف عمليات التسجيل والدفع وإيصال المساعدات النقدية للمواطنين.
مراجعة شاملة
وأفاد البيان، بتوقيع معتصم محمد صالح، المدير العام للمشروع، بأن إدارة البرنامج تعكف خلال هذه الفترة على إجراء مراجعة شاملة لتجربة المشروع وتقييم أدائها خلال الفترة السابقة والوقوف على المشكلات والتحديات التي واجهته، لا سيما تأخر وصول الاستحقاقات للمواطنين، ووضع الحلول والمعالجات اللازمة لهذه المشكلات ولأوجه القصور كافة، ونقاط الضعف، إلى جانب إعداد وتجهيز كشوفات الدفع والاستحقاقات لكل المسجلين بالبرنامج تمهيداً لإرسالها إلى البنوك وشركات الاتصالات لتقوم بتسليمها إلى مستحقيها ريثما يستأنف البرنامج عمله.
وطالبت إدارة البرنامج من الموطنين عدم الالتفات إلى الإشاعات والمعلومات المضللة المنتشرة هذه الأيام حول أموال البرنامج واستخداماتها، مؤكدة أن كل أموال البرنامج محفوظة في حسابات آمنة بالبنك المركزي والبنوك التجارية، ولا تستطيع أية جهة توظيفها لأي غرض آخر بخلاف دعم الأسر السودانية وتنفيذ أهداف البرنامج، إلا بموافقة البنك الدولي والممولين الآخرين.
مخاوف العقوبات
وفي سياق متصل، عبّر صدقي كبلو الباحث الاقتصادي، عن مخاوفه من أن تتطور المواقف الدولية بشأن تجميد العون الخارجي من وقف المساعدات إلى عقوبات اقتصادية قد تكون هذه المرة أكثر قساوة، لأن البلاد أساساً تعيش أزمة اقتصادية خانقة، ما سيشكل عودة بالأوضاع الاقتصادية إلى ما قبل 11 أبريل (نيسان) 2019، وأوضح كبلو أن التعاون الدولي في هذه المرحلة ارتبط بصورة مباشرة بالتحول المدني الديمقراطي وعودة السلطة المدنية، ما يعني أنه لا أمل في عودة الانفراج طالما استمرت الإجراءات التي أعلنها القائد العام، وهو ما يخلط الاقتصاد بالسياسة ويجعل من إزالة قرارات، ما سماه بانقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول)، كشرط أساس لأي تحسن في مستوى معيشة الناس وخروج السودان من أزماته الاقتصادية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكشف المختص الاقتصادي السوداني عن أن العون الأجنبي الذي كان متوقعاً في حدود أربعة مليارات دولار معرّض الآن لخطر الفقدان، منه 1.3 مليار دولار بموجب قرارات مؤتمر برلين الممول الأساس لبرنامج "ثمرات" إلى جانب البنك الدولي، فضلاً عن 700 مليون دولار من الولايات المتحدة، وملياري دولار من البنك الدولي، وكذلك، هناك تسهيلات ائتمانية لإصلاح ميزان المدفوعات قد تصل إلى 2.3 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، فضلاً عن دفع أقساط الديون وقرارات تخفيض وشطب الديون.
ميزانية 2022
ونوه كبلو إلى أن صدور قرارات من كل من اليابان والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والبنك الدولي بتجميد مساعداتها، يضع السودان في مأزق حقيقي في ما يتعلق بميزانية العام 2022، التي تعاني أساساً من ضعف الإيرادات بسبب إغلاق الشرق في الفترة الماضية، ما حرم الحكومة من إيرادات ميناء بورتسودان لمدة شهر ونصف الشهر، ما أثّر في تقديرات الإيرادات، وتابع، "كانت الميزانية ستستفيد كثيراً من تدفق العون الأجنبي والعون الفني في ما يتعلق بإصلاح الخدمة المدنية والضرائب والجمارك، ومعظمها أنشطة ممولة من الولايات المتحدة والمعونة الأميركية والبنك الدولي، لكن للأسف كلها توقفت، حتى العون المقدم في مجال التدريب من اليابان أيضاً"، وأشار إلى أن معدلات التضخم كانت قد بدأت في الانخفاض لشهرين متتاليين، لكنها للأسف في طريقها إلى الارتفاع مرة أخرى نتيجة عجز الإيرادات وتوقف العون الدولي، ما قد يضطر السلطات للعودة مجدداً إلى الاستدانة من النظام المصرفي.
المعيشة والإنتاج
من جهته، أوضح عبد العظيم سليمان المهل، أستاذ الاقتصاد بالجامعات السودانية، أن إعلان تجميد المعونات الدولية المقدمة من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي ستكون له انعكاساته المباشرة على الميزانية الجديدة التي تعوِّل على الانفتاح العالمي والتدفقات التي كانت منتظرة بواسطة التزامات العون الدولي وإعفاء الدين الخارجي، ما يجعلها تواجه بمعضلات حقيقية، ستؤدي بدورها إلى تفاقم الوضع الاقتصادي بصورة أكثر خطورة مما هو عليه الآن ويهدد بانهيار اقتصادي مباشر، وأضاف أن المواطن السوداني سيكون قد بلغ درجة يجد فيها صعوبة بتوفير المأكل والمشرب ومواصلاته ووسائل حركته، ما يهدد أيضاً عجلة توقف الإنتاج، فضلاً عن أن المواطن سيكون الضحية في حال حدوث الانهيار الاقتصادي.
رصد الآثار
وأصدر القطاع الاقتصادي في حزب الأمة القومي ورقة حول الآثار الاقتصادية المترتبة على التطورات الأخيرة في البلاد، رصد فيها الآثار وردود الأفعال الاقتصادية المباشرة من الشركاء الثنائيين، التي تجسدت في تجميد الولايات المتحدة مبلغ 700 مليون دولار كانت في طريقها إلى البلاد، وتجميد الاتحاد الأوروبي العون الأجنبي المعتمد للسودان، وتلويح فرنسا بإيقاف عملية إعفاء الديون من قبل مجموعة نادي باريس، وأشارت الورقة إلى أن هناك آثاراً قريبة المدى تتمثل في إيقاف البنك الدولي تحويل مبلغ 500 مليون دولار كدعم للميزانية، وتجميد تمويل برنامج الدعم النقدي المباشر للأسر.
كما عددت الورقة التداعيات الاقتصادية في المديين المتوسط والبعيد، لا سيما إيقاف عملية إعفاء 50 مليار دولار من ديون السودان الخارجية، فضلاً عن تصفية فرص الانتقال الاستثماري والمشروع التنموي لنهضة السودان التي كانت البلاد تستشرف استثمارات استراتيجية في مشروعات البنية التحتية في مجالات الطرق والمطارات وسكك الحديد وغيرها، وكشفت الورقة عن تأثر مشروع دولة الحماية الاجتماعية بتعطل مشروع مكافحة الفقر وتوسيع برنامج دعم الأسر وتأثر تحقيق أهداف التنمية المستدامة في خفض وفيات الولادة وتوفير مياه الشرب النظيفة ومكافحة تقزّم الأطفال والفاقد التربوي وخلافه.
ولفتت الورقة كذلك إلى أن التداعيات قد تمتد إلى عملية السلام نفسها بما يهدد بهدمها كلياً، بسبب تعثر إمكان تمويل اتفاق صناديق إعمار دارفور والمنطقتين، لأن الالتزام بالوثيقة الدستورية كان سيعزز فرص تمويل إعادة الإعمار من قبل شركاء السودان وكذلك الاستهداف الإيجابي لمناطق النزاعات في إطار المشروع الوطني لنهضة البلاد.
موجهات الموازنة
وكان أحمد الشريف، الناطق الرسمي باسم وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، أعلن أن إعداد الموازنة الجديدة يستشرف جني ثمار إعادة اندماج البلاد في الاقتصاد العالمي ورفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وتدفق المنح والقروض بعد تسوية مديونيات صندوق النقد والبنك الدوليين وبنك التنمية الأفريقي والوصول إلى مرحلة اتخاذ القرار بشأن إعفاء ديون البلاد الخارجية وفقاً لمبادرة الدول المثقلة بالديون "هيبك".
وكشفت الوزارة أن الموازنة الجديدة ركزت على الاستمرار في استكمال برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأ تنفيذه منذ عام 2020، وإحداث توازن بين سياسات الإصلاح الاقتصادي ومعالجة الآثار الاجتماعية الناجمة عن سياسات الإصلاح، وتحسين معاش الناس ومحاربة الفقر والبطالة، أوضحت أن الموازنة الجديدة تتميز عن سابقاتها بالتوجيه الأمثل للموارد المالية بما يضمن خفض معدلات التضخم، والفقر، والبطالة، وتوفير فرص العمل للشباب، وتحسين معاش الناس، وتوجيه القطاعات الاقتصادية والإنتاجية لانتهاج إدارة فاعلة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، ولفت الشريف إلى استمرار العمل في إعداد الموازنة العامة الجديدة بالتنسيق مع وزارات ومؤسسات الحكومة وبالمركز والولايات بعد تسلمها للموجهات العامة لإعداد الموازنة.