Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الصفقات الحكومية" في تونس متعثرة ومطالبات بتعزيز فرص الاستثمار

اقتصاديون يناشدون تحسين القوانين ورفع مستوى الإنتاج المحلي لمواجهة الأزمات

الدولة التونسية تنفق بمختلف وزاراتها وإداراتها حوالى 3.5 مليار دولار سنوياً بعنوان شراءات في إطار صفقات حكومية (أ ف ب)

تنشر مختلف الوزارات والمصالح الحكومية في تونس على مواقعها الرسمية وكل الصحف والجرائد والمجلات آلاف الإعلانات لطلبات العروض لإنجاز عديد من المشاريع في إطار الصفقات الحكومية، التي تعتزم الوزارات أو مختلف الهياكل الحكومية إنجازها، بدعوة أصحاب المقاولات المشاركة في هذه الصفقات، إلى سحب كراسات الشروط وتحديد آجال المشاركة وموعد إنجاز المشاريع وتسليمها.

وإذا كانت المسائل تبدو إلى الآن طبيعية، فإن الأمر غير العادي هو ما تخفيه الصفقات الحكومية في تونس من معاناة لأصحاب المقاولات والمستثمرين ومن مطبات قانونية يمكن أن تودي حتى بوزير إلى السجن جراء خطأ أو سوء تقدير في إحدى مراحل إعداد الصفقات.

وبسبب النصوص القانونية القوية و"المتحجرة"، فإن عديداً من المشاريع تتعطل في تونس لأشهر عدة أو لسنوات بسبب ما يعرف في أوساط الأعمال بعدم جدوى الطلب ليقع إسقاطه، ما يستدعي إعادة الصفقة مجدداً.

ومن نقاط ضعف وخطر الصفقات العمومية أنها أضحت تمثل خطراً على المسؤولين وحتى الوزراء، وقد تتسبب في سجنهم أو إيقافهم بسبب خطأ في الإجراءات، والأمثلة عديدة في تونس في هذه الفترة على غرار سجن وزير الفلاحة السابق وإيداع محافظ سابق السجن في علاقة بقضايا في مجال الصفقات الحكومية.

قطاع حيوي ومدخل للفساد

وباعتباره قطاعاً حساساً وحيوياً، يُجمع جل المتدخلين من أصحاب شركات المقاولات ومحللين اقتصاديين ومسؤولين حكوميين، على أن مجال الصفقات الحكومية في تونس بات من الضروري أن يعرف أولاً تغيراً جذرياً في الجانب التشريعي، وثانياً إكسابه المرونة اللازمة التي تجعله جاذباً للاستثمار، وثالثاً إضفاء النجاعة على مراحل إنجاز الصفقات الحكومية وإعدادها.

وأظهرت مختلف التقارير الرقابية الحكومية، وخصوصاً تقارير الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، أن قطاع الصفقات الحكومية يعد مدخلاً للفساد ويفتح الأبواب على مصراعيها لانتشار الرشوة والمحسوبية بإرساء صفقات على أشخاص بعينهم.

وكشف شوقي طبيب الرئيس السابق للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في عديد من المناسبات، عن أن الفساد المتعلق بالصفقات الحكومية تبلغ تكلفته 714 مليون دولار سنوياً، موضحاً أن الصفقات العمومية تخسر 25 في المئة من قيمتها، أي من بين 178 و357 مليون دولار، بسبب غياب الحوكمة، مقراً بأن بعض القوانين المنظمة للصفقات ما زالت تبيح الفساد والإفلات من العقاب.

وأفصحت التقارير السنوية للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بأن الدولة التونسية تنفق بمختلف وزاراتها وإداراتها نحو 3.5 مليار دولار سنوياً بعنوان شراءات في إطار صفقات حكومية، تفقد منها على الأقل 25 في المئة نتيجة غياب آليات الرقابة والمتابعة.

مراجعة شاملة وعميقة

وشددت هذه التقارير على أن المنظومة ككل تحتاج إلى مراجعة وإصلاح شامل، من حيث طلب العروض والتقديم للشراءات العمومية والتنفيذ، وحتى بعد التنفيذ، لا سيما أن أغلب الشراءات يقوم بها أناس غير متخصصين، وليس لديهم الخبرة الكافية في مجال إبرام الصفقات.

ويتفق معظم المتخصصين في تونس على أنه من الضروري أولاً إجراء تقييم جدي وشامل لقطاع الصفقات الحكومية من حيث الترسانة القانونية، وخصوصاً إجراء مراجعة معمقة وشاملة للنصوص القانونية حتى تكون مواكبة أكثر لمتطلبات دفع الاستثمار.

ويقول آرام بلحاج، الباحث في الاقتصاد بالجامعة التونسية، إنه على الرغم من إدخال تعديلات وتحسينات على التشريعات ورقمنة جزء من السلاسل القيمية للصفقات الحكومية، يظل عامل الرشوة والفساد أكبر عائق أمام الاستثمارات.

وقال لـ"اندبندنت عربية": "ما وجود تونس في المرتبة 69 بحسب مؤشر الشفافية الدولية، إلا خير دليل على ذلك"، مشدداً على أن ملف الصفقات الحكومية في علاقة الاستثمار لا يمكن اختزاله في بعض الامتيازات والتسهيلات، وإنما وجب إرفاقه بقوانين متطورة و"حرب حقيقية" على الفساد في مجال الصفقات الحكومية.

ووفق بيانات رسمية، فإن قطاع الصفقات الحكومية في تونس يصل مستوى معاملاته إلى 20 في المئة من الناتج الداخلي الخام.

أخطاء شائعة وتتكرر

ولطالما نددت القطاعات الرقابية والمنظمات بالفساد المستشري في قطاع الصفقات العمومية، وما يسببه من خسائر مالية كبيرة لخزينة الدولة.

ودفع تفشي الفساد في الصفقات العمومية حتى بعد 2011 بعدد من المنظمات والجمعيات التي تعمل في مجال التصدي ومكافحة الفساد، إلى التنبيه لحجم التجاوزات المتواصلة في مجال الصفقات العمومية، والشراء العمومي بصفة عامة.

ويمثل الشراء العمومي نشاطاً رئيساً في تنفيذ الميزانيات العمومية، باعتبار أن تسيير المرافق والهياكل العمومية، وكذلك تطويرها وتوسيع مجال تدخلها بإنجاز المشاريع العمومية، يمر عبر اقتناء مواد أو خدمات أو أشغال أو دراسات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقد كشفت الهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية في تونس، التي تصدر تقارير سنوية، عن الأخطاء الأكثر شيوعاً في التصرف في الصفقات الحكومية، وذلك بهدف مساعدة المشترين العموميين على تجنبها والتصدي لها وتقليص المخاطر الناتجة عنها، بالتالي ضمان تحقق النجاعة الكافية لشراءاتهم.

وتبعاً لهذه التقارير، تم استخراج الأخطاء الثلاثة الأكثر شيوعاً في الصفقات العمومية، والمتمثلة أساساً في عدم إحكام ضبط الحاجات، وعدم التقيد بإجراءات ومقتضيات المنافسة النزيهة، وضعف متابعة تنفيذ الصفقات ومراقبتها.

وتمثل هذه الأخطاء مجتمعة 41 في المئة من جملة الأخطاء الواردة بالتقارير المعتمدة كعينة.

مجال معطل للاستثمار

وبشهادة عديد من المتدخلين والمستثمرين، فإن القوانين المنظمة لقطاع الصفقات الحكومية باتت معطلاً حقيقياً لدفع نسق الاستثمار، وتسببه في عديد من الإشكاليات لشركات المقاولات خصوصاً، وبقية القطاعات المتعاملة معها.

ويعتبر آرام بلحاج أنه على الرغم من الجهود المبذولة في سبيل دفع الاستثمار، يبقى هذا الأخير مكبلاً بإجراءات قانونية معقدة وبعوائق إدارية هامة.

ويتابع: "لئن نجحت تونس في تحسين ترتيبها في مؤشر سهولة الأعمال، فإن معظم المستثمرين والمتدخلين في كل ما يخص مناخ الأعمال ما زالوا ضحايا النصوص القانونية المكبلة والإجراءات البيروقراطية المعقدة"، مبرزاً أن السياسة الجزائية في تونس استدعت في عديد من الأحيان، مراجعة عميقة تتقاطع مع التعطيلات التي تقف حجر عثرة أمام المبادرة الخاصة.

وما تنقيح الفصل 96 من المجلة الجزائية التونسية أخيراً إلا خير دليل على ذلك، وقد مثل هذا الفصل عاملاً مكبلاً للمسؤولين في أخذ القرار، وسيفاً مسلطاً على رقبة كل من يأخذ بزمام المبادرة صلب الإدارة التونسية، بحسب المتحدث.

والفصل 96 في صيغته السابقة عطل كل ما له علاقة بروح المبادرة في الإدارة العمومية، إذ إن مسؤولين على أعلى مستوى بالإدارة أضحوا يتهربون من المسؤولية جراء استهداف زملائهم.

ووجب التذكير أن وزير الفلاحة التونسي السابق سمير بالطيب رهن الإيقاف التحفظي في السجن في قضية متعلقة بإحدى الصفقات الحكومية، التي أمضى عليها عندما كان يسير الوزارة.

وأضاف آرام بلحاج القول: "على الرغم من إدخال تعديلات وتحسينات على التشريعات ورقمنة جزء من السلاسل القيمية للصفقات العمومية، يظل عامل الرشوة والفساد أكبر عائق أمام الاستثمارات".

وختم تصريحه بالتأكيد أن الإشكاليات المتعلقة بالصفقات الحكومية عامل إضافي مكبل للاستثمار.

إضفاء مزيد من النجاعة على الإدارات التونسية

من جانبه، أفاد عبدالرحمن اللاحقة، أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، بأن قانون الصفقات الحكومية في تونس أحد العوائق المكبلة للاستثمار.

ولاحظ أن الإطار التشريعي المنظم للصفقات ثقيل جداً زاده بطء الإجراءات الإدارية وتشعبها، ما يجعل الدولة عاجزة عن التقدم في مجال الاستثمار العمومي، مضيفاً أن الإدارات التونسية التي تقوم سنوياً بعديد من المشاريع تتعرض لتعطيلات جراء طول مسار الإجراءات التي تنظمها الصفقات الحكومية، ما ينعكس لاحقاً على جودة الخدمات الإدارية على المواطنين.

واعتبر أنه على الرغم من إجراء تحسين على القوانين المنظمة لمجال الصفقات في تونس منذ سنة 2016، بإنجاز "منظومة تونابس" الخاصة برقمنة الصفقات ووضعها على شبكة الإنترنت لغرض إضفاء مزيد من الشفافية، فإن الأمور ظلت على حالها على مستوى طول الإجراءات في إنجاز الصفقات.

وشدد المتحدث من جانب آخر، على مسألة المبدأ القائم على إرساء العروض والطلبات على الأقل سعراً، وأنها تعد معضلة حقيقية وتؤثر على نوعية الخدمات المُسداة إلى المواطنين بالفوز بصفقات ذات سعر متدنٍ جداً، ما سينعكس على توفر خدمات رديئة نظراً لسعرها المتدني.

واقترح عبدالرحمن اللاحقة وجوب الإسراع بإجراء تنفقيحات جذرية وعميقة على قانون الصفقات الحكومية، حتى تكون أحد عناصر تطوير الخدمات الإدارية في تونس وجذب المستثمرين، لا أحد المنفرين لهم.

كما أوصى بضرورة اختصار آجال إطلاق العروض التي تصل إلى نحو 3 أشهر لدراستها، فضلاً عن إيجاد طريقة لخلاص الشركات التي تفوز بصفقات حكومية في آجال قصيرة، لا سيما أنها تتعرض لمشاكل مالية.

وشدد أستاذ الاقتصاد على أهمية إعطاء هامش كبير من التحرك لعدد من المؤسسات الحكومية، بعدم مرورها على لجنة الصفقات الحكومية لإطلاق طلبات عروض يجعلها في منافسة مع الشركات الخاصة، التي لديها أكثر حرية في إنجاز صفقاتها.

اقرأ المزيد