Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحلول الواقعية والوهمية لمعضلة التواصل الاجتماعي

ترمب أطلق أخيراً منصة خاصة به ينتظر أن تسبب كثيراً من الكوارث في المجتمع الأميركي وتصبح منبراً للتطرف وضيق الأفق

كرنفال يصور قاضيا ممسكا بذيل كائن فضائي مكتوب عليه فيبسوك وتطرف وكراهية واندفاع  (أ ف ب)

ربما لا يتفق كثيرون على كيفية تشخيص وتحديد ماهية الجانب المتفق أو غير المتفق عليه بالنسبة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، فبشكل أو آخر يكاد يتفق أبسط الناس على أنها أصبحت الوسيلة الأكثر انتشاراً للتواصل بين البشر، وأنها وفرت كثيراً من الوقت كان يُخصص للانتقالات والتواصل المباشر، وأضاعت كثيراً من الوقت أيضاً، ولكن للمسألة أبعاداً كثيرة ومتنوعة، وأظن أن المسألة تحتاج أولاً إلى تشخيص أكثر تحديداً لأبعاد المعضلة بخاصة سياسياً.

أبعاد ومستويات المعضلة من حيث السياسة الدولية

التحديات التي خلقتها وسائل التواصل الاجتماعي متعددة، ولا أشك في أن فروع المعرفة الاجتماعية كافة منشغلة منذ أعوام في فهم ما يحدث ونتائجه، ونقتصر هنا على بعض جوانب وتداعيات المشكلة سياسياً ومن دون الدخول في تفاصيل كثير من الجوانب الاجتماعية الدقيقة والصعبة في الوقت ذاته التي تشكّل معالم حياتنا المعاصرة وستكون لها تأثيرات سياسية واسعة النطاق، على أن نركز هنا على الجانب السياسي الدولي المباشر وأبرز هذه الأبعاد مسألة الاحتكار وهي قضية سياسية في المقام الأول، وثانيها مخاطر تحوّلها بسبب طبيعتها وخلفيتها الاحتكارية إلى أحد محاور الصراع الدولي الرئيسة.

معضلة الاحتكار

على الرغم من أن منظومة التواصل الاجتماعي المتعددة كانت منذ بدايتها احتكاراً أميركياً، فإن المسألة لم تصبح مثار قلق دولياً يذكر. في البداية على الرغم من تكشّف كثير من الأبعاد التي لا يمكن تجاوز دلالاتها، ولكن التساؤلات الأكبر التي ربما جذبت نوعاً من الاهتمام جاءت بعد قرار "فيسبوك" و"إنستغرام" حجب حسابات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في أعقاب الاجتياح الكارثي للكونغرس بعد هزيمته الانتخابية ورفضه الاعتراف بها وإسرافه في شحن مؤيديه. ما حدث كان مستحقاً، وأثار سؤالاً أيضاً مهماً، وهو من يملك إصدار هذا القرار؟ وهل تم هذا الحجب بقرار محكمة؟

كان من المفارقات أنه بعد هذا بقليل حدث التصعيد الإسرائيلي في غزة، واشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي به ومعها مظاهر العدوان الإسرائيلي لتقرر "فيسبوك" حجب كثير من المواقع التي هاجمت تل أبيب، ولتبدأ الانتقادات ضدها التي بررتها بأن لديها لجنة قيم خاصة هي التي اتخذت هذه القرارات، وحاولت أن تنفي عن نفسها صفة الانحياز لإسرائيل، ولكن الواقعة أدّت ليس فقط إلى كشف هذا الانحياز الذي كانت مظاهره معروفة، وإنما أيضاً كشفت أن لديها لجنة نصّبت قاضياً وسلطة تنفيذية في الوقت ذاته، ليتكشّف حجم الإشكالية ونتائج الاحتكار، وأنها نصّبت نفسها حكومة فوق الحكومات تقرر وتحجب وتنشر ما تريد من معلومات. وأدّت هذه المسألة إلى إطلاق ترمب أخيراً منصة خاصة به يُنتظر أن تسبب كثيراً من الكوارث في المجتمع الأميركي وتصبح منصة للتطرف وضيق الأفق. وأتوقع أن وجود مثل هذه المنصة من دون رقابة من القوانين، ومع ما يتمتع به الرجل من تطرف، قد تفلت حتى من يديه وتصبح منصة لأكثر الأفكار جنوناً وغرابة نتيجة لوجود فئات معينة من مؤيديه، قد يدفعون هذه المنصة باتجاه ربما لا يخطر حتى على بال ترمب نفسه، وربما يخلق هذا آليات من الصعب تصورها حتى الآن تجبره هو نفسه على التماشي معها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن ناحية أخرى، فإن التطبيقات الصينية والروسية وبعضاً من الغربية التي بدأت بالانتشار الجزئي، كل هذا في الحقيقة لم يغيّر الواقع الاحتكاري الذي يتسم به عالم التواصل الاجتماعي وسيطرة أفراد وشركات أميركية، الأمر الذي يجعل البعض يربطها بأجهزة استخباراتية أو حكومية أميركية تملك نفوذاً يفوق هياكل السلطة السياسية الأميركية التقليدية المعروفة من تنفيذية وتشريعية وقضائية وتجمعها كلها في يد هذه اللجان الداخلية الغامضة.

على أن الحالتين السابقتين سواء ترمب أو القضية الفلسطينية لم تحركا المياه الراكدة لهذه القضية، وإنما الفضل في ذلك لواقعتين حدثتا أخيراً، الأولى انقطاع عدد من هذه الوسائل لمدة نصف يوم، مما أدّى إلى خسائر هائلة للشركة المالكة وارتباك في كثير من مؤسسات العالم الحكومية والخاصة لتنبيه العالم إلى خطورة هذا الاحتكار. والواقعة الأخيرة ربما أكثر خطورة وهي ما أثاره استجواب مهندسة سابقة في الشركة وهي فرانسيس هوغن من اتهام خطير لـ"فيسبوك" بممارسة الكذب وإخفاء المعلومات والاحتكار ومن مخاطر على الأطفال ومعرفة الشركة بهذا وعدم اكتراثها لاتخاذ أي إجراءات لمعالجة هذه المشكلات. وكانت مجلة "تايم" الشهيرة من أشجع المؤسسات التي تبنّت قضية هذه السيدة ودعت إلى إلغاء "فيسبوك".

محور جديد للصراع الدولي

مثلما سبقت الولايات المتحدة العالم في إنتاج وتجريب السلاح النووي، وأجبرت خصمها آنذاك الاتحاد السوفياتي على سباق التسلح النووي الذي أدّت نتائجه الاقتصادية مع المشكلات الهيكلية للنظام السياسي والاقتصادي الشيوعي بالنهاية إلى هزيمة الكتلة الشرقية وتحلّل الاتحاد السوفياتي وانتصار الولايات المتحدة، فإن واشنطن تدخل معركة الصراع الدولي الجديد ضد خصميها الصين وروسيا وهي تحتكر أخطر سلاح في العالم المعاصر، وهو عالم التواصل الاجتماعي، ولكن الفارق الآن أن التنافس في هذا المجال أقل تكلفة من سباق التسلح التقليدي، بل هو سباق يؤدي إلى تعظيم الثروات والمنافع المادية، ومن ثمّ فإنه من المتوقع أن تشهد الفترات المقبلة تسابقاً أكثر جدية للمشاركة في هذه السوق الافتراضية الضخمة، بما يحققه من نفوذ وتأثير دولي واسع النطاق على الأصعدة كافة. وتمتلك الصين ودول أخرى متقدمة منها اليابان والهند وسنغافورة وروسيا وكذلك دول أوروبية إمكانات هائلة بهذا الصدد، تجعل من المرجح أن يكون هذا المجال هدفاً رئيساً، وساحة للتنافس تفيد دول العالم المختلفة بإنهاء الاحتكار الأميركي الذي لا يمكن أن يكون لصالح البشرية. وبالفعل، بدأت المنصات الصينية بالانتشار، كما تمكّنت روسيا من تنفيذ تطبيقات لها نجحت في داخلها، على أن ناتج هذا التنافس لن يكون كله إيجاباً على دول العالم الأخرى، فسيصبح الأمر مجالاً للضغوط وإثبات الولاءات وشراء الذمم إلى آخره، وربما يجد البعض نفسه في مهب ضغوط وخسائر من التجاوب مع هذا الطرف أو ذاك.

عالم أكثر صعوبة وحلول ليست سهلة

معضلة صراع الاحتكار والتنافس الجديد حول هذه الظاهرة هي في ذاتها صداع جديد للبشرية، يضاف إلى الإيجابيات والسلبيات الكثيرة لهذه الأداة، وكأن ما بها من آثار خطيرة في الصغار والكبار لا يكفي في ذاته في تغيير بنية المجتمع الإنساني وما نحن مقبلون عليه، بحيث لو أضفنا إليها المشروع الجديد الذي أعلن عنه مارك زوكربيرغ، مؤسس "فيسبوك" بأنه سينتقل بالشركة إلى عالم آخر أكثر افتراضية وسيغيّر التسمية إلى "ميتافيرس"، وهي تطورات اعتبر البعض أن هدفها الخروج من مأزق الانتقادات الكثيرة للشركة بالإعلان المبكر عن النقلة التكنولوجية الجديدة الهائلة.

ولعل من الضروري التوصل إلى آلية وإدارة دولية مشتركة لهذا المرفق الخطير، وإلا ستتضاعف المخاطر العالمية والآثار التي لا يمكن التهوين منها، وهو ما اعتبره البعض بمثابة حل غير واقعي أو من قبيل المثالية، في ضوء سيطرة هذه الاحتكارات والأموال الخاصة والأجهزة السياسية الأميركية على هذا المجال الحيوي.

وفي الواقع إن كثيراً مما يعرفه العالم اليوم لم يكُن واقعياً، بل كان محض خيال منذ أعوام قليلة، ولكن عندما تزدحم الساحة بهذا التنافس الدولي وتحوّل هذا المجال إلى ساحة خطيرة للصراع الدولي ستكون الآثار والمخاطر على شعوب العالم وعلى أبناء حتى الدول المنتجة لهذه الوسائل، أمراً بالغ الخطورة ولن تكون سياسية واجتماعية فقط، بل أيضاً اقتصادية بسبب سياسات من ليس معي فهو ضدي، وسيتم اختيار هذه المنصات باعتبار المصالح قصيرة الأجل وليست الرشيدة، ما يجعل من الحكمة عدم الانتظار حتى تحلّ الكارثة إلا إذا كانت هذه القضية سيتم إهمالها والاكتفاء بالتعامل الجزئي وقصير النظر معها لتلحق بكارثة التغيّر المناخي، فيواصل العالم التسويف وعدم المعالجة الجادة بما يهدد مستقبل البشرية ويكمل غرائبية المشهد الكوني اليوم من اندفاع محمود تجاه التقدم التكنولوجي الهائل فوق بنية شديدة الهشاشة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل