Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحيل جاذبية سرى رائدة جيل الحداثة التشكيلية المصرية

احتفظت طوال 7 عقود بوهجها الفني وتخطت حدود النسوية ودار عالمها بين البيوت والبشر والعيون المحدقة

الرسامة المصرية الرائدة جاذبية سري (صفحة الرسامة على فيسبوك)

غيب الموت مساء أمس الفنانة المصرية الكبيرة جاذبية سري عن عمر يناهز الـ 96 عاماً. وتعد جاذبية سري واحدة من جيل الرسامين المصريين الثاني، من أمثال حامد ندا وعبدالهادي الجزار وحسن سليمان، وهي تقف كواحدة بين أبرز الفنانات اللاتي شكلن بإبداعاتهن ملامح التجربة البصرية المصرية والعربية، وعلامة من علامات الإبداع النسوي. وإن لم تتوقف تجربة جاذبية سري عند مفهوم الإبداع النسوي إلا أنها مثلت نموذجاً إيجابياً للمرأة العربية الناهضة في سعيها للتحرر من القيود المجتمعية، والنظرة الضيقة للمرأة التي كانت سائدة خلال النصف الأول من القرن الماضي. وكان لافتاً في تجربة الفنانة الراحلة أنها ظلت عبر ما يزيد على السبعة عقود محتفظة بوهجها الفني ونابضة بروح خلابة وواثقة.

انعكست في أعمال جاذبية سري الأخيرة شخصيتها المتقلبة ومزاجها الحاد، والذي تبدى في ضربات الفرشاة المتوترة، واختزالها للأشكال والعناصر في خطوط عمودية تحمل آثاراً حميمة من تلك السنوات التي شهدت انشغالها بالرمز، وترددها ما بين الجمالية المتخيلة والصور المباشرة المختزنة بين حنايا الذاكرة. لقد ظل ذلك الكم المتدفق من الدلالات والرموز الموحية التي كانت تستخدمها جاذبية سري في أعمالها الأولى، مختزناً في ذاكرتها ليستقر كإشارات ثابتة في مراحلها اللاحقة، كما أن تلك الجرأة التي اتسمت بها أعمالها الأولى لم تفارق لوحاتها وتجاربها البصرية التي تتابعت عبر سنوات عمرها، بينما ظلت البيوت المتراصة في آخر المشهد تتقدم حتى استقرت في الصدارة، تاركة وراءها آلاف العيون المحدقة خلف الجدران.

وعلى الرغم من هذا الامتداد الزمني الذي تمتعت به تجربة الفنانة الراحلة، إلا أن ثمة ملامح مشتركة تربط ما بين بدايات التجربة وملامحها الأحدث بوشائج غزيرة من اللون والمفردات والعناصر، هذا على الرغم من الاختلاف البادي على طريقة البناء والصياغة، كما تتجسد أيضاً تلك الفروق الجوهرية التي تصاعدت وتيرتها عبر السنوات من التشخيص والرمزية إلى التعبيرية الواقعية والتجريدية، وما بينهما من مخاض وتجارب وإشراقات نسجت جميعها ملامح تلك التجربة الإبداعية الممتدة من دون انقطاع.

البيوت والبشر والعيون المحدقة

إن البيوت المتلاصقة التي بدأت إرهاصاتها الأولى في أعمال جاذبية سري مع نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي لم تكن مجرد حوائط وجدران صماء، بل كانت عالماً بأسره يموج بالحياة والعلاقات الدافئة، وكانت شخوصاً وأجساداً صلبة، ولم تكن شرفاتها المضيئة بالدفء إلا أعيناً واسعة مسكونة بالقلق.

هذه البيوت "المتأنسنة" كما وصفها الفنان المصري مصطفى الرزاز، ما هي إلا ابتكار أصيل لجاذبية سرى حمّلته همومها الشخصية وإحباطاتها التي لا تنفصل عن هموم المجتمع والناس في وطنها. الناس في أعمالها تحولوا إلى مجرد كيانات ممسوخة، والبيوت المتلاصقة المكتظة بالبشر ظلت تنبض بالحياة كأنها تنتظر ساعة الخلاص.

هذه الطريقة التي اتبعتها جاذبية سري في بناء اللوحة ولدت من تلقاء نفسها عشرات التقاطعات الهندسية، ودفعتها فيما بعد إلى اختزال الخطوط المحددة للعناصر، من طريق الاستخدام المكثف لعجائن اللون وجرات السكين بخفة ورشاقة وعفوية محسوبة على مساحة الرسم،

وحتى بعدما انتقلت في فترة الثمانينيات إلى رسم الصحراء بفضاءاتها ورحابتها وخطوطها الأفقية الناعمة والمتقاطعة، كان لهذا الاختيار مغزاه الذي ربما لم يغب عن قريحة الفنانة، بما تمثله الصحراء من خصوصية وانتماء شرقي وعربي.

التعبيرية التجريدية

وفي التسعينيات ما لبثت الفنانة أن تحولت إلى نوع من التعبيرية التجريدية، ففي هذه الفترة اكتسبت ضربات اللون مزيداً من القوة، إذ صارت عريضة ومنهمرة، تتشكل من طريق انهمارها الشكل ويتوالد بعضه من بعض في حيوية، وبدا الخط غنياً بالحركة محملاً بسخونة الرسم السريع وتدفقه، أما اللون فقد أصبح أكثر نصاعة وصراحة معاً، وارتفع التعبير مباشرة وتحولت اللوحة إلى ساحة مفعمة بالحركة، كما اتسعت العيون المحدقة وبدا الأمر عارماً بالتعبير، ساخناً بحيوية الأداء وحاملاً قدراً من النضج والبساطة البليغة.

تتبدى كل تلك المراحل التي خاضتها جاذبية سرى عبر تجربتها الطويلة في أعمالها الأخيرة، فقد بدا واضحاً ذلك الحنين إلى التشخيص، وعادت البيوت بهيئتها المتلاصقة إلى الظهور مرة أخرى، كما برزت التقاطعات والتداخلات اللونية الشفافة القريبة من روح التجريد، غير غافلة في الوقت نفسه عن قيمة الضوء الذي بدا منعكساً على درجات اللون الزاهية والساخنة عبر المساحات الصغيرة التي تتخلل هذه الدرجات اللونية، وهو الأمر الذي أضفى على اللوحات كثيراً من الدفء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في هذه الأعمال سعت الفنانة إلى تأكيد بعض العناصر، وهو ما أكسب الأعمال نوعاً من الحركة بفعل هذا العناق والتلاحم ما بين الخطوط والمساحات اللونية الممتدة على مساحة اللوحة، وغالباً ما كانت تترك الفنانة مجالاً للفراغ ليمثل عنصراً أساساً في التكوين، بل احتل في بعض الأحيان صدارة المشهد، ومزجت ما بين التشخيص والتجريد اللوني، كأنها تختصر تجربتها الطويلة في ثلاثية البيوت والبشر والعيون المحدقة.

الفنانة جاذبية سرى من مواليد عام 1925، وهي من خريجي مدرسة الفنون الجميلة عام 1948، وعملت بالتدريس لسنوات في كلية التربية الفنية والجامعة الأميركية في القاهرة، وأقامت لأعمالها ما يزيد على الـ 70 معرضاً داخل مصر وخارجها.

تم تناول أعمالها بالنقد والدراسة في كثير من الكتب والدراسات المنشورة بلغات مختلفة، كما أفردت الجامعة الأميركية بالقاهرة كتاباً كبيراً عن أعمالها عام 1998، وصُنفت ضمن 10 فنانين من العالم الإسلامي في موقع الفن الإسلامي المعاصر التابع لمتحف متروبوليتان.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة