Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"المريض الإنجليزي" من إبداع "ما بعد الكولونيالية" إلى الملحمة العاطفية

يوم نظم الفيلم لرواية أونداتشي سياقاً عاطفياً بعيداً من الأيديولوجيا

مايكل أونديتشي (غيتي)

عندما ظهر فيلم "المريض الإنجليزي" الذي اقتبسه المخرج السينمائي أنطوني مينغيلا عن واحدة من أشهر روايات الكاتب الكندي من أصل سريلانكي مايكل أوديتشي، بدا واضحاً أن شتى أنواع النجاح ستكون من نصيبه. فالنقاد توجوه واحداً من أبرز الأفلام التي حققت عام 1996، والجمهور تدفق على الصالات لمشاهدته، ما جعله واحداً من الأفلام الأكثر جماهيريةً في شتى أنحاء العالم حينها. كما أن كاتب الرواية لم يتوانَ عن امتداح الفيلم على الرغم من فوارق كثيرة رصدها المراقبون بينه وبين النص الأصلي، وصلت بالنسبة إلى نقاط محددة إلى أن تكون جذرية. وبعد ذلك، أتى تتويج جوائز الأكاديمية الهوليوودية للفيلم بتسع جوائز "أوسكار" من أصل 12 رشح لها، وكذلك معهد الفيلم البريطاني بجوائز "البافتا" الخمس، إشارة إلى أن أهل السينما أنفسهم لم يستقبلوا الفيلم بترحاب يقل عن الاستقبال العام الذي حظي به. غير أن المؤسف أن مخرجه لم يعش بعده ما يكفي من السنوات ليتمتع بكل ذلك المجد الاستثنائي، إذ إنه سرعان ما رحل عن عالمنا بعد أقل من دزينة من السنوات عن عمر يزيد قليلاً على الخمسين.

مأثرة سينمائية

والحقيقة أن مينغيلا حقق بنجاحاته تلك مآثر سينمائية استثنائية، إذ نعرف أن "أوسكارات" عديدة كانت مرت على هوليوود دون أن يكون ثمة فيلم يحوز على ذلك العدد الكبير من الجوائز، اللهم إلا إذا استثنينا ما حصل عليه "تيتانيك" قبل ذلك بسنوات قليلة، ولكن لا شك أن هذا الفيلم الأخير انتصر كظاهرة سينمائية وتجارية أكثر من انتصاره بوصفه عملاً فنياً كبيراً. وطبعاً لسنا نحاول بهذا التفريق أن نقلل من شأن فيلم جيمس كاميرون الاستثنائي عن مأساة الباخرة العملاقة وضحايا غرقها، لكننا نعيد إلى فيلم مينغيلا قيمته كعمل فني يكاد يكون "فيلم مؤلف" جامعاً في بوتقة واحدة بين حلمين سينمائيين كبيرين، غالباً ما داعب كل منهما على طريقته خيال السينمائيين ورغباتهم: حلم "لورنس العرب"، وحلم "السماء الواقية"، الأول بوصفه عملاً تاريخياً ضخماً غلب إنتاجه على إخراجه، وبدا تفوق السيناريو الذي كتبه له روبرت بولت عن كتاب "أعمدة الحكمة السبعة" للمغامر الإنجليزي الأفاق لورانس، أمراً بديهياً. والثاني بوصفه ينتمي إلى كتابة تدنو من الذاتية وتتضافر مع رؤية استشراقية وحس عاطفي. ولعل في مقدورنا هنا أن نسارع إلى القول حتى قبل الحديث عن "المريض الإنجليزي"، كيف أن الصحراء وحلمها الأبدي تجمع بين هذا الأخير والفيلمين المذكورين، كما يجمع بين الثلاثة بعد استشراقي واضح. ولنقل هنا أيضاً إن مينغيلا في "المريض الإنجليزي" بدا أقرب إلى "السماء الواقية" للإيطالي برناردو برتولوتشي، أكثر من قربه إلى "لورانس العرب" لديفيد لين، ناهيك بتشارك الأفلام الثلاثة في النزعة الاستشراقية، وربما إلى حد ما في النزعة المسماة ما بعد الكولونيالية.

دور ما لقنبلتي هيروشيما وناغازاكي

غير أننا لن نتوغل طويلاً في هذا النوع من المقارنات هنا لنكرس المساحة الباقية من المقال لـ"المريض الإنجليزي" روايةً وفيلماً بالنظر إلى أن هذا هو موضوعنا هنا. فمن الناحية الروائية، من الواضح أن أونداتشي الذي يعد عادةً من أبرز كتاب أدب ما بعد الكولونيالية، أبدع هنا عملاً كبيراً عرف كيف يجمع فيه عديداً من العناصر الأساسية التي تسم هذا الأدب. فمن عولمة الشخصيات وإقامة نوع من صدام يتضافر مع نوع من التصالح بينها، إلى رومانسية العلاقات الإنسانية والعاطفية، إلى مزج أمكنة الرواية بين إيطاليا من ناحية، وأفريقيا وآسيا من ناحية ثانية، مروراً باختيار نهايات الحرب العالمية الثانية كنهاية محتملة، أو على الأقل مأمولة للتناحرات القومية. عرف أونداتشي هنا كيف ينسج حبكة تجمع بين الحميمية العاطفية والتاريخ ودلالاته في سياق واحد، وصولاً إلى نهاية لم يكن من الممكن توقعها، حين ينتفض ضابط هندي يعمل مع القوات الحليفة نازعاً للألغام أثناء الحملة على إيطاليا في النهاية، وفي مواجهة حلفائه "الكوزموبوليتيين" لدى سماعه على الراديو أن الأميركيين قد ألقوا قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، ما تسبب في مئات آلاف القتلى والجرحى، فيصرخ قائلاً: "ها هم البيض يفعلونها من جديد ضد الشعوب المستضعفة!".

على هامش الاستشراق

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا الموقف الذي ينتمي صراحةً إلى النزعة الـ"ما بعد كولونيالية"، لن نجده واضحاً في الفيلم. ويقيناً، إن ذلك لم يأتِ عن قصد سيئ من لدن أنطوني مينغيلا، بل بالتوافق التام مع الكاتب الذي اقتنع بأنه لا ينبغي إنهاء الفيلم على موقف أيديولوجي قد يفتحه على سجالات، كانت قد كثرت حين صدرت الرواية قبل الفيلم بأربع سنوات، مفتتحة مأسسة مثيرة للسجال حول أدب شاء كتاب من البلدان المستعمرة سابقاً أن يمسكوا به بأيديهم للتعبير عن مشاعرهم تجاه صور، كانت قد أمعنت في "تشويه صورتهم عقوداً طويلة"، كما قال لهم الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه الشهير "الاستشراق"، فكانت الردود الشاجبة لذلك التعميم، والتي نشرها كتاب عرب أقل حدة من سعيد، أفضل في ردها العقلاني عليه من الردود الأوروبية أو الأميركية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أصل الحكاية

مهما يكن، لا بد من العودة مجدداً إلى سياق الرواية والفيلم اللذين يشتركان في سياق سردي هو نفسه، ولكن مع ابتعاد سيناريو مينغيلا عن اقتصاد رواية أونديتشي في القيام برحلات مكوكية بين الماضي والحاضر. أما الحاضر هنا فهو حكاية ذلك الشخص المحترق الذي نقل إلى مستشفى أقيم في دير إيطالي عند نهايات الحرب العالمية الثانية، تصحبه ممرضة كندية تعتني به عناية حقيقية على الرغم من أنه لا أحد يعرف عنه شيئاً. والوحيد الذي يلاحقه هنا هو لص كندي يدعى كارافاجيو يحاول سبر أغوار الرجل المحروق، والذي ينتهي به الأمر إلى الإقرار بأنه على عكس ما يعتقد الجميع أنه إنجليزي، بسبب إتقانه النطق بالإنجليزية، هو في الحقيقة كونت مجري يدعى لاديسلاوس دي آلماسي. وبالتدريج سوف يروي آلماسي وقد راح يستعيد وعيه وذاكرته، حكايته التي تتضمن هيامه بسيدة متزوجة هي كاترين كليفتون، وتنازله للألمان عن خرائط تمكنهم من التفوق على الإنجليز والوصول إلى القاهرة عابرين ليبيا والصحارى الأفريقية، وأن ذلك التنازل الذي قد يعتبر خيانة وتواطؤاً مع النازيين، إنما كان مقابل تمكينه من إنقاذ حبيبته بعد أن كان زوجها قد انقض عليه في الصحراء بطائرته التي كان يقودها وبرفقته كاترين، فقتل الزوج وأنقذ آلماسي الزوجة، حبيبته، ثم راح يسعى للحصول على نجدة ينقذها بها ما جعله يلتقي بالألمان ويسلمهم الخرائط.

حكاية شبه حقيقية

جوهر الحكاية هذا لن نعرفه إلا في النهاية، وبشكل تدريجي، ما يحول الأمر إلى حكاية عاطفية تكاد تكون ذات صبغة رومانسية تذكرنا بما سرده يول بولز في روايته "السماء الواقية"، التي ذكرنا أعلاه تحويل برتولوتشي لها فيلماً. ومن هنا بدا للجميع أن فيلم مينغيلا أتى أقرب إلى روح رواية أونديتشي، من نص هذا الأخير، ولا سيما حين أبعدها ولو بعض الشيء عن الحس الأيديولوجي، محولاً حتى الضابط الهندي كيب إلى ما كان هو نفسه يتوق إلى أن يكونه في صحبة هانا، الممرضة التي تعنى بآلماسي، ولكنها تجد من الوقت ما يكفيها لغرام تقيمه مع الضابط الهندي الوسيم، الذي سيغادر المكان على دراجته النارية دون أن يفهمنا الفيلم ذريعة ذلك التصرف، فيما ستتابعه الرواية وقد بررت له غضبه، حتى إلى بلده الأصلي، حيث يبني حياته العائلية من جديد ناسياً، كما يبدو تلك "الكوزموبوليتية" التي كان عاشها في الدير الإيطالي. بقي أن نذكر أن أونداتشي قد استقى شخصيات روايته الأساسية من أشخاص كان يعرفهم عن كثب، وبالأخص منهم شخصية عالم الخرائط المحترق، واسمه الحقيقي لازلو آلماسي، الذي تحول في الفيلم إلى لاديسلاوس آلماسي، والذي على الرغم من أننا نشهد في الفيلم على موته الذي يختتم الفيلم، عاش في الحقيقة على الرغم من جراحه المادية والمعنوية، حتى عام 1951، وكان هو كما يبدو من روى حكايته لمن سيرويها لأونداتشي، الذي حولها إلى تلك الرواية البديعة التي تحولت بدورها إلى ذلك الفيلم الرائع.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة