Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صفاء عبدالمنعم تستثمر فن الكتابة اليومية في قصصها

"مفكرة السيدة ص" مجموعة تحتفي بالأشياء التي ولدت لتبقى

لوحة للرسام المصري صلاح طاهر (صفحة الرسام على فيسبوك)

في مجموعتها القصصية "مفكرة السيدة ص" الصادرة حديثاً عن دار "بدائل"، تنطلق الكاتبة المصرية صفاء عبدالمنعم من مفهوم شاع في الكتابة العربية، حول قدرة المبدع على استثمار "اليوميات" وصهرها في قوالب إبداعية أو داخل "شذرت" تتجاوز هموم صاحبها.

 فعل ذلك إبراهيم المازني ويحيي حقي ثم جمال الغيطاني الذي غيب المسافة بين الكاتب والنص في مجموعات كتبه الفريدة "دفاتر التدوين "، كما فعل إبراهيم أصلان في كتابيه "خلوة الغلبان" و"شيء من هذا القبيل". وبالمثل لجأت عبدالمنعم إلى التقنيات السردية ذاتها لتبني لعبة "كسر الإيهام" وبدت عن قصد واع طرفاً فاعلاً في لعبة التخييل.

هوية واضحة

ومنذ عنوان المجموعة الذي يتضمن إحالة مباشرة لـ "هوية" صاحبتها، يدرك القارئ طبيعة السرد وما تطرحه الكتابة من فضاءات لحيوات بديلة، ويقود ذلك بالضرورة إلى طرح تساؤل في نهاية العمل، إلى أي مدى يمكن النظر إلى هذه النصوص كمداخل لسيرة ذاتية في سبيلها إلى التشكل؟

وما يعطي لهذا السؤال شرعيته، كون الكاتبة صاغت عند بداية النص أمثولة انطوت على حيلة تقنية شائعة، وهي افتراض عثور الحفيد على مفكرة للجدة تضمنت تدوينات كتبتها عن مسيرتها، ثم تتوالى النصوص التي تبرز هذه المسيرة وتؤرخ لها عبر ومضات كاشفة لتجارب الطفولة والحب والأمومة، بل وسيرتها كمعلمة في إحدى المدارس الابتدائية. وتكشف القوالب السردية داخل المجموعة عن خبرة كبيرة للكاتبة في اقتراح تقنيات لغوية تحتفي بـ "اللغة اليومية "، بحيث تبرز فنون القول الشفهي مستندة إلى معرفة واسعة بطرائق الحكي للأطفال والاحتفاء بالأقنعة السردية والمجازات كما في قصة عنوانها "من فرط الدهشة"، وهي من أجمل نصوص المجموعة.

العين الواعية

والشاهد أن غالبية النصوص مكتوبة من عين امرأة واعية بالتحولات وخصوبة الفضاء المحيط بعوالم فتيات الطبقة الوسطى المصرية، وحدود الأحلام التي رافقت عمليات التغيير الاجتماعي منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، فالسمة العامة للمجموعة هي رصد هذه التحولات، ولكن بكثير من "النوستالجيا" أو الحنين. وتشيع في أجواء القصص الحفاوة البالغة بـ "اللحظات الحميمة" وطقوس الحياة اليومية، وعلى رأسها أوقات الوجود في المطبخ وجدل الصمت والضجيج في لحظات الظهيرة، وما تنفرج عنه ساعات الغروب بعد أن تشرع شرفات المنازل وتنفتح على الخارج، بما يشير إلى الرغبة في التواصل مع الآخرين والإنصات إلى ما يجري في الجوار.  وربما كانت مفردات مثل " البيت " و" العائلة " أكثر المفردات تداولاً داخل القاموس النصي للمجموعة، بما تكشف من معان وثيقة الصلة بـ "الألفة" التي تواجه أشكال الاغتراب كافة.

جسد مثقل بالهموم

وفي سياق هذه الرغبة هناك كثير من الإلحاح على معنى الفقد وأثمانه الباهظة، ولعل تعطش الجسد هو أكثر الإثمان فداحة، لذلك يحضر كدال فاعل في غالبية النصوص، لكنّ السؤال هو أي جسد نراه وما هي طبيعته وماذا عن علاماته البادية؟

لا نرى إلا جسداً متعباً ومهملاً ومهزوماً، كما أن لحظاته الحسية قليلة في مقابل تنامي "الألم"، ربما باستثناء قصة "غزل الكنبة"، وكثيراً ما ترد في النصوص عبارات عن عجز هذا الجسد وحاجته للنهوض، "أشعر بجسدي كأنه ينهض".  وكذلك هناك إصرار داخل المجموعة على إبراز الهوية النسوية للكاتبة، ليس فقط على صعيد ما تطرحه النصوص من هواجس وقضايا، بل أيضاً في سبل التعاطي مع الجسد وصور انتهاكه في الفضاء اليومي أو في الطقوس الموروثة، كما في قصة "ختان" التي تظهر بوضوح، على الرغم من طابعها المباشر، تواترت على هذا الجسد الأعباء التي تحملها منذ الطفولة.

وتبدو للقارئ أخطار هذا التماهي بين سيرة الحياة وسيرة الكتابة، إذ يغيب الحد الفاصل بين ما تطرحه الحياة وما تريده الكتابة، والمؤكد أن هذا التداخل كان يستلزم العمل مع الناشر على إجراء عملية "ترشيد للنصوص" وحذف بعض ما يقع في منطقة "العادي" والمتداول، لدفع النصوص إلى آفاق أخرى، لأن كثيراً منها يمتلك سمات فريدة للقص وقدرات الكاتبة على التخييل، وتأمل ما هو خارج الذات كما في قصص "وقائع مؤقتة" و"فستان نبيتي" أو قصة "الرسولة" على سبيل المثال.

وبالتالي كان بالإمكان كذلك ابتكار تبويب مختلف يوزان بين النصوص المتخيلة أو النصوص ذات السمة الواقعية، كما في قصة "الخروج" أو في النصوص التي تحضر فيها كورونا كإشارة إلى التغييرات التي أوجدها "كوفيد-19" من مصطلحات لم تكن ضمن القاموس اليومي، ومنها قصة "الغرفة 630 معهد ناصر".

جماليات مظلومة

 ويبدو أن الإلحاح على الطابع التوثيقي اليومي للنصوص ظلم كثيراً منها، على الرغم مما تحمله المجموعة من جماليات داخل أغلب النصوص، ومنها قصة بعنوان "بيرة ساخنة" وأخرى بعنوان "جثث وسيمة"، تؤطر مفردات العالم الذي رغبت الكاتبة في تصويره واختارت له القالب الذي أرادته بوعي تام. وعبر العلامات الثقافية التي ترد في النصوص يحصل القارئ على أدلة كاشفة عن ولع الكاتبة بالمأثورات الشعبية وقدرتها على استثمار ثرائها البالغ في سبيل الإمساك بالزمن "المنفلت" أو توثيق اللحظات العابرة، فالقصد هو بالأساس سعي إلى القنص واصطياد الزمن الهارب تحت ضغط الموت الذي يهيمن على فضاءات القص داخل المجموعة بوصفه "أجمل فنان". 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 وفي إطار تأمل العلامات الثقافية يصعب الإفلات من عملية "التناص" التي أوجدتها الكاتبة مع عوالم تشيخوف أو كافكا، فهي تكتب قصة بعنوان "حديث مع كافكا" وتكتب رسالة إلى تشيخوف لتؤكد ارتباطها بلحظات الزوال، كما في قصتها "مقاعد مؤقتة "، كما تتمسك بجملة فرجينيا وولف الشهيرة "غرفة تخص المرء وحده" لتبني وشائج مع همومها كامرأة.

وفي كثير من القصص يصعب تفادي "نبرة الرثاء" بحيث ترد على لسان السارد في إحدى القصص، "فالأشياء الحلوة راحت كلها"، ولعل المجموعة ذاتها ترفع شعاراً يرد في جملة منسوبة في النص للشاعر كيتس، وهي "أن الأشياء الجميلة ولدت لتبقى".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة